• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الجماعة.. رحمة

الجماعة.. رحمة
 ◄تقومُ شرائعُ الإسلام وآدابه على اعتبار الفرد جزءاً لا ينفصم عن كيان الأُمّة؛ فهو طوعاً أو كرهاً يأخذ نصيبه مما يتوزع على الجسم كله من غذاءٍ ونموٍّ وشعور. وقد جاء الخطاب الإلهي مقرِّراً هذا الوضع؛ فلم يتجه للفردِ وحدَهُ بالأمر والنهي إنما تناولَ الجماعة كلها بالتأديب والإرشاد، ثمّ من الدرس الذي يُلقي على الجميع يستمعُ الفرد وينتصح. وهذا ما يلاحظه في سياق التشريع في الكتاب والسنة.

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ) (الحج/ 77-78).

فإذا وقفَ المسلم بين يدي الله ليناجيه ويتضرّع إليه لم تَجْرِ العبادةُ على لسانه كعبدٍ منفصل عن إخوانه بل كطرفٍ من مجموعٍ مترابط حيثُ يقول: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة/ 5)، ثمّ يسألُ الله من خيره وهُداه فلا يخصُّ نفسه بالدعاء بل يطلب رحمة الله له ولغيره فيقول: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) (الفاتحة/ 6-7).

إنّ الله عزّ وجلّ لم يَخلُق الناس لينقسموا ويَختلفوا. لقد شرّع لهم ديناً واحداً، وأرسلَ لهم الأنبياء ليقودوا الناس كافةً في طريق واحد، وحرّم عليهم من الأزلِ أن يتفرّقوا. بيدَ أنّ الشهوات الكثيرة والمنافع الشخصية تنكّرت للتراث الإلهي العظيم فانقسم الناس أحزاباً. وجاء كلّ حزب يكيد للآخر ويتربّص به. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) (المؤمنون/ 51-54).

وقد حذّر الله تعالى المسلمين من الخلاف في الدين والتفرُّق في فهمه شيعاً متناحرةً مُتلاعنة، قال تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران/ 105).

إنّ ائتلاف القلوب واتحاد الغايات والمناهج من أوضح تعاليم الإسلام ولا ريب أن توحيد الصفوف واجتماع الكلمة هما الدعامة الأساسية لبقاء الأُمّة ونجاح رسالتها.

هناك أمرٌ يلاحظه المسلم كلّ يوم؛ فالعملُ الواحدُ في حقيقته وصورته يختلف أجره اختلافاً كبيراً حين يؤديه الإنسان وحيداً، وحين يؤديه مع آخرين.

إنّ ركعتي الفجر مثلاً وركعات الظهر هيَ هيَ، لم تَزِدْ شيئاً عندما يؤثر المرء أداءها في جماعةٍ عن أدائها في انفراد. ومع ذلك فقد ضاعف الله تعالى أجرها بضعاً وعشرين مرة عندما يقف الإنسان مع غيره بين يدي الله. وهذا إغراءٌ شديد للإنضواء في كنف الجماعة، ونبذ العزلة، ودفع الإنسان إلى ترك وحدَتِهِ والإندماج في أُمته. فالإسلام يكره للمسلم أن ينحصر في نطاق نفسه وأن ينأى بمصلحته عن مصلحة الجماعة وحياتها.

ولكي يمتزج المسلم بالمجتمع الذي يحيا فيه شرَّع الله الجماعة للصلوات اليومية، ورغّب حضورها، وتكثير الخُطى إليها. ثمّ ألزم أهل القرية الصغيرة أو الحيّ الآهل أن يلتقوا كلّ أسبوعٍ لصلاة الجمعة. ثمّ دعا إلى اجتماع أكبر في صلاة العيد، وجعل مكانةً الأرض الفضاء خارج البلد. وأمر الرجال والنساء بإتيانه إتماماً للنفع وزيادةً في الخير.

ثمّ أذّن إلى حشدٍ أضخم يضمُّ الشتات من المشرق إلى المغرب؛ ففرض الحج، وجعل له مكاناً وزماناً معلوماً حتى يجعل اللقاء بين أجناس المسلمين أمراً محتوماً. وكان رسولُ الله (ص) شديد التحذير من عواقب الاعتزال والفرقة. وكان من حلِّهِ وترحاله يُوصي بالتجمُّع والاتحاد.

إنّ الناس إن لم يجمعهم الحقُّ فرَّقَهم الباطل، وإذا لم توحِّدْهُم عبادة الرحمن مزَّقَتْهُم عبادةُ الشيطان. وإذا لم يستويهم نعيمُ الآخرة تخاصموا على متاع الدنيا. عن النبيّ (ص) أنّه قال في حَجّة الوداع: "لا ترجعوا بعدي كُفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" بمعنى أنّ العراك الدامي شأن الكافرين المنقسمين على أنفسهم أحزاباً متنافرة.

إنّ الإسلام لانَ لاختلاف العقول في الفهم ومنح المخطىء أجراً، والمصيب أجرين، ثمّ جعل الجمع في كنفه الرحب ما داموا مخلصين في طلب الحق. ►

ارسال التعليق

Top