• ٢٥ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الحسين (ع) في معترك الصراع

الحسين (ع) في معترك الصراع
◄"حسينٌ منِّي وأنا من حسين، أحبّ الله مَن أحبّ حسيناً، حسينٌ سِبطٌ من الأسباط".   الولادة المباركة: (حسينٌ منّي) أمرٌ جليّ، فهو حفيد الرسول (ص) وسبطه وريحانته، وقد ولد في بيت النبوة ومهبط الوحي سنة أربع للهجرة، في الثالث من شعبان المعظم على الأشهر في المدينة المنورة، من أبوين كريمين معصومين: هما علي بن أبي طالب ابن عم الرسول ووصيّه، وفاطمة الزهراء بنت الرسول وبضعته. وقد حدّثت صفية بنت عبدالمطلب عن طهارة الولادة المباركة هذه وتوقع النبي وفرحه بها، إذ قالت: "لما سقط الحسين من فاطمة كنت بين يديها، فقال النبيّ (ص) هلمي إليّ بابني، فقلت يا رسول الله أنا أنظّفه بعدُ فقال: أأنت تنظّفيه!؟ إنّ الله قد نظّفه وطهّره. وروي أن رسول الله قام إليه وأخذه، فكان يسبّح ويهلّل ويمجد". لقد أرضع الأخلاق المحمدية، وربّي على الشمائل العلوية، إذ كان رسول الله (ص) يحدب عليه ويُعنى به عناية خاصة، ويمنحه من حنانه ومحبته ووقته الشيء الكثير، وقد أفاضت بهذا المصادر التاريخية وكتب السير والمظان، بما لا يمكن الاستشهاد به في هذه العجالة، حتى روى الرواة عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال عن الحسين (ع): "كان يأتي النبي فيضع إيهامه في فمه فيمتصّ منه ما يكفيه اليومين والثلاثة" فيرتشف من رحيق الرسالة، وينمو لحمه وعظمه على غذاء الإسلام، ورواء الدوحة الهاشمية "فكان النبي إذا رأى الحسين مقبلاً قبّله وضمّه إلى صدره ورشف ثناياه وقال: فديت من فديته بابني إبراهيم". وهكذا عاش الإمام الحسين (ع) في كنف الوحي ست سنوات خضر مورقات يانعات، حتى وفاة جدّه الرسول الأعظم سنة عشر للهجرة في المدينة المنورة. أمّا (أنا من حسين)؟! فهذا ما تكفّلت بجوابه ضمناً هذه المقالة المتواضعة من خلال استجلاء البُعد الرسالي الممتد عن طريق نهضة الإمام الحسين وثورته في سبيل إصلاح دين جدّه، إذ قال (ع) مبيّناً دواعي قيامه: "إنّي لم أخرج أشِرا، ولا بطراً، ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ". ولولا ثورة الحسين هذه ونهضته الاصلاحية الواعية لحرّف الخط الرسالي، وزيّف الدين الإسلامي، وطمست معالم الشريعة المحمدية الغرّاء، ولظنّ الناس أنّ ولاة الأمر الظالمين الغاصبين الذين يتسلطون على رقاب المسلمين نتيجة لظروف معيّنة، هم الممثلون الواقعيّون لهذا الدين، ولضاعت الحقائق، وانقلبت الموازين.   الفتوة الصاعدة: بعد وفاة جدّه الرسول الأعظم (ص) توجهت عناية أبيه الإمام عليّ بن أبي طالب إليه أكثر من ذي قبل، وراح يرعى فتوّته – وهو الفتى – وشبابه الصاعد كرعايته الحميدة لأخيه الأكبر الإمام الحسن (ع). ويعدّ كلاً منهما إعداداً خاصاً للقيام بدوره الإمامي المرسوم له – وذلك عن طريق المواعظ الحسنة والوصايا الحميدة التي تزخر بها المظانّ من المصادر و"نهج البلاغة"، إذ كان يرفع لهما كل يوم عَلَماً من أخلاقه وفعاله، وكان يصنع لهما ما كان يصنعه الرسول الكريم له، حتى كأن فتوة الإمام الحسين (ع) كفتوة أبيه مضاءاً وصلابة في ذات الله لا تأخذه في الله لومة لائم، إذ تروي لنا المصادر المعتبرة مواقفه البطولية، ونقداته البناءة منذ نعومة أظفاره، وقد "عاش مع أبيه عليّ أمير المؤمنين يتلقّى تعاليمه وينهج نهجه، وحضر معه حروبه؛ في الجمل وصفّين والنهروان"، وكان يصدع بالحقّ وكأنّه يفرغ عن لسان أبيه، "فقد كان لمعاوية بالمرصاد، وحاسب ولاته أشد الحساب، ولم يستطع معاوية بدهائه وتصنّعه في حلمه ومخاتلته في سياسته أن يجلب ودّ الحسين ويكسبه إلى جنبه أو يهدّئ ثورته وغضبه". وكان الإمام الحسين (ع) يعي دوره المنتظر لتسلّم أعباء الامامة وثقل الأمانة بعد أخيه الإمام الحسن (ع)، المأمور بالصبر والاحتساب في جنب الله، وياله من امتحان عجيب!! ومسؤولية ضخمة ألقيت على عاتقه بعد استشهاد أبيه أمير المؤمنين سنة 40 للهجرة – بعد تلك المحن والحروب – في مسجد الكوفة والصلاة بين شفتيه، تلك المسؤولية التي عرّضت شخصيته المقدسة للاستشهاد فداءً لأهداف الرسالة الإسلامية الغالية – وكان ذلك الصلح المفروض عليه مع معاوية استشهاداً من نوع خاصّ يقدمه لأمّة جدّه، ونظرة بعيدة للمستقبل، وبذرة ثوريّة صامتة تمهّد لأسباب الثورة الحسينية الهادرة، بعد كشف الزيف الأموي المتلبّس بالنفاق والرياء، وبعد تساقط الأقنعة المموّهة ليبرز تحتها الوجه الظالم الطاغي، ويظهر على حقيقته البشعة للعيان، "فإن معاوية بعد أن تم له السلطان على البلاد الإسلامية في عام الجماعة عالن الناس بطبيعة الحكم الجديد في كلمته التالية: يا أهل الكوفة، أترونني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج؟ وقد علمت أنكم تصلّون وتزكّون وتحجّون، ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وألي رقابكم، وقد أتاني الله ذلك وأنتم كارهون، ألا إن كل دم أصيب في هذه مطلول، وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين". فلم يعد الأمر ملتبساً لكل ذي مسكة عقل بأنّ هؤلاء الأدعياء الطلقاء من بني أمية قد تلبّسوا برداء الخلافة والإمارة زوراً وبهتاناً، وقد كانت سياسة معاوية "تقوم على المبادئ التالية: 1-    الارهاب والتجويع. 2-    إحياء النزعة القبلية واستغلالها. 3-    التحذير باسم الدين وشلّ الروح الثورية".   الإعداد القيادي: لقد رأى الإمام الحسين (ع) تخاذل بعض الأنصار عن أبيه بالأمس حين قامت الحرب بينه وبين (أهل الجمل) في البصرة، "كما رأى كيف لعبت يد التمويه والدجل في عقول الناس، وكيف عاثت الفتنة في المجتمع الإسلامي في بداية عهده الأوّل، وكان هو (ع) أحد القادة ومن باشر الحرب يوم الجمل، وحضر معركة صفين واشترك فيها وتولّى قيادة بعض القطعات، وأدرك كيف امتدّت لجيش أبيه المتماسك أيدٍ عابثة تثير غبار التشكيك وتوقد نار الفتنة باسم الاصلاح والمطالبة بالحق أو المحاكمة للقرآن". كما عاش الإمام الحسين مع أخيه الإمام الحسن – عليهما السلام – بوعي عميق ملؤه الاحترام والتقديس لدور أخيه الذي لا يقدّر مثلَه إلّا مثلُه، ولا يفهم مغزى صلحه إلّا شخصه، إذ لكل إمام دور معيّن يقوم به حسب متطلبات الحياة المعاصرة والظروف المحيطة به وحسب ما رسم له، لذلك كان الإمام الحسين لا يخالف للإمام الحسن رأياً "ولا يقطع دون أمراً ولا يتقدّم عليه" حتى تسلّمه زمام القيادة ومسؤولية الإمامة.   ما قبل الثورة: وتتهاوى أقنعة الزيف، وتظهر روح التسلط الأموي على رقاب المسلمين، ويعهد معاوية لابنه يزيد الفجور بالخلافة، وكأنّها (ملك عضوض). ويتسلّم الشاب الغرير مقاليد الحكم في الشام، وهو على ما عليه من شخصية مائعة مهزوزة طائشة، وصفها الإمام الحسين (ع) في أحد كتبه لمعاوية حين علم بالميثاق قائلاً: "... وفهمت ما ذكرت عن يزيد من اكتماله وسياسته لأُمّة محمّد!! تريد أن توهم الناس في يزيد كأنّك تصف محجوباً أو تنعت غائباً، أو تخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاصّ، وقد دلّ يزيد من نفسه على موضع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ فيه من استقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش، والحمام السُبَّقِ لأترابهنّ، والقيان ذوات المعارف! وضرب الملاهي، تجده باصراً، ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى الله من وزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه، فوالله ما برحت تقدح باطلاً في جور، وحنقاً في ظلم، حتى ملأت الأسقية، وما بينك وبين الموت إلّا غمضة...". وتسير الأمور في صالح أجواء الثورة الحسينية. وتنكشف الحقائق للعيان أكثر فأكثر، ويعيث يزيد في الأرض فساداً، ويأمر جنوده وجلاوزته بإباحة مدينة الرسول، وهتك أعراض ساكنيها، ونهب أموالهم. كما يأمرهم في سنة أخرى بهدم الكعبة، قبلة المسلمين في صلاتهم، ومؤتمرهم في حجّهم العبادي والسياسي، ويشتدّ ضغطه على العناصر الإسلامية القيادية في الأُمّة، لكي تذعن لحكمه الظالم وتبايع لسلطانه الغاشم. وهنا يرى الإمام الحسين الوقت المناسب لتفجير الثورة في وجه الطغاة الأدعياء الطلقاء، بعد تهيّؤ الظروف العامة والخاصّة لها، فَيُخلّ إحرامه من حجّه المستحب، ويتوجّه بمن معه من أهل بيته وأنصاره نساءً ورجالاً، شيوخاً وأطلافاً، نحو أرض المعركة وجبهة الحقّ ضدّ الباطل، وتستمر المسيرة أياماً معدودات حتى يصل الثائرون كربلاء الشهادة وعاشوراء الفداء. كربلاء الأمس: أمضى الثائرون لياليهم وأيامهم يقرأون القرآن، ويسبحون الله ويذكرونه قياماً وقعوداً، وعلى جنوبهم (ولهم دويٌّ كدويّ النحل) فَرِحين بما آتاهم الله من استشراف الشهادة، مستبشرين بما وعدهم من الدرجات الرفيعة في الدنيا والآخرة، متسابقين إلى التضحيات، يُفدي بعضهم بعضاً، مقدّمين القرابين زُرافات ووحدانا، حتى انتهى المطاف إلى سيدهم الإمام الحسين ليقف على منعطف التاريخ ويعلن بصوته الهادر التائر في مسمع الأجيال: "ولا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ إقرار العبيد، ألا وإنّ الدعيّ بن الدعيّ قد ركّز بين اثنتين بين السِلّة والذِّلّة، وهيهات منّا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدودٌ طابت، وحجورٌ طهرت، وأُنوفٌ حميّة، ونفوسٌ أبيّة! لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام". وإلى ما هنالك من المواعظ البليغة والأقوال السائرة، التي خلدت كالدر اللامعة في قلائد جيد الدهر، ومن أشهرها خطابه في ذلك اليوم: "ألا ترونَ إلى الحقّ لا يُعمل به والى الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله، فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة والحياة مع الظالمين إلّا برما"، وكان يتمثل بقول أخ الأوس لابن عمّه – ولقيه وهو يريد نصرة رسول الله (ص):   "سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتى *** إذا ما نوى خيراً وجاهدَ مُسلما وواسى رِجالاً صالحينَ بنفسه *** وخالف مثبوراً وفارقَ مُجرما فإن عِشتُ لم أندم وإن متُّ لم ألم *** كفى بكَ ذُلاً أن تعيش وترغما"   ويتقدم الحسين (ع) ويكتب بدمائه الزكيّة ودماء أصحابه أروع سطور النصر والغلبة: "غلبة الدم على السيف":   إنّ كانَ دينُ مُحمدٍ لم يستقم *** إلّا بقتلي يا سيوف خذيني  

وتأخذه السيوف، كما أخذت أصحابه، ليكون رمزاً للثائرين في كل العصور والأجيال، ويخلد أباً للشهداء والأحرار:

                          كذبَ الموتُ فالحسينُ مخلّدْ *** كلّما أخلقَ الزمانُ تجدّدْ

وهكذا يعيش الإمام الحسين (ع) رمزاً خالداً في كل معركة يحتدم فيها الحقّ ضد الباطل ويثور فيها المؤمنون المستضعفون على الطغاة المستكبرين، ويتجدد نداء كربلاء الدم في كل أرض، ويتجدد عاشوراء الفداء في كل يوم، ويتجلّى شعار: (كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء).►   المصدر: مجلة التوحيد/ العدد الثلاثون/ محرم، صفر 1408هـ

ارسال التعليق

Top