القانون الكامل أو التشريع الناجح هو الذي يأخذ بعين الاعتبار الظروف الذاتية للمنفذين للقرار والظروف الموضوعية الخارجية المحيطة بهم وهذا ما نلاحظه في شريعتنا الإسلامية بوضوح في عموم الأوامر والنواهي فنلاحظ في التكاليف الشرعية هنالك المرونة في التطبيق هذه المرونة التي نعبر عنها بالرخصة تأتي ملاصقة بالصرامة الشرعية والتي نعبر عنها بالعزيمة مثلاً نقرأ في الكتاب العزيز قوله تعالى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة/ 173)، فالضرورات تبيح المحظورات والضرورات تقدّر بقدرها فصحيح إنّ القانون الإسلامي يحرّم أكل الميتة ولكن حينما يهدد الإنسان بالموت أثر الجوع والحرمان فيرتفع هذا المحظور ويتحول القرار من الحرمة إلى الإباحة وفي حالة الضرورة القصوى يتحول إلى وجوب تناول الميتة لحفظ حياة الإنسان...
وهذه ميزة فريدة يمتاز بها التشريع الإسلامي فالشارع المقدس يعرف مواقع الضعف عند الإنسان ذاتياً وخارجياً أي يعرف الظروف الذاتية للإنسان والظروف الموضوعية المحيطة به فينظر إليهما نظرة دقيقة ويحسب لهما الحساب المطلوب فتأتي المرونة في القانون جنباً لجنب مع الصرامة والشدة وبمعنى آخر نلاحظ إنّ القانون الإسلامي بقدر ما هو جاد وحازم بالأوامر والنواهي هو أيضاً يمتاز بالنظرة الشمولية لجوانب الضعف الإنساني فيتحول القرار الشرعي إلى ما يناسب الضعف هذا وكيف لا يعلم الله سبحانه جوانب ضعفنا وهو الذي خلقنا وأودع فينا العقل والنفس الأمارة بالسوء وخلق أبداننا وعلم ما يحتاجه البدن حين المرض فمثلاً يقرر الشارع المقدس أن تكون الصلاة اليومية واجبة وإن تؤتى بالطهارة المائية وضوء أو غسلاً حسب الحاجة وأن يقف الإنسان أمام الكعبة – بيت الله الحرام – ويؤدي هذه الصلاة المباركة التي أولها التكبيرة وآخرها التسليم ضمن شرائط وواجبات الصلاة في الحالة الطبيعية للإنسان فلو طرأت على الإنسان حالات الضعف يتخفف الواجب الشرعي من الطهارة المائية إلى الطهارة الترابية ومن الوقوف في الصلاة إلى الجلوس ومن الجلوس إلى الاستلقاء وحتى عندنا في الفقه صلاة الغرق والخوف وهكذا فالمرض الذي يهدّ قوى الإنسان البدنية يمنعه من أداء فريضة الصيام.
والمرأة أيضاً في حالة العذر الشرعي تسقط عنها فريضة الصلاة وتقضي الصيام.
والله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، المهم الإسلام يتابعنا في كلّ ظروفنا الاعتيادية والطارئة ويضع القانون المناسب قدر الحاجة المرحلية فإذن القانون الشرعي الإسلامي يمتاز بالصرامة والمرونة معاً مراعاةً لحالات الضعف لدى الإنسان وهذا الأمر من ألطاف الله عزّ وجلّ.
وعودة إلى الآية الكريمة التي ابتدأنا حديثنا الثالث بها: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة/ 175)، سمي شهراً لاشتهاره وظهوره بالهلال وهو الزمن المحصور بين الهلالين ورمضان من الرمض في مكة المكان الذي استشهدت سمي – أم عمار بن ياسر – فيه وإنما سموا هذا الشهر برمضان – كما جاء في مجمع البيان – لأنهم سموا الشهور بالأزمنة التي وقعت فيها فوافق رمضان أيام رمض الحر وقيل سمي رمضان لأنّه يرمض الذنوب أي يحرقها وقيل رمضان من أسماء الله ففي الروايات عن مجاهد لا تقل رمضان ولكن قل شهر رمضان فإنك لا تدري ما رمضان؟
عن النبيّ (ص): "مَن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه".
والمعنى إنّ الأيام المعدودات هي شهر رمضان فقد فرض فيه الصيام فهو المختص بهذه الفريضة وإنّه يمتاز بالفضائل الكريمة أهمها نزول القرآن فيه والعلامة الطباطبائي في تفسيره يقول: "والنزول هو الرود على المحل من العلو والفرق بين الإنزال والتنزيل أنّ الإنزال دفعي والتنزيل تدريجي القرآن اسم للكتاب المنزل على نبيه محمّد (ص) باعتبار كونه مقروّاً..".
فيبدو إنّ القرآن الكريم نزل على صورتين فقد نزل بالشكل التدريجي وأُنزل دفعةً واحدةً فبالشكل التدريجي نزل عبر ثلاثة وعشرين عاماً فترة النبوة وأُنزل دفعةً واحدةً في ليلة القدر في شهر رمضان فنقرأ في الآية الكريمة: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلا) (الإسراء/ 106)، هذه الآية تدل على ظاهرها على النزول التدريجي وحينما نقرأ: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر/ 1)، ونقرأ: (حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) (الدخان/ 1-3)، ونقرأ قوله تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) (ص/ 29).
هذه الآيات تدل في ظاهرها على النزول الكامل مرة واحدة فلذلك نرى في الآيات الأخيرة – أنزلنا – فإذن الفرق واضح بين الإنزال والتنزيل ولدينا روايات تؤيد هذا التوجه منها ما ورد في مجمع البيان – إنّ الله أنزل جميع القرآن في ليلة القدر إلى السماء الدنيا ثمّ أنزل على النبي بعد ذلك نجوماً في طول عشرين سنة.
وهناك رأي عن السدي يسنده إلى إلى ابن عباس – جاء أيضاً في مجمع البيان إنّه كان ينزل إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ما يحتاج إليه في تلك السنة جملة واحدة ثمّ ينزل إلى مواقع النجوم إرسالاً في الشهور والأيام..
(هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) فهذا الكتاب العظيم هو الهادي والمرشد لعموم الناس يدعوهم للالتزام ومعرفة الحقّ وإطاعة الله عزّ وجلّ فهو الدال لهم على الطريق المستقيم وعلى التكاليف الشرعية والخير والسعادة.
والفرقان هو الذي يميز ويفرق بين الحقّ إذا التبس بالباطل فنلجأ إليه لتحديد معالم الحقّ وبيّنات من الهدى والفرقان، أي دلالات في القرآن الكريم توضح الطريق الصحيح وقيل: "الهدى الأوّل من الضلال والجهل والانحراف والهدى الثاني أي توضيح الأحكام وبيان الحلال والحرام.
فإذن القرآن الكريم هذا الفاروق الدقيق بين الحقّ والباطل هو لهداية وإرشاد جميع الناس فيه الحِكَم والمواعظ والقوانين الشرعية فلابدّ أن يكون في متناول الجميع كي يعرفوه ويألفوه ويتدبروا فيه.
قال رسول الله (ص): "إذا أحب أحدكم أن يحدث ربه فليقرأ القرآن".
فمن معجزات القرآن الكريم إنّه يصلح للمتقدين في العلم ليقتبسوا منه ويتدبروا في آياته ويكتشفوا الأعاجيب منه في العلوم المختلفة وبالشريعة أيضاً فهو نافع وموجه للمتخصصين وهو أيضاً هادي ومرشد لعموم الناس فهو الكتاب الوحيد الذي يمتاز بقدرته في التأثير على كلّ الطبقات الإنسانية فهو ليس حكراً على شريحة اجتماعية متخصصة دون أُخرى.
(لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
في ختام الآية المباركة التي فرضت الصيام وبينت عظمة هذا الشهر بإنزال القرآن الكريم فيه وأوضحت العزيمة والرخصة علل ذلك بالتكبير أي أنّ تعظيم الله سبحانه سيظهر بإطاعتنا في أداء الصوم والتكبير هو إشعار بالعظمة المطلقة للقوة الأبدية الإلهية ثمّ لنرجو الله قبول أعمالنا وصيامنا شاكرين له ذلك وشاكرين نعمه علينا. وهكذا لنكبّر الله بإطاعتنا له ونذكره في اللسان أيضاً بالتكبير – الله أكبر لا إله إلّا الله والله أكبر والحمد لله على ما هدانا... وورد في المجتمع التكبير ليلة الفطر عقيب أربع صلوات المغرب والعشاء الآخرة، والغداة وصلاة العيد.
بعد هذه الجولة في رحاب هذه الآية المباركة لنتعرف في الختام على أهم فوائد الصيام وهي:
أ) الناحية النفسية:
تؤدي فريضة الصيام إلى تقوية الإرادة الداخلية لدى الإنسان أمام الشهوات والميول النفسية والشيطان وإغراءات الدنيا.
فالصيام يمرّن الإنسان على الصعاب ويميت التوجه نحو الدنيا ويروض النفس الأمارة بالسوء لتنزع حالة اللهاث المادي والقلق وتثبت حالة الاطمئنان واليقين في النفس (.. مع ما فيه من الانكسار عن الشهوات وليكون ذلك واعظاً لهم في العاجل ورائضاً لهم على أداء ما كلفهم ودليلاً في الأجل..) وفي حديث المعراج قال: يا رب وما ميراث الصوم؟ قال الصوم يورث الحكمة والحكمة تورث المعرفة والمعرفة تورث اليقين فإذا استيقن العبد لا يبالي كيف أصبح بعسرٍ أم بيسر.
ب) الناحية الصحية:
فالصيام يوفر الاستراحة لجهاز الهضم ويوفر القابلية على الوقاية – أيضاً – من الأمراض فيقول الرسول الأعظم (ص) صوموا تصحوا، لكل شيءٍ زكاة وزكاة الأبدان الصيام فالصحة هذه النعمة الكبرى تبقى تلازم الإنسان وتحفظه من السمنة والهزال إذا صام الإنسان والأطباء اليوم ينصحون بل يعالجون كثيراً من الأمراض بفريضة الصيام وقد لا يتأثر المفطر أيام شبابه بالإفطار وإنما تظهر أمراضه في الكبر فالمعدة بيت الداء.
ت) الناحية الروحية:
من المؤكد أنّ الإنسان حينما يؤدي واجباً شرعياً يشعر بالراحة والاطمئنان الروحي والنفسي.
وللصائم فرحتان فرحة عند إفطاره وفرحة عند لقاء ربه – والفرحة عند الإفطار تأتي – غالباً – فرحة روحية لأداء الواجب الشرعي وإتمام الصيام وبذلك يتحقق رضا الله عزّ وجلّ وهي التي تكون مقدمة للفرحة الكبرى عند لقاء ربه والصوم جنة من النار – أي وقاية من جهنم أيضاً يحقق هذا الخبر فرحة وراحة روحية – وإن لم يستبعد البعض إنّ الفرحة عند الإفطار لأنواع المأكولات الشهية والمرتبة أمام الصائم ساعة الإفطار لذلك يذهب البعض إلى أنّهم في شهر رمضان يسمنون لنومهم الكثير – وهو عبادة – وأكلهم المركز..
ثمّ أنّ أبواب الجنة مفتحة وأبواب النيران مغلقة والأعمال مقبولة.
ث) الناحية الأخلاقية:
في فترة الصيام تتغير الحالة البايلوجية لدى الإنسان لتغير أوقات الطعام وكيفية مما يعكس الأثر على الحالة السايكولوجية فالنفس الصائمة غير المفطرة لذلك يتعلم الصائم في هذا الشهر القدرة في التغلب على سوء الخلق والحالة السلبية لأنّ الصيام في هذا الشهر القدرة في التغلب على سوء الخلق والحالة السلبية لأنّ الصيام ليس فقط من الطعام والشراب بل من صام صامت جوارحه فلابدّ من ضبط النفس في أيام الصيام وبالتالي استمرار ضبط النفس في الأشهر الأخرى فقد سمع رسول الله (ص) امرأة تسابّ جارية لها وهي صائمة فدعا رسول الله بطعام فقال لها: كلي! فقالت أنا صائمة يا رسول الله! فقال: كيف تكونين صائمة وقد سببتِ جاريتك؟! إنّ الصوم ليس من الطعام والشراب وإنما جعل الله ذلك حجاباً من سواهما من الفواحش من الفعل والقول يفطر الصائم، ما أقلّ الصوامّ وأكثر الجوّاع!.
ج) الناحية الاجتماعية:
لما كانت فريضة الصوم عامة شاملة لجميع طبقات المجتمع فيشعر الناس بالمساواة الاجتماعية أمام القانون هذا من جانب ومن جانب آخر يظهر الإحساس لدى الجميع بأذى الجوع وألم الفقر فيحدّ من جشع الأغنياء ويزيد من صبر الفقراء وبالنتيجة تولد حالة الوفاق بين طبقات المجتمعات إنما فرض الصيام ليستوي له الغني والفقير.. ليرق على الضعيف ويرحم الجائع..
ومن جانب ثالث هنالك دفع كبير من الأحاديث والروايات بصلة الأرحام وزيارة الأصدقاء مما يوجد حالة التماسك الاجتماعي أيضاً.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق