نوّع الإسلام في عباداته: فمنها ما يتمثل في القول، كالدعاء، وذكر الله، والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتعليم الجاهل، وإرشاد الضال، وما يدور في هذا الفلك. ومنها ما يتجلّى في العقل: بدنياً كالصلاة، أو مالياً كالزكاة، أو جامعاً بينهما كالحج والجهاد في سبيل الله. ومنها ما ليس قولاً ولا فعلاً، ولكنه كف وامتناع فقط. وذلك كالصوم، الذي هو امتناع عن الأكل والشرب وغيرها من الممنوعات. وهذا الامتناع والترك إن بدا سلبياً في مظهره، فهو عمل إيجابي في حقيقته وروحه، إذ هو كف النفس عما تشتهيه بنية القربة إلى الله تعالى. فهو بهذا عمل نفسي إرادي له ثقله في ميزان الحقّ والخير والقبول عند الله. النية إذن هي الفيصل في كلّ فعل وترك. وهل الدين إلّا فعل وترك؟ فعل للمأمور به إيجاباً أو استحباباً. وترك للمنهي عنه تحريماً أو كراهة. بل هل الفضائل إلّا فعل لما ينبغي. وترك لما لا ينبغي؟ والصيام عبادة قديمة عرفتها الأديان قبل الإسلام. وإن حرّف الناس في كيفيته وبدّلوا. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183). ولكن صيام الإسلام يمتاز عن كلّ صيام سواه. وقد اختار الله لهذا الصيام في الإسلام شهراً مباركاً كريماً. له في نفوس المسلمين مكان كريم، فهو الشهر الذي نزل فيه أوّل فوج من آيات القرآن العزيز، حملها الروح الأمين إلى قلب الرسول الكريم: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق/ 1). وجدير بشهر اصطفاه الله لينزل فيه أفضل كتبه إلى خيرة خلقه، أن يكون أهلاً ليفرض فيه تلك العبادة السنوية "الصيام". قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة/ 185). لقد فرض الله علينا الصيام في رمضان، وما فرضه إلّا لأسرار عليا. وحكم بالغة، نعرف منها ما نعرف ونجهل منها ما نجهل، ويكشف الزمن عن بعضها ما يكشف، فعلينا أن نتأمل حكمة الله من وراء هذا الجوع والعطش، وأن ندرك سره تعالى في الصوم حتى نؤديه كما أراده الله لا كما اشتهاه الناس. ولن نستطيع أن ندرك سرّ هذا الصوم إلّا إذا أدركنا سرّ هذا الإنسان... فما الإنسان وما حقيقته؟ هل هو الجثة القائمة، وهذا الهيكل المنتصب؟ هل هو هذه المجموعة من الأجهزة والخلايا واللحم والدم والعظم والعصب؟ إن كان الإنسان هو ذلك فما أحقره وما أصغره! نعم.. ليس الإنسان هو ذلك الهيكل المحسوس، إنما هو روح سماوي يسكن هذا الجسم الأرضي. وسر من الملأ الأعلى في غلاف من الطين! ليست حقيقة الإنسان إلّا هذه اللطيفة الربانية، والجوهرة الروحانية التي أودعها الله فيه، بها يعقل ويفكر، وبها يشعر ويتذوق، وبها يدبر مُلك الأرض، ويتطلع إلى ملكوت السماء، وبها أمر الله الملائكة أن تسجد لآدم، لا لما فيه من حمأ مسنون، وطين معجون، (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) (ص/ 71-72).
أولئك الذين وصفهم الله بقوله: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا) (الفرقان/ 43-44). ذلكم هو الإنسان روح وجسد، فلجسده مطالب من جنس عالمه السفلي، وللروح مطالب من جنس عالمها العلوي، فإذا أخضع الإنسان أشواق روحه لمطالب جسده، وحكّم غريزته في عقله، استحال من ملاك رحيم إلى حيوان ذميم، وربما إلى شيطان رجيم. أما إذا عرف الإنسان قيمة نفسه، وأدرك سر الله فيه، وحكّم جانبه السماوي في جانبه الأرضي، وعنى بالراكب قبل المطية، وبالساكن قبل الجدران، وغلّب أشواق الروح على نوازع الجسد. فقد صار ملاكاً أو خيراً من ملاك (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (البينة/ 7). ومن هنا فرض الله الصيام ليتحرر الإنسان من سلطان غرائزه، وينطلق من سجن جسده، ويتغلب على نزعات شهوته، ويتحكم في مظاهر حيوانيته، ويتشبه بالملائكة، فليس عجيباً أن يرتقى روح الصائم ويقترب من الملأ الأعلى، ويقرع أبواب السماء بدعائه فتفتح، ويدعو ربّه فيستجيب له، ويناديه فيقول: لبيك عبدي لبيك، وفي هذا المعنى يقول النبيّ (ص): "ثلاثة لا تُرد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم...". وإذا كان في الصيام فرصة أي فرصة لتقوية الروح، ففيه فرصة أي فرصة لتقوية البدن، فإنّ كثيراً ما يصيب الناس من أمراض إنما هو ناشىء من بطونهم التي يتخمونها بكلّ ما تشتهي غير مفرقين بين ما ينبغي وقد قال (ص): "ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه. بحسب ابن آدم أكيلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه". وإذا كانت البطن مستنقع البلايا، وكانت المعدة بيت الداء، فإنّ الحمية – أي الامتناع عن الأكل – رأس الدواء. وليس كالصوم فرصة تستريح فيها المعدة، ويتخلص الجسم من كثير من فضلاته الضارة، وقد نشرت إحدى المجلات أنّ ثلاثمائة قد برئوا من البول السكري بعلاج الصوم. وصدق رسول الله (ص) حين قال: "صوموا تصحوا". وفي الصوم قبل ذلك وبعده تمام التسليم لله وكمال العبودية لربّ الناس ملك الناس إله الناس. وهذه الحكمة هي القدر المشترك في كلّ عبادة، والهدف الأسمى من كلّ فريضة، ولن تكون العبادة عبادة، ولا العبد عبداً إلّا بها: يقول ربّ العباد: "أمرت ونهيت"، ويقول العباد: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة/ 285). وما أظهر هذا التسليم والعبودية في الصوم خاصة، فالصائم يجوع ويعطش وأسباب الغذاء والري أمامه ميسرة لولا حب الله والرغبة في رضاه، وإيثار ما عنده. ولهذا نسب الله الصيام إلى حضرته وتولّى جزاء الصائمين بنفسه فقال: "كلّ عمل ابن آدم له إلّا الصيام فإنّه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه من أجلى، ويدع شرابه من أجلى، ويدع لذته من أجلى، ويدع زوجته من أجلى". ذلكم هو الصوم في الإسلام، لم يشرعه الله تعذيباً للبشر ولا انتقاماً، كيف وقد ختم آية الصوم بقوله: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة/ 185)، وإنما شرعه الله إيقاظاً للروح وتصحيحاً للجسد، وتقوية للإرادة، وتعويداً على الصبر، وتعريفاً بالنعمة، وتربية لمشاعر الرحمة، وتدريباً على كمال التسليم لله ربّ العالمين.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق