أخذتُ أدرك بعض أسرار تلك الملحمة العظيمة. وأخذتُ أكتشف آفاق تلك المدرسة الربّانية التي تُعلِّم البشريّة على مدى العصور وتوالي الأيام، أروع دروسُ الإنسانية، وأجمل مبادئ الحب والعطاء والإيثار. وأخذت أكتشف أنها ليست قصة حزينة تُمثِّل أروع صور التضحية والفداء فقط، بل بالإضافة إلى ذلك أنها ثورة اجتماعية من أجل الإنسان أياً كان دينه أو مذهبه أو اتجاهه.. إنّها ثورة لهدم صروح الظلم والعدوان وتحارب الجهل والأُمّية والفقر. وأخذت أكتشف مشاركة الطبيعة وتعاطفها مع جانب الحقّ في تلك الرواية الخالدة والمأساة المروعة. وأخذت أتعرّف على شخصية البطل الذي جسّد تلك العظمة وذلك الشموخ الإنساني والذي بلغ الذروة في معاني الحب، فقد استطاع أن يغرس شجرة الآباء والحرِّيّة ويسقي أديم الأرض بدمه الزكي الطاهر، فأينعت تلك الشجرة، وآتت أُكُلها كلّ حين بإذن ربها وامتدت لتشمل كلّ بقاع الأرض شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً وإذا هي شجرة خصيبة تحمل أشهى الثمار ويستظل تحتها المُتعبون والباحثون عن واحة خضراء في صحراء الحياة. وإذا هي شجرة خالدة تحمل رموز السلام والحرِّيّة والحبّ والحنان.
وإذا هذه الملحمة الخالدة تبدو كأنها بحرٌ زاخر بالكنوز المضيئة وفيها من اللئالي والدُرّ والياقوت والمرجان ما يبعث الطمأنينة في القلب والراحة في النفس وتبدو كشلال ضوء ينساب من الكواكب والأقمار ليبعث البهجة والإحساس بالجمال والخير والسعادة. وإذا بتلك القصة التي كانت تبدو لي مجرد مأساة مروعة بدت وكأنها أروع قصة للتضحية والفداء. وأكبر مدرسة لتخريج آلاف من الشباب في مختلف حقول العلم والثقافة وشؤون الحياة. وإذا بها تبدو أجمل حكاية ينساب من حروفها العطف والحب والإيثار في جانب الحقّ وتظهر مقابل ذلك أفظع درجات الظلم والنفاق والدجل من جانب الباطل. أخذتُ أدرك أو أستخلص نتائج رائعة لهذه الملحمة الخالدة التي سوف تظل حية مؤثرة ما بقي على الحياة كائن يتنفّس وستظل ترنّ في مسامع الدهر. وستبقى تنسج خيوطها الذهبية في نسيج الحياة الاجتماعية. وسيبقى صوت الحسين عالياً يمسح الدمع عن المظلومين ويأخذهم إلى الأعالي بعيداً عن ظلم الجبابرة الطغاة وينشر مبادئ الحقّ والخير والعدل. دم الحسين أصبح ناراً يحرق الطغاة ويهز عروش الظالمين وأصبح نوراً يهدي، ويسكب في النفوس عطراً، تربة الحسين تشمُّ منها رائحة الجنان، وعبير الفردوس. دم الحسين حوَّل الأرض اليابس إلى واحة خضراء ومنتجع للقلوب تهفو لها النفوس وتتجذب إليها وتشتاق أن تلثمها. الحسين لم يمت، بل ازداد حياة ونشوراً، انّه حي في القلوب، حي في الصدور، اسمه منحوت لا على الصخر بل في القلب، في قلب كلّ مؤمن، وسيبقى اسمه حياً مادامت الحياة. إنّ العظمة هنا انّ الحسين في هذا الموقف الصعب الذي يذهل فيه الإنسان عن كلّ شيء ويفقد رباطة جأشه نجده يُفكِّر في أعدائه، ويقف فيهم خطيباً ينصحهم ويُوجِّههم ويرشدهم لعل واحداً منهم يعود إلى رُشده ويتوب فيدخل الجنة. وفعلاً تحول بعض أفراد جيش يزيد إلى الحسين، ودافع عنه، بينما لم يتحول أي من أنصار الحسين إلى جهة الأعداء. لقد كتب الحسين بحبر دمه ووهج نفسه سطور المجد والخلود. كتب بدم قلبه الزكي وعصارة روحه كلّ معاني العطف والهداية والنور للإنسانية جمعاء. ولكن مَنْ يستطيع أن يقرء تلك الملحمة الخالدة وذلك السفر العظيم، والرواية الحزينة التي كان بطلها سيد الشهداء وأهل بيته وأصحابه الأوفياء ولا يشعر بالأسى والحزن؟ مَنْ يتمكّن أن يقرأ ذلك الكتاب الذي يتحدّى عوادي الزمن ويتحدّى عوامل الفناء ثمّ لا يتعاطف مع الحقّ؟ مَنْ يتمكّن أن يتصفّح ذلك الكتاب ثمّ لا تُطيح دمعة من عينيه؟ ولا تهتز مشاعره؟ ولا تتحرّك أوتار قلبه؟ ولا تعزف ألحان الحزن قيثارة روحه؟ مَنْ يقرأ تلك الرواية يجد نفسه وجهاً لوجه أمام الطُّهر والعفاف والحب والحنان والعطف من جانب الحسين وأهل بيته وصحابته. وتتجسّد أمامه صور الخسّة والدناءة واللا إنسانية والوحشية في الجانب الآخر، جانب عمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن. أن يُقتل إنسان في سبيل العدل والحقّ والحرِّيّة فذلك حدث جلل. ولكن أن يُقتل الحسين سيد الشهداء، فذلك الحدث الجلل الأكبر والأعظم والأضخم.. لأنّه ابن سيدة النساء فاطمة الزهراء بنت رسول الله (ص) وانّه ابن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) وانّه سبط النبيّ (ص)، قال فيه الرسول: «حسين منِّي وأنا من حسين».. «أحب الله مَنْ أحبّ حسينا»ً. كان الحسين وما يزال اسمه يقترن بالحب والإيثار والعطف، انّه الرجل الذي طالب بالعدالة للآخرين، وثار ضد حُكّام الجور، ثار من أجل الإنسان الذي سحقته يد الجور والبغي. ضَحّى من أجل الآخرين، من أجل الإنسانية، ضحّى بكلّ شيء، ضحّى بنفسه، بحياته، بأهل بيته، بأصحابه، بطفله الصغير الذي في عينيه براءة الطفولة ونقاءها. كان الحسين يمكنه أن يعيش في ترف وبذخ وعزّ وسيادة لكنه ضحّى بكلّ شيء عندما رأى حُكّام الجور يتلاعبون بمقدّرات الأمّة وبمصير المجتمع ومُستقبله.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق