◄يحلو الشباب ويكون أكثر متعة حين يصنع الحياة ليستمتع بطيّباتها ويجعل الناس يستمعون بها، وإنّما تصاب الحياة بالعطل ويفتك بها الخلل إذا تخلّى الفتيان عن الإيجابيّة وانضمّوا إلى موكب الكسالى والنيام والعاجزين وبرحوا عالم المجدّين والأذكياء، حينئذ تقفر الأيام وتنتشر الرداءة ويسود الانتحار المعنويّ والاجتماعيّ، وإذا كان أبناؤنا في حاجة إلى تذكير بالقدوات الصالحة الّتي خلّدها القرآن الكريم فها هو إبراهيم ("سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم"- سورة الأنبياء، آية 60) يكسّر الأصنام التي تشير إلى البدائيّة ويشيّد صرح التوحيد حيث الحريّة وإنسانيّة الإنسان والخضوع لله وحده، وابنه إسماعيل يمتثل للأمر الإلهي ويمدّ رقبته للسكين معلناً إلغاء الذات لينتصر المثل الأعلى، ويوسف يفشل معه سلاح الإغراء والتهديد ويؤثر محنة الدنيا على محنة الدين ويصمد أمام المعصيّة وهي تُغاديه وتُراحيه وتُعشّيه وتُمسّيه، ولا يجد موسى من الأتباع سوى مجموعة من الشباب تشدّ أزره ("فما آمن لموسى إلاّ ذريّة من قومه..."- سورة يونس، آية 83) وأصحاب الكهف نموذج للفرّار بإيمانهم خشية أن يجرفهم الضلال المستشري في مجتمعهم، فقد فضّلوا مغارات الجبال على القصور التي تلوّث الإيمان وتفتن المؤمنين، لأنّهم كانوا أقلّية ضئيلة لا تقوى على التغيير.
كلّ هؤلاء صنّاع الحياة دينيّاً وأخلاقيّاً، وإنّما تأتي البطولة من العقل الذكيّ المتعلّم الّذي يطوف بين الأفكار الحيّة والمنعشة ويتعالى عن كلّ فكر ميّت وقاتل، ومن القلب الحيّ التقيّ المفعم بالمحبّة والرحمة والإخلاص، ومن حواسّ إيجابيّة نشطة تتفاعل مع الكون والحياة، فالعين تبصر الجمال في كلّ شيء وتطرب به، والأذن تتشنّف بالصوت النديّ أينما انبعث في الطبيعة، واليد تمسك بالقلم لتكتب أو بالريشة لترسم أو بأداة عمل لتنتج أو بالسلاح لتدافع عن الحقّ وتدحض المعتدي على الأرض والأعراض والعقيدة، هذا الجوّ حريّ بإنقاذ الشباب من عوامل الخوف والقلق والسحق ووضعه على طريق التجديد والبناء حيث يتخطّى حواجز الزمان والمكان ليحلم ثمّ يحوّل أحلامه إلى إبداع يحتضنه الزمان والمكان، ولن يكون هذا الشباب إلاّ جامعاً بين الأصالة والمعاصرة، متمسّكاً بقيمه وأخلاقه، متفتّحاً على الثقافات والأفكار والأذواق، وذلك ما يتيح له أن يطرح الأسئلة المحرجة ويقتحم الأبواب الموصدة ويغوص في الأعماق ولا يقنع بالسطحيّ ولا بالقليل، كيف وقد تعلّم من دينه وانتمائه أن يتحلّى بالطموح والهمّة العاليّة ويسلك مدارج الرقيّ الماديّ والنفسيّ ويتمتّع بالذوق الرفيع ويحسّ بلذّة الحياة وهو ينقلب بين معاني الحقيقة والفعاليّة والأخلاق فيسهم في ارتفاع الحضارة إلى أعلى حتّى لا تنفلت إلى أبعد أو تهوي إلى أسفل.
وإذا كان يُقبل من الناس أن يمشوا نحو أهدافهم فإنّ الشباب مطالبون– ليس أن يهرولوا نحوها فحسب– ولكن أن يركضوا، لذلك تكرّرت في القرآن مفردات: سارعوا، سابقوا، السابقون، وقال الله تعالى: (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) (المطففون/ )26 فهم جيل من العدّائيين الذين يحقّقون الأرقام القياسيّة وهم يتجاوزون ما في طريقهم من موانع وعوائق، ولا يرضون إلاّ بمؤشّري السرعة: المسارعة والسّبق، فمن يقتحم رحابهما إذا تهيّب الشباب الملتزم؟ وكيف يجوز له التهيّب ودينه قد جعل منه "طاقة" ذات نوعيّة رفيعة تدفعه إلى الفعل والإنجاز والعطاء والبذل؟ ولا يتمّ ذلك إلاّ بالفهم والتوغّل في المعرفة بشتّى ميادينها وأبعادها والتوافق مع السنن الّتي تحكم الكون والإنسان والمجتمعات.
والشباب الّذي تحلو به بالحياة لا يمتهنّ النحيب ولا يمسي ويصبح على الحديث عن مشكلاته وإنّما يمسك هذه المشكلات – عاطفيّة ودراسيّة ومهنيّة واجتماعيّة – إمساكاً قويّاً يطوّعها للحلّ لأنّ وعيه لا يجيز له ترحيلها لغيره ولا الاتّكاء عليها ليعفيّ نفسه من المسؤوليّة. لا، بل هو المسؤول قبل غيره، فالأنظار متوجّهة إليه والصغيرة والكبيرة تحصى عليه لأنّه لا يعيش لنفسه ولكن لدينه وأمّته والبشرية كلّها، فهو لسان الدعوة إلى الله، إلى الخير والإبداع والتحرّر، وكأن الفتيان والفتيات منشورات حيّة تدخل كلّ بيت وناد ومجلس تبحث عن الجمال وتنشر ألوانه، وتطارد القبح والباطل والمنكر وتنكّس أعلامه، حتّى يجد الناس طعم الحياة الطيبة في المأكل والملبس والمسكن والزواج وطلب العلم ونصرة الحق وتدفّق الابتسامات وهدّ كلّ الأوثان.
إن الشباب أمل الأمّة حقّاً حين يترفّع عن الانحلال الخُلقي والانحراف النفسيّ والاجتماعيّ ويتمسّك بأهداب الدين والمثل العليا والقيم النبيلة وييمّم وجهه تلقاء الغايات الكبرى ويؤدّي على بصيرة واجبات الخلافة والعبادة والعمارة، وكم تكون أمّة الإسلام فخورةً لو تمّ اكتشاف علاج نهائيّ لمرض السرطان أو داء فقدان المناعة على يد عالم مسلم يتعبّد في محراب البحث العلميّ تعبّده في محراب الصلاة، أبلى زهرة شبابه في دراسة هذه الأمراض واستكشاف كنهها وتجريب أدويّة تجلب الشفاء للمصابين بها، إذن يحقّ لنا أن نبتهج ونفخر، ومعنا البشريّة كلّها، لأنّه يكون قد أسدى لها خدمة لا تقدّر بثمن، وماذا كنّا سنجني من التقدير لو كان مخترع المصباح الكهربائيّ مسلماً أزاح الظلام عن البيوت، أو مكتشف البينيسيلين أو الليزر !
بهذا يعيد الشّباب الاعتبار للإنسان المسلم الذي يحتاج بإلحاح إلى من يحوّل ذهنيّته من الألم والإحباط إلى الأمل ومنه إلى الفعل والممارسة، ونقطة قوية يسجّلها شاب أو فتاة كفيلة بدحرجة معاني الفراغ والادّعاء والعجز والتخاذل الفكريّ، وهذا فقه الحياة بعينه.
وهل تطيب الحياة – وهي في عقيدتنا مزرعة للآخرة – إلاّ بمثل هؤلاء الشباب وهذه الآمال والرغبات والأحلام؟ وما قيمة شباب رضي بالهون والدون والتزم هامش الحياة وتحرّج من خوض لجّتها، وربّما تذرّع بفساد الزمان وتطاول الفتن، ومن للزمان يصلح أهله، ومن للفتن يكشف غمّتها إذا توارى أبناء الإسلام وبناته؟►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق