هذا شهر رمضان أقبل علينا وهو شهر الله. وقد دعانا الله إلى ضيافته، أنفاسنا فيه تسبيح ونومنا فيه عبادة ودعاؤنا فيه مستجاب وعملنا فيه مقبول وها هو يقارب على الرحيل في أيامه الأخيرة، فلنطهّر قلوبنا ولنصفّي عقولنا ولنقرأ كتاب ربّنا حتى نكون دائماً الضيوف الذين يأكلون من كلّ هذه المائدة الروحية اللذيذة.. شهر رمضان هو الشهر الذي أراد الله أن يكون منفتحاً على السنة كلها تخطط فيه لسنتك كيف تتقرّب إلى ربّك وكيف تؤكد إرادتك وكيف تنهي نفسك عن الفحشاء وعن المنكر وكيف تفرح الفرح الروحي الذي ينتظرك في نهايته وتأتي كلمة الإمام عليّ (عليه السلام) ليختصر لنا معنى العيد في حياتنا: «إنّما هو عيد لمن قبل الله صيامه وشكر قيامه، وكلّ يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد»، فكأن عليّاً (عليه السلام) يقول لنا لماذا لا تجعلون أيامكم كلّها أعياداً، فطاعة الله هي العيد الذي لابدّ أن تحتفل به، فلماذا لا تعيش هذا الفرح الروحي في كلّ حياتك وليس من الضروري أن يكون عيد فطر ولكن أن يكون عيد الطاعة إلى الله والقرب منه والمسير في طريقه.. إنّ الساحة جاهزة والربّ يفيض علينا من رحمته وعلى كلّ منّا أن يعرف كيف يغترف من هذا النبع الصافي السلسبيل، ويبقى النداء: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (التوبة/ 105).
إذاً، (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ) (الزّمر/ 10). فجزاء التقوى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى) (آل عمران/ 195)، ستنالون الجزاء الأوفى من الله إذا سرتم في خطِّ التقوى التي تفرض عليكم أن تقفوا موقفاً أو تعملوا عملاً فيه رضىً لله، أو تبنوا علاقة يحبُّها الله، أو رفضتم حالة أو علاقة يريدكم الله أن ترفضوها وتبتعدوا عنها، أو عملاً تتركونه، لأنّ الله يأمركم بتركه، وسيعطيكم الله حسنةً على ذلك، (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا) (الزّمر/ 10). فإذا فعلتم ما يريده الله تعالى، فإنّ ذلك يشكِّل الإحسانَ لأنفسكم وللحياة من حولكم، لأنّكم إذا عشتم الضوابطَ الشرعية التي نظّم الله الحياة على أساسها، فإنّ هذه الحياة تعيش في توازن وخير وبركة. وهذه الفقرة من الآية (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ) تلتقي بالآية الكريمة (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) (الزلزلة/ 7)، وتلتقي كذلك مع الآية المباركة (وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى* وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى) (النجم/ 39-41)، مفهومٌ قرآنيٌّ واحدٌ بعباراتٍ متعدّدة. وهذه التقوى تفرض على الإنسان إذا ما صدّه الناس عن طاعة الله، أن يبتعد إلى مكانٍ آخر ليحفظ دينه (وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ) (الزّمر/ 10)، إذا لم تستطع أن تعبد الله في مكان فانتقل إلى مكان تستطيع أن تعبد الله فيه، وإذا حاصرك الناس في موقع، فهناك ألف موقع تستطيع أن تطيع الله فيه، لذلك، لست معذوراً أن تبقى في مكان تُضطر فيه أن تعصي اللهَ وتترك طاعته سبحانه، وإلّا كنت مثل أولئك (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ) (النساء/ 97)، ظلموا أنفسهم بالكفر الذي فرضه عليهم الأقوياء (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا* إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا* فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) (النساء/ 97-99).
ومن الذين رفضوا الرضوخ للأقوياء الذين عملوا على تطويقهم ومحاصرتهم وإجبارهم على المعصية والكفر، أولئك الذين فرّوا بدينهم (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (النساء/ 100). إنّ الله لم يضيّق عليك كلّ الساحات، فإذا استطعت أن تتحرّر من الضغط الذي يَفرُضُ عليك معصية الله ويمنعك من طاعة الله، وتقدر على أن تنتقل من أرض، إلى أرض، فلا يجوز لك أن تقيم في مكان تُفرَضُ عليك فيه المعصية، أو تهاجر إلى أرض يَضعُفُ فيها دينُك (وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ). من هنا، علينا أن نعرف أنّ التقوى تكلّفنا شيئاً من مزاجنا ومَالِنا وجهدنا ومصالحنا، قد تُضطرّنا التقوى أن نترك المال الحرام ونحن أحوج الناس إليه، وقد تفرض علينا التقوى أن نرفض الجاه الحرام وهو بين أيدينا، والشهوة الحرام وأنفسنا تهوى إليها، أو نترك أرضاً ونحن بحاجة للعيش فيها.. هناك آلامٌ في هذا الطريق يجب أن نتحمّلها، لأنّ الإصرار على حقِّ الإيمان يُلزمنا بذلك.
عاش هذا الشهر في حياتنا كأفضل ما يعيشه زمن مبارك في ما يمنحه من البركة لكلّ الناس الذين يعيشون فيه من خلال الفرص التي يوفرها لهم في طاعة الله والحصول على مغفرته ورضوانه، ومن خلال الأجواء الروحية التي يثيرها في أجواء الناس الذين يتحركون فيه.. وعشنا معه في حمد وخير وسرور، وحصلنا على أفضل الأرباح على مستوى النتائج الدنيوية والآخروية على أساس ما حصلنا عليه من عمق في الروح، وسمو فى الأخلاق، واستقامة في الخطى، وامتداد في الالتزام بأوامر الله ونواهيه، وصوم عن كلّ ما يفسد الروح ويسىء إلى طهارة الإنسان في نياته وأقواله وأفعاله.
ثم مضى وفارقنا، كمرحلة زمنية من أفضل مراحلنا، كما يمضي الزمن في النظام الكوني الذي يطوي الحياة في حدودها المعينة.. وكانت لنا معه صحبة وعلاقة ومحبة وصداقة وحرمة وحقّ، تماماً كما لو كان كائناً حياً يفتح معنا أفضل العلاقات، وتبقى لنا - بعد فراقه - أفضل الذكريات، لنودعه بأعذب الكلمات، وأحر المشاعر، ليكون التفاعل بيننا وبين شهر الله هذا في المستوى الذي ينطلق فيه من الله ليتصل بكلّ شيء ينتسب إليه ويرتبط به، أكان زماناً أم مكاناً أم إنساناً أم كتاباً من كتب الله أم شرعةً من شرائعه أم خطاً من خطوطه التي أراد لعباده أن يسيروا فيها.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق