ب) أما عن أنواع الصور الذهنية التي يتخيلها الفرد فهي كثيرة متعددة بتعدد الحواس المدركة فهناك صور بصرية للأشكال والمناظر المرئية يمكنني أن أستعيدها في خيالي من جديد أيضاً الصور الصوتية التي تأتي من خلال الأذن وكذلك الروائح والأطعمة المختلفة يمكن أعادة تصورها في الخيال ولو انعدمت تلك الحواس لدى الفرد منذ الصغر صعب عليه تخيل الصور الخاصة بها فالشخص الذي ولد أعمى لا يمكنه تكوين صور ذهنية عن الألوان وكذلك الحال مع فاقد السمع لكنه لو فقد تلك الحواس وهو في الكبر فانّه يسهل عليه استرجاعها ثانية لأنّه أدركها وأحس بها من قبل. ويملك الأفراد أيضاً القدرة على التصور وكذلك صورة "فلان" من الأشخاص الذي تميز بالمشي بطريقة خاصة وليس هذا التصور الحركي في الحقيقة إلا تجميعاً لعدد كبير من الصور البصرية المختلفة ويختلف الأفراد بعضهم عن بعض في درجة تخيلهم للصور السابقة فالبعض يغلب عليه التصور البصري والآخر يمكنه استعادة الصور السمعية بطريقة أسهل وهكذا والواقع أنّ معظم الصور الذهنية ليست سوى كلّ مركب من مدركات حسية متعددة بين سمعية وبصرية وغيرها فقط نميز نحن بين كلّ منها على أساس الصفة الغالبة عليها من الحواس.
نلخص من السابق إلى أنّ التخيل من تلك الصور الذهنية المتعددة عندما تتماسك فيما بينما لتؤدي معنى جديداً ويتدخل التخيل في أغلب الوظائف العقلية للإنسان لأنّ التفكير لا يتم إلا بعد تحويل العالم المادي الخارجي إلى صور غير مادية يقوم العقل بإسباغ المعاني المختلفة عليها حسب اتفاق وإجماع أفراد المجتمع. وبناء على ذلك يمكننا أن نلمح عدة مظاهر مختلفة للتخيل يكون فيها أكثر وضوحاً هي. أحلام النوم، أحلام اليقظة، الإبداع والإلهام، وكلّها عبارة عن استرجاع واستحضار الأشياء المادية لكن في إطار من العقل والوجدان والخيال.
مظاهر التخيل:
أ) كثيراً ما نحلم أثناء نومنا أحلاماً متعددة لا نشعر بها إلا بعد الاستيقاظ مباشرة فنجد أنفسنا أثناء الحلم وكأننا في الواقع فعلاً والحلم نوع من تخيل الصور التي مرت بنا في الحياة قبل النوم والتي أستعيدها ثانياً أثناء النوم بأشكال متعددة فإما أنّ أضخمها أو أصغرها أو أجودها من أشكال جديدة وهكذا. فمثلاً إذا نام شخص ما في حجرة مظلمة وكانت أعصابه متوترة ومضطربة من قبل ونسمع صوت فروع الشجر تتصادم في الحديقة الخارجية فإنّه سيحلم حتماً عند النوم أنّ هناك حرباً ضخمة وصراعاً كبيراً وأصواتاً مزعجة قد تدفعه لأن يستيقظ صارخاً وذلك لأنّه تخيل الأحداث التي مرت به قبل النوم في هيئة ضخمة.
والواقع أنّ العقل البشري لا يسكن تماماً وقت النوم كما يظن الناس بل تتوقف بعض المراكز العصبية في أثناء النوم بينما يواصل البعض الآخر عمله الذي يتمثل في الأحلام ويظن كثير من الأفراد خطأ أنّ في الإمكان التنبوء بالمستقبل من خلال الأحلام فيؤولونها أكثر مما تحتمل لكن العلم عجز حتى الآن عن معرفة المستقبل والكشف عن الغيب وأنّ الحقيقة عكس السابق إذ أنّ الأحلام تعبير عن الماضي وليس المستقبل لأنها كما عرفنا انعكاسات لأحداث النهار التي أستعيدها ليلاً في أشكال متغيرة.
وقد ظهرت عشرات التفسيرات لظاهرة الأحلام كان أبرزها تفسير المدرسة التحليلية بزعامة فرويد الذي رأى أنّ الحلم هو تحقيق رغبة في النوم لم يتمكن الفرد من تحقيقها في اليقظة. فمثلاً نجد شخصاً ما كان يتمنى أن يمتلك عربة فخمة وظل يفكر في هذه الأمنية قبل النوم أو قد يكون شاهد العربة التي يتمناها في الطريق فتجده يحلم ليلاً بأنّه قد اشتراها فعلاً وأنّه يتنزه بها، ومن هنا نشأ المثل الشعبي القائل بأنّ "الجائع يحلم بسوق العيش" وقد رأى فرويد حلماً عن نفسه كان يشعر فيه بعطش شديد فجاءته زوجته في الحلم بالماء موضوعاً في إناء بلّوري فخم كان قد اشتراه من إيطاليا لكنه شعر عند الشرب بأنّ الماء شديد الملح فاستيقظ مضطرباً حيث اتضح فعلاً أنّه عطشان وكان هذا هو تفسير الشرب أمّا الملح فكان سبباً في استيقاظه كي يشرب والإناء الفخم كان فقد منه وتمنى أن يسترده ثانية فتحققت هذه الرغبة في الحلم.
ب) تعتبر أحلام اليقظة أيضاً إحدى مظاهر التخيل التي تختلف أساساً عن أحلام النوم في أنها تخيل يحدث في اليقظة من جهة وانّه يمكن التحكم فيها من جهة أخرى أي أنها في جوهرها شعورية ليستطيع الفرد أن يوقفها أو يكملها كما يشاء عكس أحلام النوم التي تحدث لا شعورياً ودون أن أتحكم فيها. وتعتبر أحلام اليقظة أكثر شيوعاً في مرحلة المراهقة حيث يتخيل الشاب ما يشاء من التخيلات والأفكار التي يتمنى تحقيقها في الواقع فهي كأحلام النوم تعتبر نوعاً من الهروب من الواقع الأليم.
وتنقسم أحلام اليقظة إلى أربعة أنواع:
1- منها ما يبدو فيه الشخص الحالم من صورة بطل أو شخصية عظيمة وفي مثل هذه النوع ينسب الشخص إلى نفسه بعض الصفات العظيمة والأعمال الكبيرة. ويكون هذا بمثابة تعويض للنقص الذي يعانيه الفرد.
2- ومنها نوع ثان يتخيل فيها الشخص حدوث الموت أو الفناء لبعض الأفراد الذين يعوقونه عن تحقيق رغباته.
3- والنوع الثالث يتخيل فيه الشخص حدوث الأذى في نفسه كفقد عضو في جسمه أو أصابته بمرض ما وحاجته لعطف الآخرين ويكون هذا تنفيساً عن رغبة الفرد في أن يحبسه الناس. ويظهر خصيصاً لدى الأطفال المحرومين من العطف.
4- وأخيراً هناك نوع رابع عام هو الذي يحقق فيه الشخص جميع رغباته التي لا يستطيع أن يحققها في الواقع بوجه عام مثل اشتراكه في تمثيل أحد الأفلام السينمائية أو امتلاكه فيلا جميلة من بقعة هادئة وهكذا.
وانّ لأحلام اليقظة فوائد ومضار متعددة أما فوائدها فهي كما يلي:
1- أنها وسيلة سهلة للتنفيس عن بعض الرغبات المكبوتة والتي يضرنا أن تظل في أنفسنا تؤرقنا بل أننا نشعر بالراحة عندما نحققها على الأقل في مملكة الخيال.
2- وفي أحيان أخرى تكون أحلام اليقظة من أسباب تجديد القوى وتشجيع الإنسان وزيادة مجهوده لتحقيق هذه الأحلام، وإنّ كثيراً من إنتاج العباقرة والمشهورين جاء نتيجة أحلام اليقظة التي أرادوا تحقيقها فعلاً بقوة عزيمتها ونجحوا في ذلك فمثلاً أي شخص يتخيل نفسه في المركز الفلاني وكان قوي الإرادة فإنّه يسعى كي يحقق هذا التخيل بالعمل والفعل.
وفي نفس الوقت نجد أنّ لأحلام اليقظة مضار لا تتكرر أبداً مثل:
1- إذا اقتصر الإنسان عليها واتخذها غاية في نفسها دون أن يحاول تحقيقها فأنها تصبح مرضاً بل يجب أن تكون وسيلة للتحقيق وليس غاية.
2- أيضاً أنّ الإسراف في أحلام اليقظة يكون مضيعة للوقت خاصة أيام الامتحانات ولكي يتحاشى الطالب هذه الأحلام يمكنه أن يتحلى بقوة العزيمة والرغبة في تحقيق الأهداف التي يعمل من أجلها، وعليه أن يعرف أنّ للتخيل وأحلام اليقظة وقتها المحدود ثمّ للتنفيذ والعمل وقته الأهم.
ج) توجد كذلك عدة مظاهر أخرى للتخيل تبدو بوضوح في عملية الإبداع والإلهام التي يقصد بها التوصل إلى إنتاج شيء جديد أما في مجال العلم والاختراع "الإبداع" أو من مجال الفن والأدب "الإلهام"، ويجب ملاحظة أنّ هناك تشابهاً كبيراً بين كلّ منهما يتمثل في عملية اكتشاف المجهول الجديد فجأة بما يشبه الحدس أو الإدراك المفاجئ.
أما عن الإبداع فيقصد به إيجاد الشيء على نسق جديد أو التأليف بين الأشياء على نظام آخر ينتج لنا منه شيء جديد وعادة ما تكون مادة الإبداع مستمدة من العالم الواقعي المحسوس ومن ذكريات الفرد وتجاربه السابقة حين يتخيلها من جديد أوضاع متعددة. ويتميز الإبداع العلمي أو الاختراع بعدة مميزات هي:
1- أن يكشف عن علاقات ووظائف جديدة بين الأشياء التي لم يدركها أحد من قبل ثم يبرزها في نظام جديد وانّ أبلغ مثال على ذلك ما حدث لنيوتن حين كان يجلس في الحديقة وشاهد التفاحة تقع من أعلى الشجرة إلى الأرض فسأل نفسه لماذا لم تتجه التفاحة إلى أعلى؟ وظل يفكر حتى توصل إلى اكتشاف علاقة جديدة بين ثقل الجسم ووقوعه على الأرض فسرها بقانون الجاذبية.
2- يتميز الإبداع أيضاً بأنّه محاكاة لأشياء مختلفة حيث يؤلف بين بعض أجزائها كي يخرج لنا شيئاً جديداً. فمثلاً كيف اخترع الإنسان القارب؟ لقد نظر إلى السمكة وعرف أنّ تكوينها الانسيابي يساعدها على السباحة وأنّ الزعانف تجدف في الماء أما الذيل فمهمته تحديد الاتجاه، فسارع إلى تقليد هذا كلّه على هيئة القارب والمجدافين والدفة" عجلة القيادة".
3- وأخيراً يتميز الإبداع بأنّه محاولة للتحرر من قيود الزمان والمكان فمثلاً اختراع السيارة والطائرة والصواريخ كلّها تهدف إلى هذا التحرر والتليفون والتليفزيون وغيره كلّها تريد أن تمحي عامل الزمان والمكان وتسهل على الإنسان حياته كي يشعر بالراحة.
ولا تحدث عملية الإبداع تلك في صورة عشوائية بل لابدّ وأن يكون لها دوافع والتي تتمثل كّلها في التفكير العقلي العلمي المنظم أما في ميدان الأدب والفن بأنّ الدافع يكون وجدانياً خالصاً في العادة نظراً للخلاف القائم بين كلّ من العلم من جهة والأدب والفن من جهة أخرى سواء في المنهج أو في الموضوعات لكن رغم ذلك تشترك كلّ منها في عملية التوصل الفجائي للشيء الجديد.
د) إذن يتميز الإلهام في الأدب والفن بغلبة الجانب الوجداني على العقل الذي اختص به العلم لكن الغاية واحدة وهي الحصول على النتيجة أو الحلّ المطلوب فجأة كما حدث لنيوتن من قبل وكما قال بوانكاريه عالم الرياضيات الأشهر من أنّ أغلب اكتشافاته الرياضية توصل إليها فجأة أثناء سيره في الطريق أو تنزهه في الريف، ونفس هذا الوضع قائم بالنسبة للشعراء والموسيقيين وأمثالهم من الذين يهبط عليهم الوحي في غير ما وقت. مثلاً يقول الموسيقي الألماني "فاجنر" أنّ موسيقى إحدى سيمفونياته الخالدة كان قد سمعها من قبل في الحلم فدونها عندما استيقظ بالضبط كما حدث للشاعر الإنجليزي "كوليريدج" حين نام فترة وجيزة بعد المطالعة أفاق بعدها وفي رأسه قصيدة كاملة من أروع قصائده ظل يخطها بسرعة قبل أن ينساها حتى وصل إلى البيت الرابع والخمسين ثمّ توقف سيل الإلهام فأصبحت ناقصة حتى اليوم أيضاً قال الشاعر: "جون ماتسفيلد" أنّه رأى إحدى قصائده في المنام منقوشة بحروف بارزة على أرضية معدنية، فما كان عليه إلا أن نقلاها عندما استيقظ مباشرة.
وتتم عملية الإلهام على عدة مراحل يمكن أن نستخلصها من الأمثلة السابقة:
1- المرحلة الأولى هي التحضير والبحث والتحصين وجمع عناصر المشكلة مثل رسم لوحة أو نظم قطعة شعر أو تأليف سيمفونية حيث يشرع الفنان بعدها في التنفيذ.
2- فإذا كان خياله صافياً فإنّ الإنتاج سيخرج إلى حيز الوجود وبسهولة كبيرة جدّاً لكن قد تكون المشكلة صعبة مستعصية فيضطر الفنان إلى تركها بعض الوقت حيث تزول الأفكار الخاطئة التي تتصل بالمشكلة ويتم تقطيعها من جديد ويزداد الخيال راحة ما يساعده على حلّ المشكلة ثانية.
3- وأخيراً ينزل الإلهام على الفنان من حيث لا يدري وليس عليه حينئذ إلا أن يدونه فقط كما فعل فاجنر وكوليريدج سابقاً.
وأخيراً نجد أنّ كلّ من العالم والشاعر يحتاج إلى الخيال. فالاختراع العلمي مثله كمثل الإلهام الأدبي من حيث المبدأ وهو التوصل الفجائي للشيء الجديد لكن يغلب الجانب العقلي في ميدان العلم بينما يغلب الجانب الوجداني العاطفي في ميدان الأدب والفن والموسيقى؟ ولولا الخيال لما اكتشف جيمس وات قيمة البخار في تسيير القطارات ولما توصل العلماء إلى اختراع الصواريخ للوصول إلى القمر بعد أن كانت حلماً خيالياً من قبل. ونفس هذا الخيال هو الذي دفع بتهوفن وأقرانه الموسيقيين إلى تأليف روائعهم التي يطرب لها الوجدان الرفيع وهو الذين دفع العرب الأقدمين إلى نظم معجزاتهم الشعرية الخالدة التي تحتاج إلى خيال خصب وهكذا تظهر لنا قيمة تربية الخيال لدى الفرد باعتباره الأداة التي يتذوق من خلال كلّ نتاج العباقرة الآخرين سواء كانوا علماء أم شعراء وفنانين ولابدّ للإنسان أن ينمي مخيلته منذ الصغر حتى تعمل مع بقية قواه النفسية في تطوير حياته والتي لا تعتبر حياة إنسانية لو انعدم فيها الخيال.►
المصدر: كتاب القوى العقلية.. الحواس الخمس
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق