• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

ثقافة المتحدث

ثقافة المتحدث
◄مهما امتلك المتحدث – أي متحدث – من فنون الأداء ونفوذ الشخصية، ومهما كانت القضية التي يتحدث عنها خطيرة وملحِّة ومشوِّقة، فإنّ العامل الأساسي في نجاحه وتأثيره، يظل ما يملكه من معلومات ومعارف عميقة ودقيقة وشاملة حول الموضوع الذي يتحدث عنه؛ فالناس اليوم لا يؤخذون كثيراً بالكلمات الأنيقة والعبارات الرنانة إذا لم ترتكز على معطيات علمية موثوقة وعلى معانٍ قوية ومتماسكة. وفي ظل الانفجار المعلوماتي وانفجار ثورة الاتصالات حدث أمران مهمَّان:

الأوّل: توفُّر كمية هائلة من المعلومات في كلّ مجال وكلّ اتجاه وعلى كلّ مستوى، ما يعني فرصاً وإمكانات شبه مطلقة لتنمية المعرفة الشخصية على نحو لم يسبق له مثيل.

الثاني: ارتقاء معارف الناس بفنون القول وأشكال الخطاب من خلال ما أتاحته لهم الفضائيات من رؤية متنوعة للمتحدثين والمتكلمين والمتحاورين، وما يترتب على ذلك من نموّ حاسَّة المقارنات والموازنات لديهم. وفي ظل هذه المستجدات صار لدى كلّ الخطباء وفرسان الكلمة ما يكفي من الحوافز والتحديات للارتقاء بأنفسهم، كما صار لديهم ما يكفي من الفرص لزيادة حصيلتهم الثقافية أو أرادوا.

نستطيع القول: إنّ المتحدث الجيِّد يحتاج إلى أن ينمي زاده المعرفي على مستويين: مستوى الخلفية الثقافية، ومستوى الإلمام بالموضوع الذي يطرقه. والحقيقة أن بناء خلفية ثقافية عامة ومتينة يحتاج إلى نَصَب ومثابرة ومتابعة، فالمعلومات الجديدة التي تتدفق على نحو متفجر، تدفع بالمتخصصين وغيرهم دائماً نحو الحافة ما لم ينهلوا منها على نحو مستمر؛ وإن من المؤسف القول: إن معظم الدعاء لا يهتمون ببناء خلفياتهم الثقافية بما يتناسب مع جلال المهمة التي تصدُّوا لها، وعظمة الرسالة التي يحملونها؛ ولهذا فإننا كثيراً ما نستمع إلى معانٍ مستهلَكة وعبارات متقادمة فقدت رونقها من كثرة الاستعمال ومعلومات منسوخة أو معدَّلة؛ مما جعل معظم السامعين لخطب الجمعة والأحاديث الإذاعية والتلفازية يشعرون بقدر كبير من السأم والملل. إن بناء الخلفية الثقافية يتطلب من الواحد منا أن يتنقَّل بين ربوع المعرفة كما تفعل النحلة، والتي تطير المسافات الشاسعة في سبيل الحصول على أكبر عدد من أنواع الزهور، حتى تخرج للناس شراباً فريداً (.. فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ...) (النحل/ 69). ومما يذكرون في ترجمة الإمام أبيد عبيد القاسم بن سلّام (ت 224هـ) أنه سلخ من عمره قريباً من أربعين سنة وهو يعمل، ويجتهد في إعداد كتابه (الغريب المصنَّف). وأمضى المؤرخ الإنجليزي الشهير (أرنولد تويبني) نحواً من هذه المدة في إعداد كتابه (دراسة في التاريخ). وحدَّثني أحد الدعاة في ماليزيا أنه قرأ نحواً من (200) كتاب حول (الثقافة الصينية) حتى يتمكن من تكوين خلفية ثقافية تمكِّنه من دعوة الصينيين إلى الإسلام بنجاح. وقد أكرمه الله – تعالى – بدخول أعداد كبيرة منهم في الإسلام. وذكر بعض الباحثين أن (جارثيا ماركيز) (ت سنة 1880م) وهو قاصّ أمريكا الجنوبية الأوّل، قرأ ألفي كتاب من المكتبة الوطنية بباريس لكي يدرس البيئة الجغرافية والاجتماعية لأحد أعماله الروائية!

وأعتقد أنّ المتحدِّث في حاجة إلى أن يعمِّق معرفته في ثلاثة حقول ثقافية: حقل الثقافة الشرعية، وحقل الثقافة العامة، وحقل الثقافة المتخصصة؛ فالثقافة الشرعية تمنحه الرؤية والمنهج والضوابط وتوضِّح له المحظورات. أما الثقافة العامة، فإنها تساعده على تشكيل خلفية شاملة لكل الموضوعات التي يتحدث عنها؛ إنها بمثابة الجو الذي يتنفس فيه. أما الثقافة المتخصصة فإنها تمنحه العمق والمصداقية وصلابة الموقف المعرفي. وهناك العديد من التفصيلات في كل حقل من هذه الحقول؛ وليس هذا الكتاب هو المكان الملائم لاستعراضها.

أما على مستوى الإلمام بالموضوع، فأحب أن أُبدي الملاحظات التالية:

1-     المهم دائماً أن يعرف المتحدث على نحو دقيق أي شيء يريد أن يتحدث؛ إذ إنَّ كثيراً من الخطب والمحاضرات يتم الانتقال فيما من موضوع إلى موضوع ومن قضية إلى قضية، فيرتبك السامعون ارتباكاً شديداً، ويجدون أنفسهم عاجزين عن وضع عناوين لما سمعوه وتلخيص أفكاره الرئيسية. وربّما كان الاستطراد والتمسك بالتشعيبات والفروع من أكثر ما يجعل المحاضرين يبتعدون عن الالتزام بشيء واحد يُغنونه بالشرح والتوضيح، ولهذا فإن وضع مخطط جيِّد لموضوع الخطبة أو المحاضرة سوف يكون أفضل واقٍ من الانسياح والتشتت في فضاءات ثقافية متنوعة.

2-     ما يمكن أن نجعله موضوعاً لخطبة أو محاضرة يفوق الحصر، وإن كل ما له صلة بالفكر أو الواقع يظل في حالة من الاتساع المستمر ولهذا فإن على المرء أن يعرف كيف يختار الموضوع الأكثر ملاءمة والأكثر أهمية لمن يتحدث إليهم. إن توالي الأحداث وتنوع صروف الليالي والأيام يجعل ما كان مهمّاً قبل سنة غير مهم اليوم، وما هو حيوي عند قوم ثانويّاً عند آخرين، والداعي ببصيرته وخبرته وفهمه لأشكال الترابط بين العلل والأدوية يستطيع أن يحدد القضية التي ينبغي أن يثقف نفسه فيها، ويبلور آراءه وأطروحاته حولها. إن مسائل التحلل الخلقي ومشكلات التربية والعمل والبطالة والتفكك الاجتماعي والتعرض للدفق الثقافي الأجنبي.. من أكثر الأمور التي تشغل بال معظم المسلمين، وإنها تستحق من علمائهم ومفكريهم كل العناية والاهتمام.

3-  أفضل وسيلة للإلمام بالموضوع الذي نرغب في التحدث فيه هو أن نطلق لأخيلتنا العنان كيما نتمكن من إيجاد تصور شامل لكل ما ينبغي تناوله من مسائل وقضايا وتفريعات تجعل فهم الناس للموضوع أقرب إلى الكمال والتمام. وأنا هنا سأفعل هذا، وأقوم بطرح موضوع حيوي بالنسبة إلينا جميعاً، ولا سيما الشباب هو موضوع (البطالة) وسأحاول إيراد أكبر عدد ممكن من التساؤلات والإجابات ذات الصلة لنتخذ منها نموذجاً تقريبيّاً لما يمكن عمله؛ وذلك على النحو الآتي:

- يشكل الحديث عن البطالة أولوية؛ لأن أعداداً كبيرة من الشباب يبحثون عن عمل لائق ومناسب، ولا يجدون.

- حين يجد المرء نفسه باطلاً عن العمل، فإنّه لا يفقد مصدراً مهمّاً للعيش والإنفاق فحسب، وإنّما تصاب شخصيته بارتكاسات كريهة، تؤذي نفسه وروحه، وربما أفسدت حياته الأسرية، لذلك كان تسليط الضوء على هذه القضية يعد أمراً مهمّاً وعاجلاً.

- من المهم في البداية أن نعرِّف (البطالة) حتى يدرك السامعون عن أي شيء نتحدث. في هذا الإطار يمكن القول: إنّ العاطل عن العمل هو شخص يبحث عن عمل ملائم، ثمّ لا يجده. الذي لا يبحث عن عملٍ لأن لديه مورداً يكفيه لا يعد باطلاً عن العمل، والذي يجد عملاً لا يتناسب مع حاجاته ومهاراته وتخصصه يمكن عدّه باطلاً عن العمل على نحو جزئي.

- لو تساءلنا: هل البطالة شكل واحد؟

الجواب: لا. فهناك البطالة السافرة والواضحة حيث لا يجد القادر على العمل فرصة لبذل جهده الذي يحصل منه على لقمة عيشه. وهناك البطالة المقنَّعة أو المستترة؛ حيث تجد في الدائرة أو الشركة أو المؤسسة خمسين موظفاً على حين أن حاجتها الحقيقية تكون إلى عشرين أو ثلاثين. وهناك البطالة الموسمية حيث يعمل بعض الناس أشهراً معيَّنة من السنة – كما هو شأن كثير من المزارعين – ويجلسون شهوراً دون أي عمل.

-         هل الإشكال في وجود أي نسبة من البطالة، أو الإشكال في وجود بطالة ذات نسبة عالية؟

الجواب: على المستوى المطلق فإنّ الأصل أن يجد كل إنسان عملاً ملائماً له، لكن إذا رجعنا إلى التاريخ وإلى الواقع فإنّنا سنجد أن هذا لم يحدث في يوم من الأيّام؛ فهناك معوقون وذوو ظروف صعبة، وهناك فترات يحدث فيها كساد اقتصادي تُخْرج كثيرين من سوق العمل، ولهذا فإن هناك دائماً مَن لا يجد العمل الملائم، وهناك دائماً مَن لا يجد أي عمل، وتظل المسألة نسبية. هناك في عالمنا الإسلامي دول تزيد نسبة البطالة فيها على (60%) على حين أن هناك دولاً متقدمة، لا تزيد فيها نسبة البطالة على (2%)!

- المجتمع من خلال ترابطه وعمل الخير فيه ومن خلال الضمان الاجتماعي يتحمّل النسب المتدنية من البطالة، فإذا ارتفعت عن حدٍّ معيَّن حدثت مشكلات كثيرة ومتنوعة.

- كيف يتم التعرف على حجم البطالة في مجتمع ما؟

ليس التعرف على حجم البطالة من الأمور السهلة، فهناك اختلافات جوهرية في تعريف البطالة ينبني على بعضها اعتبار أشخاص عاطلين عن العمل، وينبني على بعضها الآخر اعتبارهم في عداد غير العاطلين، وهناك إلى جانب هذا أشخاص يكونون عاطلين عن العمل، ولا يسجلون أسماءهم لدى مكاتب العمل؛ حيث يتولون البحث عن عمل بأنفسهم. وفي الدول المتقدمة يتم التعرف على حجم البطالة من خلال المبالغ التي يدفعها الضمان الاجتماعي، ومن خلال وسائل أخرى.

أما الدول المتخلفة فإنّها تعاني في الأساس من مشكلة (أرقام ومعلومات) في هذه القضية وفي غيرها حيث الإحصاءات دائماً شحيحة.

-        إذا كان وجود نسبة ما من البطالة أمراً متوقعاً وطبيعياً، فلماذا تحدث النسب العالية منها في بعض الدول؟

هناك شبكة معقدة من الأسباب التي تؤدِّي إلى حدوث البطالة، ففي ظل اقتصاد عالمي متشابك ومتداخل ومتواصل تكون معرفة الأسباب الأكثر جوهرية في ارتفاع نسبة البطالة في بلد من البلدان من الأمور الصعبة والمعقدة؛ لكن يمكن القول: إنّ السبب الجوهري والذي يتضمن عدداً من الأسباب الفرعية يعود إلى وجود تنمية اقتصادية غير متكافئة مع النمو السكاني المتوفر في بلد من البلدان، أي: إن فرص العمل المعروضة أقل من فرص العمل المطلوبة، حيث تنشأ أجيال جديدة بأعداد كبيرة دون أن تجد ما يكفيها من الوظائف والأشغال. ولا ريب أن بطء التنمية الاقتصادية يعود إلى أسباب أخلاقية وسلوكية وسياسية واجتماعية وإلى معطيات اقتصادية سلبية. الصناعة المتقدمة والمتطورة هي التي توفر للأُمم المزيد من المال، والذي يساعد على إيجاد المزيد من فرص العمل في المجالات كافة. ومعظم الدول الإسلامية لم تدخل طور التصنيع، بل إن كثيراً منها يعيش في حالة مقاربة لما كانت عليه أوربا قبل قرن ونصف من الزمان!.

-         ما الذي يمكن أن يطلبه المتحدث أو الخطيب من الناس من أجل خفض مستوى البطالة؟

على المتحدث أن يعمِّق وعي الناس بمخاطر البطالة، وأن يفصِّل الحديث في الجهات المسؤولة عنها، ويركز على دور الفساد الإداري في حرمان الناس من تكافؤ فرص العمل، بالإضافة إلى تشجيع الناس وتحفيزهم على أن يطوِّروا أنفسهم، ويعيدوا تأهيل ذواتهم بما يتناسب مع متطلبات سوق العمل، إلى جانب حثّ الأثرياء على المساهمة في التخفيف من ظاهرة البطالة عن طريق افتتاح مراكز للتدريب المجاني وإنشاء المصانع التي تستوعب أعداداً جيِّدة من الشباب العاطلين عن العمل عوضاً عن تشغيلها في التجارة.

هذه التساؤلات، قد يورد الخطيب أو المحاضر أثناء كلامه بعضاً منها ويجيب عليه، وقد لا يعرض أيّاً منها؛ وإنما ذكرتها بوصفها وسيلة لاستقصاء المشكلة ورسم خارطة فكرية ثقافية لتضاريسها. والله المستعان في كلّ حال.►

 

المصدر: كتاب المُتحدِّث الجيِّد

ارسال التعليق

Top