• ١٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الكلمة الطيبة في بُعدها الإنساني

عمار كاظم

الكلمة الطيبة في بُعدها الإنساني

أكّد الإسلام على أهمية الكلمة ورسمَ لها المسار المستقيم الواضح والهدف النافع الصالح، لتكون أداة بناء في دنيا الحضارة. وإذا كان القرآن يقرِّر: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى) (البقرة/ 263). وأنّ الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤكّد أنّ: «الكلمة الطيِّبة صدقة»، فما ذاك إلّا لإعطاء الكلمة دوراً حضارياً شامخاً لا في مجال الأدب والفلسفة والفن والتاريخ والسياسة والاقتصاد ونحوها فحسب، بل وفي مجال التعاون الإنساني والعلاقات الاجتماعية والسلوكية.

الكلمةُ هي الأداة والواسطة التي يتعامل من خلالها الناس ويتفاهمون، فهي أداة نقل الأفكار إلى الآخرين وما يريده الإنسان منهم، لذا كانت الكلمة هي الوسيط في التفاعل الاجتماعي، وبناء الثقافة والحضارة والمعرفة، ومعظم العلاقات بين الناس. والإنسان يُعبِّر بالكلمة عن موقفه تجاه القضايا والأشياء والناس والآخرين، لذا كانت الكلمة أداة هدم وبناء. والإنسانُ يتعامل مع الآخر ويفهمه ويُقيِّمه من خلال ما يسمع منه من كلمة، بل ويعتبر الكلمة مُعبِّرة عن الذات وكاشفة عن محتواها، وما أجمل قول الإمام عليّ (عليه السلام): «تكلّموا تُعرفوا». فالذي يطلق الكلمة الطيِّبة التي تشيع الخير والمعروف، وتؤلِّف القلوب، وتصلح بين الناس وتنشر العلم والمحبة والاحترام والسلام، إنّما يُعبِّر عن إرادته، ومحتوى ذاته. فكم من نفس مليئة بالحزن والخوف والألم، وكم من نفس مليئة باليأس والإحباط، فتأتي الكلمة الطيِّبة دواءً وعلاجاً لهذه النفوس ونفحة حبّ وسلام، تزرع فيها الشعور بالاحترام والثقة والمحبة والأمل، وتفتح أمامها أُفقاً مُضيئاً، وتُنسي ما كان مؤلماً، لاسيما إذا صدرت من أُناس يتمتعون بالمكانة الاجتماعية، والقدرة على التأثير، أو يحظون بالاحترام، كالآباء والمعلمين والأزواج والمسؤولين ووجهاء المجتمع... إلخ. إنّ الكلمة الطيِّبة تبني الدولة والأُسرة والمجتمع المتحاب والمتفاهم والمتعاون الذي يحل مشاكله بالكلمة والحوار والتفاهم.

شبّه القرآن الكلمة الطيِّبة بالشجرة الطيِّبة، تُؤتي ثمارها ونتائجها وأثارها الإنسانية والعملية في الحياة الدنيا، عطاءً متواصلاً غير منقطع. فالكلمة وفق منهج القرآن ليست لفظاً عشوائياً يُصنع، ولا نطقاً عدوانياً يُطلق، ولا تضليلاً أو إغراء بالباطل، فينتج الضلال والانحراف والشر، أو يثير الألم والجراح في النفوس، أو يزرع اليأس والكراهية، أو يستفز الآخر. ومَن يستخدم الكلمة هذا الاستخدام الأخلاقي السيّئ إنّما مَثله كمَثل مَن يزرع شجرة خبيثة، لا تنتج إلّا الثمرة المرة الخبيثة. والقرآن في تصويره الفنّي الرائع هذا يرسم أمامنا صورتين لنوعين من الكلمة، مجسدتين بمثال حي: الشجرة الطيِّبة، التي تمتد من ثبات الأرض حتى تعانق السماء، لسمو معانيها وتواصل عطائها، وقُربها من ربّها، فهي نامية معطاء في الدنيا والآخرة.

قال سبحانه وتعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ* وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ) (إبراهيم/ 24-25-26). ويتحدّث القرآن في موضع آخر عن أخلاقية الكلمة، وكيفية مخاطبة الأخر، جاء هذا البيان في قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ) (البقرة/ 83)، ويقول تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا). يفسّر الإمام الباقر (عليه السلام) هذا المقطع الداعي إلى أخلاقية الكلمة، ويوضح إنّ معناه: "قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم، فإنّ الله يبغض اللعان السباب الطعان على المؤمنين، الفاحش المتفحش، السائل الملحف، ويحبّ الحليم العفيف المتعفف". ثم أوضح الإمام الباقر (عليه السلام) البُعد الانساني في هذا الخطاب، أوضح بأنّ دلالة هذه الأية عامّة، فالقول الحسن يخاطب به الجميع، المسلم وغير المسلم. وعن طريق الكلمة والقول الحسن الجميل تُبنى جسور العلاقة النفسية والعاطفية والفكرية، جسور المحبّة والرضا والاحترام المتبادل مع الآخر، فلا نخاطبه ولا يخاطبنا إلّا بالقول الحسن الجميل. فإنّ الكلمة الحسنة الجميلة تترك أثرها الحسن الجميل في النفس، لذلك اعتبرها الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) صدقة لحاجة الناس إليها كحاجة الفقير إلى العون المادّي، حين قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «الكلمةُ الطيِّبةُ صدقةٌ».

أمّا الكلمة البذيئة الفاحشة، الكلمة الجافة الجارحة المنفرة، تترك أثرها السيئ في النفس، وربما تركت جُرحاً لا يندمل، أو وضعت حواجز نفسية يصعب إزالتها، أو تسببت بمشاكل وأزمات، أو كانت سبباً في منع الإصلاح بين الناس. إنّ أوّل ما يجب أن نُربي عليه أبناءنا في البيت والمدرسة والمجتمع هو الصِّدق، واستعمال الكلمة الطيبة، وكلمة الشكر والاحترام، وأن نُبعدهم عن كلّ ما يلجئهم إلى الكذب، ونجنّبهم الأجواء الملوّثة بسموم الكلمة الفاحشة البذيئة، لاسيما أصدقاء السوء والتخلّف.

ارسال التعليق

Top