• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

القراءة.. من العزوف إلى الولع

القراءة.. من العزوف إلى الولع

◄كيف نستطيع أن نخرج الناس من حالة العزوف عن القراءة، وإهمالها، والإعراض عنها، وإخراجها من دائرة الاهتمام، والنظر إليها بوصفها قتلاً للوقت، وإضاعة للمال، وإهداراً للجهد؟!

كيف نستطيع أن ننقلهم إلى حالة الرغبة في القراءة، والولع بها، والإقبال عليها، والشعور بأهميتها، والنظر إليها بوصفها الحاجة العليا للإنسان، والمصدر الرئيسي للمعرفة؟!

يطالعنا الواقع بحالات انتقالٍ فردية تمت بالمصادفة، نتيجة احتكاكٍ مفاجئ مع الكتاب لفت الانتباه إلى أهمية القراءة، وأثار الاهتمام بها، والإحساس العميق بفائدتها، حتى إنّ الفرد ليشعر باكتشاف الذات، والندم على الوقت الضائع الذي فات، والشغف غير المحدود بعالم الكتاب.. ربما تكون المصادفة قد ساقته إلى تناول كتاب من رفِّ مكتبة، أو منضدة صديق، أو في قاعة انتظار، فأخذ يقلّب صفحاته، مثلما يتلهى بطقطقة حبات سبحته لدفع الملل، والتخفيف من وطأة وقت الانتظار، فإذا عينه تقع على فكرة تستهويه، فتكون شرارة البدء التي تقوده في رحلة طويلة إلى عالم القراءة الفسيح، وربما تكون هذه المصادفة بفعل إرشاد زميل، أو دعاية ناشر، أو محاضرة مؤلف، أو محاورة أديب.

هذا (إليتيك) يروي لنا ردود فعل (ويليام كوبيت)، وهو ابن مزارع رأى بالمصادفة، في واجهة إحدى المكتبات، وهو في الرابعة عشرة من عمره، كتاباً لفت نظره، وكان عنوانه (قصة إناء الغسيل الخشبي)، فدفع ثمنه ثلاثة بنسات، كانت كلّ ما يملك، وأسرع إلى أقرب كومة هشيم، فاستظل بها، واستغرق في قراءته.. إنّه يصف شعوره فيما بعد: "لقد كان شيئاً جديداً عليَّ، لدرجة أنّه رغم عجزي عن فهم بعض مقاطعه، فقد غمرني بحبور لا يوصف، وولد في نفسي نوعاً من تفتح الفكر، دفعني إلى مزيد من القراءة، وإلى الولع بها".

وأيّاً ما كانت الطريقة التي نجم عنها هذا التحول، فإنّها تظل حالات فردية نادرة، لا يمكن أن تغيّر مجتمعاً، ولا تبني ثقافة، ما لم تتضافر جهود كثيرة، تعمل بطريقة علمية منظمة، لدفع عجلة التغيير.

 

التفاوت في قبول التغيير:

ليس الناس على درجة واحدة في قبولهم للتغيير، وتكيفهم مع الأفكار الجديدة، وسرعة التبديل لأنماط حياتهم، ومفارقتهم لما ألفوه في مجتمعهم من العادات، وما ورثوه عن آبائهم من التقاليد.

هنالك إحصاءٌ أُجري في إنكلترا، وتمّ استخدامه لدراسة استعداد المزارعين لتبني أساليب زراعية جديدة، يبيّن لنا بوضوح تباين السرعة التي يتغير بها الناس، فقد صنف المزارعون الذين تناولتهم الدراسة إلى خمس زمر؛ حسب نسبة قبولهم للتغيير، وتبنيهم أو رفضهم للأفكار والأساليب الجديدة:

02% طلائع التغيير الذين تبنوا الأساليب الجديدة، وغامروا بالإقدام على تجربتها.

13% باحثون عن الأفكار الجديدة، لديهم الرغبة بتبنيها، بعد التأكد من نجاح الآخرين في تجربتها.

34% منفتحون على الأفكار الجديدة، لديهم الاستعداد لتقبلها، دون البحث عنها.

30% مترددون أقل استعداداً لتقبل الأفكار الجديدة.

16% تقليديون مطمئنون إلى القديم المجرَّب.

05% رافضون للتغيير.

وبالطبع فالمزارعون ليسوا وحدهم الذين يتفاوتون في سرعة مبادرتهم إلى تبني الأفكار الجديدة، فالأزياء، والتقنيات الصناعية، والمذاهب الفلسفية، والنظريات الاقتصادية، والحركات الاجتماعية، والآراء العلمية، والأفكار التربوية، والتعاليم الدينية.. كلّها مجالات يتفاوت الناس في مدى تقبلهم للتجديد فيها.

وإذا كنا لا نملك إحصاءات مماثلة في عالمنا العربي، وفي مجال القراءة بالذات، فإنّ لنا أن نستأنس بإحصاءات الأُمم الأخرى، ونستخلص منها النتائج والعبر، مع ملاحظة الفوارق الكبيرة التي يفرضها التفاوت في المستوى الحضاري، والتي تؤدي حتماً إلى تضاؤل نسبة المغامرين مع طلائع التجديد، وتفاقم نسبة التقليديين والرافضين للتغيير.

ولا شك أنّ الهيئات التي تهتم بتحسين الممارسات في أيّ من هذه الحقول، تسارع إلى التعرف على هؤلاء المغامرين، ليكونوا عوناً لها على نشر الأفكار الجديدة بين الآخرين.

ولا شكّ – أيضاً – أنّ قلة عدد المجددين، وزيادة عدد التقليديين الرافضين للتغيير، لما يؤكد صعوبة التغيير، وخاصة في مجال القراءة.

 

التفاوت في القابلية للتغيير:

الطفولة هي أفضل مراحل العمر لتكوين عادة القراءة، بوصفها تتمتع بطاقة بكر، متطلعة إلى المعرفة، لم تتأثر بأي من الشوائب التي تدعوها للعزوف، ولم يكسها الصدأ الذي يمكن أن يعزلها عن أجواء الثقافة. فهي الأجدر بالاهتمام، وتوفير المناخ الملائم للتشجيع على القراءة، وغرس بذور محبة القراءة، والاعتياد عليها، وفي هذه المرحلة، تجدر العناية بالمادة المقروءة، من حيث سهولة الألفاظ، ووضوح معانيها، وعدم غرابتها. ومن حيث إتقان الطباعة، ووضوح الأحرف، وطول الأسطر. ومن حيث سهولة التراكيب، وملاءمة الموضوعات، وتوافر عنصر التشويق في الأسلوب. ومن حيث الاختيار، كي نجعل الكتاب من بين أفضل لعبه المحببة إليه.

كما تجدر العناية بتعليم الأطفال العادات السليمة في القراءة، لأنّ اكتسابهم لأية عيوب قرائية في هذه المرحلة يجعل من الصعب تصحيحها في مراحل العمر القادمة. ومما يجب تعويدهم عليه، القراءة جملة جملة، فالطريقة الجزئية تنطوي على عيب جوهري. كما يجب تعويد أعينهم على القيام بحركات سليمة منتظمة، تعينهم على التركيز وعدم التشتت.

وفترة الشباب كذلك، زاخرة بالإمكانات عن توافر الحوافز، ومن الضروري جدّاً الاهتمام بهذه المرحلة، وتوفير المناخ الثقافي الملائم، لمتابعة عادة القراءة بعد مغادرة مقاعد الدراسة، فأي إهمالٍ أو تراخٍ في هذه المرحلة سوف يؤدي إلى ترك القراءة، وتراكم الصدأ على فكر وثقافة الشاب، حتى يتحول إلى قارئ صدئ.

أما في سن الشيخوخة، فمن الصعب أن يقبل المسنون على المطالعة، بعد أن هجروها في سن النضج، رغم ما توفره لهم الشيخوخة من أوقات الفراغ. بينما يستمر المسنون المولعون بالقراءة منذ شبابهم، ويستمتعون بما تتيحه لهم القراءة من تعويض عن الفراغ، وتواصل مع الأجيال، وإبعاد الشعور بالعزلة عنهم.

 

التفاوت في سرعة التغيير:

إنّ التغيير في المواقف من القراءة، وفي عادات القراءة، تتفاوت إمكاناته وسرعته بحسب اختلاف الأفراد، كما تتفاوت بحسب اختلاف المجتمعات.

فلكلّ فرد ظروفه الشخصية، وحوافزه، وملكاته، وإمكاناته، ومشكلاته، فإذا توافرت الرغبة بالقراءة لدى الفرد، فإنّ عنصر الصلاحية والقدرة يعتبر عاملاً مهماً في سرعة تحقيق هذه الرغبة، فكما الطفل البطيء في عدوه، البليد في حركاته، لا يفكر بالانضمام إلى فريق كرة القدم، فكذلك البطيء في فهمه، المتبلد في ذهنه، سوف يصعب عليه الانخراط في سلك القارئين المجيدين، ومع ذلك فإنّ محاولته سوف تكون مقدرة في المجتمع، ومضاعفة الأجر عند الله، كما ورد في حديث الرسول (ص):

"الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن، ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق، له أجران".

وفي كلّ الأحوال فإنّ الفرد جزء من مجتمع، ويخضع نشاطه، ورغبته في التغيير للفرص والمناخ والخدمات التي يقدمها له المجتمع، فإذا أتيح لهذا الفرد: نظام للتعليم وللقيم الثقافية يحفزه ويكافئه، ومراكز تزويد تيسر له الحصول على المطبوعات وتعاونه، وأسرة ترحب برؤيته منصرفاً للقراءة وتشجعه، وأصدقاء يحيطون به يحاورونه ويساعدونه، ونظام اقتصادي يدعم قراءته، فسوف يختزل الزمن لتحقيق رغبته.

وقد لا تتوافر له هذه الظروف المثالية، فيحتاج إلى زمن أطول، وجهد أكبر، فليبذل جهده، كي يعوّض ما قصر به المجتمع من حقّه عليه، فإنّ القراءة سوف تعطيه من السعادة، ومن رضا النفس، ومن التوازن والتكيف مع المجتمع، أضعاف ما بذل.

 

مراحل عملية التغيير:

يمرُّ الأفراد – خلال عملية التغيير – بسلسلة من المراحل:

1-  الوعي: وهو بداية التعرف على فكرة جديدة، أو منتج جديد، أو طريقة مبتكرة.

2-  الاهتمام: وهو البحث بنشاط عن مصادر لمعلومات غزيرة ومفصلة حول هذه الفكرة لتحديد مجالات الإفادة منها، وإمكانات تطبيقها.

3-  التقويم: تفحص المعلومات وغربلتها.

4-  التبني: وهو التمثل الكامل للفكرة.

إنّ تطبيق هذه المراحل في مجال القراءة يختلف بعض الاختلاف:

فالوعي (وهو التعرف على فكرة جديدة) يمكن أن يولد مصادفة، نتيجة استماع محاضرة، أو ندوة، أو محاكاة لنشاط أقران.

ويتلوه الاهتمام بقراءة موضوع معيّن، أو كتاب معيّن، أو مجلة بعينها.

وقد ينتج عن ذلك تقويم واعٍ أو غير واعٍ للفكرة الجديدة.

أما التبني: فإنّه يتطلب عدداً كبيراً من التجارب المُرضية. ►

 

المصدر: كتاب القراءة... أوّلاً

ارسال التعليق

Top