بعد أن أجلى الرسول - صلّى الله عليه وآله وسلم - يهود بني النضير عن المدينة، قرر زعماؤهم إجراء أعمال عدائيّة ضدّ المسلمين، وذلك بالتآمر عليهم، فقدموا مكّة ليحرّضوا قريشاً على حرب المسلمين، بقولهم: إنَّا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فلقد جئنا لنحالفكم على عداوة محمّد وقتاله، إنّ محمّداً قد وتركم ووترنا وأجلانا عن المدينة من ديارنا وأموالنا. كما أنّهم استخدموا أسلوبهم الملتوي، حتى يؤثروا في قريش ويجذبونهم لجانبهم، فأقرّوا لهم بأنّ ما عليه المشركون خيرٌ من دين محمّد، بالرغم من أنّهم موحّدون وقريش كفّار يعبدون الأصنام. وبذا، فإنّهم شكّلوا اتحاداً ـ العرب واليهود ـ كما شاركتهم أحزاب أُخرى، من بعض القبائل العربية في شبه الجزيرة العربية، وهي غطفان في نجد، وبنو سليم وبنو أسد وغيرها، ولذا سُميت بمعركة الأحزاب، أو معركة الخندق، لما قام به المسلمون من حفر خندق حول المدينة للدفاع عنها.
في معركة الخندق.. صمد المسلمون وأبلوا بلاءً حسناً، بإيمانهم ثمّ بأخوّتهم الفذة، صمدوا أمام التحدّيات الداخلية والخارجية وجاهدوا أفضل الجهاد. فبدؤوا بحفر الخندق حول المدينة باتّجاه العدو، وخرج النبيّ - صلّى الله عليه وآله وسلم - مع المسلمين ليشاركهم في حفر هذا الخندق وتقسيم العمل بينهم، وكان يحثّهم ويقول: «لا عيش إلّا عيش الآخرة، فاغفر للمهاجرين الأنصار». وهکذا واجه المسلمين أكبر التحدّيات في معركة الخندق، وكانت أكبر عدة لهم - بعد الله ثمّ إيمانهم الراسخ - هي إخوّتهم، ووحدة صفهم، وتماسكهم، فلقد ذاب كلّ واحد منهم في المجموع فتشكّلت قوّة واحدة منهم يصعب اختراقها بل كان النصر حليفها.
لقد أراد الله سبحانه وتعالى من خلال هذه المعركة، أن يذكِّر المؤمنين بحقيقتين لا ينبغي أن تغيب عن بالهم؛ الحقيقة الأولى، هي أنّ الجنّة التي وعدهم الله بها ويسعون إليها، لن يكون الطريق إليها معبَّداً ومفروشاً بالرياحين، بل هو مليء بالأشواك، ويحتاج بلوغه إلى صبرٍ وتحمّلٍ ومُعاناة، فقد ورد في الحديث: «الجنّة محفوفة بالمكاره والصبر، فمَن صبر على المكاره في الدنيا، دخل الجنّة». وقد ورد في الحديث: «ومَن سأل الله الجنّة ولم يصبر على الشدائد؛ فقد استهزأ بنفسه». وقد قال الإمام عليّ (عليه السلام) للذين كانوا يعتقدون أنّه بقليلٍ من العمل، وبدون تعب وجهد وتحمّل المُعاناة، يستطيعون نيل الجنّة وبلوغها: «أبهذا تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه، وتكونوا أعزّ أوليائه عنده؟ هيهات! لا يخدع الله عن جنّته، ولا تنال مرضاته إلّا بطاعته».
أمّا الحقيقة الثانية، فهي أنّ أيّ نصر وعد الله به المؤمنين، لن يتحقّق إلّا بعد أن يخضعهم الله سبحانه لامتحان واختبار شديدين، يظهرون فيه صبرهم وثباتهم وإيمانهم، والذي أشار إليه الله بقوله: (مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) (البقرة/ 214). إذاً سُنّة الابتلاء والامتحان هي سُنّة من سنن الله التي جرت في التاريخ وتجري في الحاضر، وهي التي أشار إليها الله سبحانه عندما قال: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت/ 1-3). فالله سبحانه لن يكتفي من العبد أن يعلن إيمانه، أو أن يمارس طقوس هذا الإيمان وعباداته، بل هو عرضة لامتحانات بها تظهر حقيقة هذا الإيمان عنده، وعلى أساسها، يتمّيز الصادق في إيمانه من الكاذب، والجادّ من غير الجادّ، والطيِّب من الخبيث.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق