عندما تغدو العلاقة مع الآخرين غير محتملة، تنشأ علاقة مع الأشياء، تترسخ حتى الموت أحياناً.
تنطوي التبعية للغير على منحدرين: نفسي وبدني. في التبعية النفسية، هنالك أولاً الرغبة في تجريب آثار مستحضر ما، مرة أخرى، هذا التجريب الذي يتمخض بعد ذلك عن أفكار وسلوكات تهدف إلى الحصول على المستحضر (المنتج). أما التبعية البدنية فتتسم بظهور متلازمة الفطام Syndrome de Sevrage عندما يتوقف الشخص عن التناول المنتظم للمستحضر المعني. ولا تسير حالتا التبعية هاتان على نحو متواز بصورة دائمة. وفي المراهقة، تكون التبعية النفسية هي الغالبة عادة، وتظهر الأخرى في وقت لاحق بشكل عام، اللهم إلا في حالة بعض المستحضرات.
عندما نتحدث عن التبعية النفسية، فإنه من الأهمية بمكان ألا نقتصر على الإشارة إلى المستحضرات موضع التجريم عادة: الحشيش، والتبغ، والكحول، والحالاّت (المذيبات) Solvants، بل يجب أن نشير إلى الاستهلاك المنتظم للموجهات النفسية (1) Psychotropes أيضاً، وبعض السلوكات الغذائية، مثل الضور (2) Boulimie – الذي يعد نوعاً من إدمان السموم الغذائي الحقيقي – وبعض السلوكات المتكررة التي تنطوي على مضاعفات وخيمة... الخ.
ربما أمكننا أن نرى في مثل هذا التجميع لمواضع التبعية خليطاً غريباً قد يؤدي بنا إلى تمييع أن تشويه مفهوم التبعية. إلا أنّ التحليل المعمق للتصرفات الفردية يظهر أن لدى الشباب المعنيين نمط "علاقة التبعية" نفسه، وعلى نحو وثيق جدّاً، مع المستحضر أو السلوك. متى تكون هنالك "علاقة تبعية"؟ يحدث لك عندما يكرس الفرد قسماً مهماً من أفكاره ومن أفعاله للمستحضر الذي يكون موضوعا للتجريم، سواء كان ذلك من أجل الحصول عليه وتناوله أو من أجل الإقلاع عنه ورفض تعاطيه، أو كذلك من أجل الانتقال من هذا الموقف إلى الآخر. ونلاحظ نمط العلاقة هذا مثلاً لدى الكثير من الفتيات الضوريات Boulimiques، اللواتي يكرسن وقتهنّ وأفكارهنّ لتجنب الغذاء أو للبحث عنه.
ووفقا لهذا التعريف، هل تعتبر التبعية سلوكاً مميزاً للمراهقة؟ أو بالأحرى، هل يمكن النظر إلى المراهقة على أنها مرحلة تتميز بنشوء سلوكات تقوم على التبعية؟
لنتذكر أنّ العمر المتوسط لمن تتولى الهيئات الطبية علاجهم، من بين المدمنين على سموم الهيروئين هو سبعة وعشرون عاماً، فهناك إذن فارق كبير بين هذا العمر والأعمار المعتادة للمراهقة... في الواقع، تشير المشاهدات إلى أن غالبية سلوكيات التبعية، بل وكذلك طلبات العلاج الهادفة إلى محاولة التخلص من علاقة التبعية هذه، موجودة لدى الشبان الراشدين تحديداً. ولكن عندما نستعرض أحداث حياة هؤلاء وتاريخ تناولهم المستحضر، يتبين لنا بما لا يدع مجالاً للشك أن بدايات سلوك هذا التعاطي قد تزامنت مع المراهقة، نحو سن خمس عشرة سنة إلى ست عشرة سنة.
ولكي يكون الأطباء السريريون أدق رؤية حول الموضوع، فإنهم يلجأون إلى "أرقام التحريات" الوبائية الحديثة التي ينجزها "المعهد الوطني للصحة والدراسات والبحوث الطبية" Inserm، والتي تشكل اليوم القيمة الوحيدة المعترف بها، في عالم مكمم ومقياسي، حيث تميل الحالات السريرية الفردية إلى فقدان مصداقيتها. فماذا تقول هذه التحريات؟ تقول إنّ العادات الاستهلاكية تنشأ وتنتظم نحو سن المراهقة. ويعطينا تحر حديث أنجزه معهد Inserm، بإشراف "ماري شوكيه"، وقد شمل 12391 تلميذاً وطالباً (المرحلتان الأولى والثانية من التعليم الثانوي"، يعطينا أرقاماً إجمالية حول هذه الشريحة العمرية (الجدول رقم 1) ولكن يمكن أن نعيب على هذه النتائج أنها "تكدس" المعطيات حول شريحة عمرية هي أوسع مما ينبغي، وهو ما من شأنه طمس خاصيات الشريحة العمرية الحساسة، شريحة سن 15-19 سنة. وكان تحر سابق، أشرف عليه الفريق الوبائي نفسه، قد قارن مختلف السلوكات الاستهلاكية خلال ثلاث مقابلات، بفارق زمني قدره عام واحد (في سن 16، 17، 18 سنة)، مع المراهق نفسه.
وهكذا يمكن أن نتبين التغيرات الاستهلاكية التي تظهر بالنسبة للتبغ، والكحول، والموجهات النفسية، والمخدرات اللامشروعة (جدولا 2، 3). إنّ الصبي الفرنسي يضاعف، بمقدار ثماني مرات، بين 16 و18 سنة، من استهلاكه للجعة، وبمقدار أربع مرات للنبيذ والمشروبات فاتحة الشهية، وأربع مرات للتبغ. في العمر نفسه، تبدو البنات أكثر عقلانية، رغم أن استهلاكهنّ يتضاعف. ولدى بعض البنات، تحتل ظاهرة أخرى موقعاً مهماً: ظهور السلوكيات الغذائية غير المنضبطة. وهكذا فإنّ 28% من الفتيات بين سن 16 و18 سنة تعرضن خلال السنة السابقة لنوبة ضور واحدة على الأقل (20.5% عند الصبيان) وتحدث هذه النوبات مرة كل أسبوعين بالنسبة لـ3.6% منهنّ.
في المراهقة، يعاني المراهق الضجر كثيراً. حينذاك، ومن أجل مقاومة آثار الضجر أو الاكتئاب، فإنّه غالباً ما يستعين المراهقون بالمستحضرات (الجدول). وفي حين تلجأ البنات إلى التبغ (78% من فتيات الثامنة عشرة)، يفضل الصبيان الفرنسيون الكحول (32%).
أما فيما يتعلق بالسلوكات المحفوفة بالمخاطر، والتي قد تؤدي إلى الحوادث، وبالأخص حوادث السير، فإنّها تصل دائماً إلى ذروة ازديادها في الشريحة العمرية التي تشمل سن 15-24 سنة.
وتفيدنا التحريات الوبائية بمعلومة أخرى: نادراص ما يستعين المراهق بميتحضر واحد أو نمط سلوكي مخاطر واحد (أو منحرف) إن اقتران سلوكات عدة، من بين السلوكات المحفوفة بالمخاطر، والتي أتينا على ذكرها (التسمم بالتبغ، وتناول الكحول، وحوادث الطرق، والكحول والسلوك الضوري، والمخدرات... إلخ) هو إحدى خاصيات المراهق الذي يكون في حالة خطر.
لماذا تعتبر المراهقة مرحلة حساسة إزاء تنامي سلوكات التبعية؟ من جانبنا، نرى أنّه ينبغي البحث عن أحد مفاتيح الإجابة في تداخل العوامل المرتبطة بالمراهقة نفسها – في جانبيها الفردي والاجتماعي على حد سواء – والعوامل المتعلقة بماضي الفرد، بواقعه المعيش حين كان طفلاً.
"أريد أن أكون حراً، ولا أريد أن أكون تابعاً لأحد"، تلك هي اللازمة المشتركة لدى غالبية المراهقين. من أين تأتي هذه الحاجة الملحة إلى الحرية وتطلب الاستقلالية الصاخب جدّاً في هذه السن؟ ذاك ناجم عن عامل تطور المراهقة النفسي، الذي يسير، على نحو مكثف ووجيز، وفق ثلاثة خطوط توتر رئيسية. الجسد: يتوجب على المراهق أن يمتلك جسماً يتسم بالتغير، وقد بات منذ هذه الفترة مجهزاً بإمكانات جديدة. الأبوان: ينبغي عليه الابتعاد عن "ظلهما المحمول" كي ينجز غزواته الخاصة به، المجتمع: ينبغي عليه الاندماج في المجتمع كي يجد فيه عناصر تعريفه بهويته، بذاته، ووضعه، وموقعه.
وإذا كان كل واحد من هذه الخطوط منبع جهد كموني، فإنّه يمكن أن يتحول إلى تهديد أيضاً. في الواقع، إن امتلاك جسم بالغ يعني اكتشاف الميل نحو الجنس الآخر، والعلاقات العاطفية، ويعني خطر فقدان الدوام (الاستمرار) والاستقلال أيضاً، كما أنّ الابتعاد عن الأبوين يعني إمكان اكتشاف الذات بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وبالتالي أيضاً إمكان الشعور بالضياع والإهمال، ويعني الانضواء في وسط الآخرين والمشاركة في وثوب الجيل مع ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر الخضوع الذي يحمل تهديداً للهوية.
وهكذا، يبقى المراهق متأرجحاً بين حالتين على الدوام. فمن جهة، هناك طموحه القوي إلى الخبرات الجديدة، والمعارف، والحدود، والموضوعات الجديدة التي يسعى لامتلاكها.
من جهة أخرى، هناك مخيلته رغبته في أن يكون مستقلاً وفي ألا يحتاج لأي شيء. وهذا هو ما يسمى "الرغبة النرجسية في الحفاظ على الذات" Desir de preservation Narcissique لأن إدراك الرغبة أو الحاجة يعيشه المراهق فوراً على أنّه تهديد لكماله ولنرجسيته.
إنّ ذلك يتأكد حينما ندرك أن صورة الذات، في هذا العمر، تبدو متغيرة وغير مستقرة للغاية، وكلما كان "الشك النرجسي" كبيراً لدى المراهق كانت حاجته إلى تأكيد استقلاليته أقوى. وينتهي ذلك في الصراع المسمى "الصراع النرجسي – الغيري (بالمقارنة مع الذات)" Narcissico – Objectal، الذي نلمسه في خضم المراهقة. وهذا ما يفسر جزئيا لحظات المعاناة، والوعكة، والمؤشرات المعتادة للصراعية Conflictualite النفسية. وتتمثل إحدى الحالات النموذجية التي تغذي هذا الصراع في العلاقات مع الأبوين. في الواقع، يعيش المراهق عبر هذه العلاقات حالة من التناقض: كيف يبتعد عمن يرغب في الاقتداء بهما؟ كيف يبتعد عمن يرغب في الاقتداء بهما؟ وكيف يمكنه السيطرة على رغبته في اكتساب شيء من شخصية والديه مع تأكيد ذاته في الوقت نفسه؟
إنّ هذا التوتر إذن، بي رغبة ملتهبة في الموضوع، وضرورة تأكيد كامل استقلاليته، وغياب حاجته، هو الذي يضفي أهمية على مسألة التبعية عند المراهق. وفيما يتجاوز الإطار النظري للتجسدات العملية لهذه المسألة فإنها ذاتها ممكنة الإدراك تماماً، وبالأخص في العلاقة مع الآخرين والأشياء.
إن كلاً منا يعقد مع عناصر محيطه المهمة (الأسرة، والأصدقاء..) علاقات ليست حقيقية وحسب، بل أيضاً خيالية وداخلية خاصة. وهذا ما نسميه "علاقات الموضوع" Relations D'object. ولدى المراهق، سينعكس هذا الشكل مع العلاقة غالباً في انتقال الشخص إلى الشيء (أي المنتج: التبغ، الكحول،...)، لأن ذلك في نظره هو إحدى الوسائل التي تتيح له الالتفاف على التبعية إزاء الآخر.
في الواقع، تنطوي العلاقة مع الأشخاص على اعتراف الغير وضرورة الارتباط مع الآخر في استعدادات مثيلة من أجل "كينونة معاً" بطيبة خاطر. باختصار، فإن تلك العلاقة تنطوي على التبعية إزاء رغبة الآخر وليس فقط إزاء رغبة المراهق الخاصة، ذلك في حين أنّ العلاقة مع الأشياء تكون مرتبطة برغبته الخاصة وحدها عندما يكون الشيء موجوداً... لهذا يصرخ المراهق بقوة طالباً أن يكون مستقلاً وهو يشعل لفافة تبغه باهتياج شديد كي يهدىء توتره. ومن المؤكد أنّ الراشدين يفعلون الشيء نفسه، ولكنهم لا يفعلون جميعاً، أما من يقومون بمثل ذلك منهم فإن بداية هذا التصرف تكون قد انبثقت إبان مراهقتهم.
يلاحظ هذا التقهقر من الشخص إلى الشيء على نحو واضح جدّاً في الطب السريري الفردي: يظهر في أوقات الانطواء على الذات، وحينها تتفاقم السلوكات الاستهلاكية.
وتؤكد التحريات الوبائية هذه الواقعة السريرية (الجدول 4) يلجأ المراهق/ المراهقة عن طيب خاطر إلى التبغ أو إلى الكحول هرباً من آلام الضجر والضيق. إلا أن هذا الضيق والضجر هو حالة عاطفية مميزة إلى درجة كافية للمراهقة، وهي تنم عن محاولات التحرر من استثمارات الطفولة ولذاتها. وهكذا، عندما نسأل طفلاً "ماذا تفعل؟" يجيب: "إني ألهو"، في حين أنّه إذا ما سئل المراهق السؤال نفسه فإنّه يجيب: "إنني ضجر". إلا أن اهتمامات واستثمارات وعلاقات حب الراشد ليست بعد في متناول المراهق. وإذا لم يكن هذا الأخير يستطيع تحمل علاقة قادمة ومحتملة مع الغير (خوفاً من التبعية للآخر دائماً)، فإنّه يخشى أن تتحول هذه العلاقة إلى استهلاك مباشر للمستحضر (المنتج).
وهناك عامل دفع آخر نحو تبعيات مختلفة: العلاقة مع الأنداد. فعندما يبتعد المراهق عن المحيط الأسري، فأين يذهب؟ يذهب أولاً وقبل أي شيء آخر إلى أنداده، أصحابه (أثيريه). هنا، بين هؤلاء، سيؤكد تمايزاته التي تخص جيله. إلا أنّ العلاقة مع الأنداد تنطوي أيضاً على متطلب قوي جدّاً غرضه تمثل المراهقة، حيث تمارس الجماعة (عصبة الأنداد)، التي عليها تأكيد (إثبات) أصالتها (تفردها وتميزها من خلال المتممات الثيابية، والموسيقى والنشاطات... إلخ)، ضغطاً مستمراً على الفرد من أجل دفعه للقيام بما يقوم به بقية الأعضاء. وإذا كان هذا الربط التخلفي مهماً من أجل الاندماج الاجتماعية مستقبلاً، فإنّه يظهر وحساسيته وتأثره حيال تبشير (أفكار ونشاطات...) الأنداد. كما أن مثل هذا التأثير يفعل فعله في الاتجاهين. فكلما ازداد شك الفرد بهويته ازدادت حاجته إلى الأخذ بالتصورات الخاصة التي تكونها وعلى العكس، كلما شعرت الجماعة بضعفها تنامت حاجتها إلى أفراد يؤكدون، على نحو متذبذب (عابر)، ملامح سلوكية سهلة التخلق (التمثل). نفهم إذن أن استهلاك المنتج على ارتباط وثيق بقوة النمط من العلاقات. وقد استخلصت تحريات عديدة، كتلك التي قامت بها م. شوكيه، أنّ "التدرب على تناول المخدرات يتعلق بعمق العلاقة القائمة مع الأنداد".
ولكن، كيف يمكن تفسير هذا النوع من "التبشير"؟ إنّه ناجم عن سبب بسيط جرى التحقق منه مرات عديدة: إنّه بمنزلة ستار لإخفاء سلوك غير مألوف (شاذ وغريب). إنّ المراهق الذي يشعر بالحاجة إلى التبغ، أو الجعة، أو الثمل، أو المخدر، أو القيام بالمخاطرة كشاهد على الضيق أو عدم الارتياح يحتاج إلى جعل تصرفه هذا عادياً (مألوفاً) كي لا ينكشف ستر هشاشته الشخصية. من هنا، فإنّه يحاول توسيع استهلاكاته أو سلوكاته لتشمل الآخرين، بحيث تخفي ما هو ماثل خلفها. وهكذا يحتل "تبشير" الأنداد موقعاً بارزاً في النتائج الإحصائية التي أشرنا إليها.
إنّ التحرر من رباط الأبوين ودور العلاقات مع الأنداد وواقع المراهق المعيش هو مع ذلك وثيق الارتباط بماضيه. ذلك أنّ المراهقة لا تنبثق من العدم: تترك الطفولة، وبالأخص الطفولة الأولى، بصمات بالغة الوضوح على المراهقة. وربما أمكننا أن نقارن المراهقة بالصورة الشمسية المسحوبة عن صورة سلبية (نيجاتيف) كانت قد التقطت منذ سنوات عدة سابقة. إن سحب الصورة السيىء يمكن أن ينتج عن صورة سلبية جيِّدة، ولكن ربما كان من الصعب جدّاً، من الناحية الأخرى، سحب صورة جيِّدة عن صورة سلبية معيبة. وهكذا الحال مع سلوكات نمط التبعية الذي يميز المراهقة، هذه السلوكات التي تبرز فيها نوعية علاقات المراهق المبكرة عندما كان في بداية طفولته، مع محيطه، بيئته، إذ من هذه العلاقات ستتولد نوعية قاعدة شخصية المراهق، وهو ما يمكن أن نسميه "القاعدة النرجسية" Assise Narcissique.
عندما تكون الاقتداءات الأولى المنحدرة من الطفولة الأولى (قبل ثلاث سنوات) قد وفرت للنرجسية قاعدة كافية، فإن ذلك يتيح للمراهق الابتعاد عن أبويه (الموضوعات الأوديبية) دونما شعور بالتهديد أو الضعف. وقد يقترب أيضاً من موضوعات أخرى، ناشداً فيها الاستمتاع والانفعال، دون أن يعيش هذا النشدان على أنّه إثارة لا غفران لها أو جاذبية فيها ما يهدد شخصيته.
بالمقابل، عندما يكون الضعف قد اعترى هذه القاعدة، يغدو من الصعب جدّاً على المراهق أن يشعر بهذه الحاجة إلى الموضوع. وإننا لنلمس أحياناً، في أساس الضعف النرجسي، حالات "تعطل" مبكرة في العلاقات الأولى، وهي حالات ناتجة مثلاً عن أوضاع انفصال عن الأبوين أو المحيط المباشر (استشفاء متكرر، أو دخول مصح، أو تغيرات متوترة وفوضوية...) أو عن روابط "تكافلية" Symbiosiques (بالأحرى تواكلية) تميزت بمقصوريتها Exclusivite وتلونها بالقلق غالباً. إن من شأن هذين الحدين (روابط مفرطة القرب والوثوق أو روابط مفرطة التمايز واللامبالاة) أن ينتهيا إلى النمط المرضي نفسه. وستترك عقابيل هذه الحالة أو الحالة الأخرى بصماتها على نوعية (كيفية) الانفصال في المراهقة، الانفصال الذي يغدو ضرورياً بتأثير متطلبات اندفاعية Pulsionnelles خاصة بالفرد. ذلك أنّ الفرد لا يكون مهيأ لهذه التجربة الحياتية الحتمية. وهكذا فإن أوضاع (حالات) الانفصال المتعددة أكثر من المعتاد، والطويلة أكثر مما ينبغي، والمختلفة أكثر من المألوف، وكذلك انعدام الانفصام (الابتعاد) تماماً، يمكن أن تسبب للمراهق عذاباً (أو قلقاً) لا يحتمل، هذا العذاب الذي ينشأ عن إدراك التبعية إزاء الأشخاص وعن ضرورة كبح هذه التبعية. وفي الحالات الأكثر شدة، قد يصل ذلك إلى حدود عدم تحمل إدراك التبعية إزاء حاجات الجسد الجديدة، وبالأخص تلك المتعلقة بالرغبة في الجنس الآخر.
وحينها، يمثل خطر اعتداء (مهاجمة) المراهق لهذا الجسد (محاولات الانتحار) أو منازعة هذه التبعية الجسدية باللجوء إلى التبعية للمستحضرات أو لسلوك ما، وفي بعض الأحيان، يلجأ المراهق إليهما كليهما (حالات الانتحار شائعة للغاية في حالة سلوكات الإدمان على سموم المخدرات).
إذن، ينبغي التمييز في سلوك التبعية، بين العوامل الناشئة عن المراهقة (مرحلة الهشاشة فيما يتعلق بظهور وتجريب سلوكات التبعية) وحالات التعطل التي تعتري العلاقات المبكرة إبان الطفولة الأولى. وتظهر هذه العلاقات كعامل جوهري في إبقاء هذه السلوكات وإدامتها وسيرورة تصعيدها.
وختاماً، فإذا كان الكثيرون من المراهقين يتبعون، على نحو عابر أو مؤقت، سلوكات المخاطرة والاستهلاك، فإن عدداً كبيراً منهم يتخلون عنها بعد عدة أشهر أو عدة سنوات لاحقة... إن ما يقرب من نصف المراهقين يكفون عما يستهلكونه في غضون السنتين التاليتين، وفقاً لدراسة "م. شوكيه" وحين يلتجىء المراهق لبعض الوقت إلى سلوكات التبعية، فإن ذلك يكون من أجل أن يتحمل هذه المراهقة، التي تثقل عليه كظاهرة هي في الوقت نفسه أسرية (ضرورة الانفصال عن النماذج الوالدية مع ما ينطوي عليه ذلك من تأثير مضعف مؤقت) واجتماعية (ضرورة التشبه بالأنداد مع ما ينطوي عليه ذلك من هشاشة اجتماعية مؤقتة).
"إذا كان ذلك كافياً للتسمم فإنّه لا يكفي كي يصبح الفرد مدمناً على السموم"، على حد قول "ج. شارل نيكولاس"، الذي يضيف: إن مرض التبعية للمخدر يقع حصراً في ميدان النرجسية. ومن هنا أحد جوانب وخامته. وكلما كان الشخص أشد إدماناً على السموم، تنامت غلبة إشكاليته النرجسية. لقد قيل، وكتب الكثير حول السوابق الطفلية للمدمنين على سموم المخدرات. ووفقاً لما لمسناه حول أهمية نوعية (كيفية) العلاقات المبكرة، يبدو أنّ الاستمرار في سلوكات التبعية وتصعيدها مرتبط بحالات وفترات تعطل قيام النرجسية. ولما تغدو القاعدة النرجسية ضعيفة فإنها تعمل على استمرار سلوكات التبعية، إن لم تعززها.
حينذاك، يصبح هدفها الحاجة إلى الموضوع. باللجوء إلى المواد المولدة (المثيرة) للأحاسيس Sensations.
من جانب آخر، تتسم هذه العيوب النرجسية بانعدام وجود نسج للانفعالات، مما يخلف ثغرات ونواقص لا سبيل إلى ملئها إلا بالأحاسيس. إنّ الماضي الفارغ من الانفعالات لابدّ أن يملأه حاضر مفعنم بالأحاسيس. إذن تبقى حالات وفترات تعطل النرجسية الفرد في ميدان الأحاسيس، هذا الإبقاء الذي يجد تفسيره، هو نفسه في النوعية الرديئة، المبكرة لروابط الموضوع التي لا تتيح تحمل وقت الانتظار الضروري هذا لتحول الحاجة إلى رغبة. حينها، تبقى الانفعالات خاضعة لهيمنة الأحاسيس. إلا أنّ الإحساس لا يترك أثراً نفسياً، لأنّه تحديداً ينتمي إلى ميدان التفعيل (التنشيط) الحسي: إنّه من نمط الحاجة وتكرارها. وهو مرتبط بالفعل. وينجم عنه، في حين يصنف الانفعال في الميدان الرمزي للكلام.
يولد الفعل الأحاسيس، ويثير الكلام الانفعالات. وبالعكس، تطلق الحاجة الحسية الفعل والبحث عن الوضع الحسي (الملموس). يمكن القول إذن إن مرض التبعية للمخدر هو قبل كل شيء مرض أحاسيس، هذه الأحاسيس التي تستدعي وجود الموضوع وتتطلب القيام بالفعل.
تشكل المراهقة ظرفاً لانبثاق سلوكات التبعية، وإذا كان المرض النرجسي شرطاً للإبقاء على التبعية إزاء سموم المخدر، فإنّ الحاجة إلى الإحساس هي شرط تصعيدي للتعلق بالمخدر والتبعية له. يبدو من الواضح إذن أن هنالك اتصالية Continuite بين كل من النقص والعجز خلال التأثيرات المبكرة، والعيب النرجسي، والإبقاء على الأحاسيس، والتبعية إزاء الموضوع المحسوس (الملموس) والنزوع إلى الفعل.
وليس "ب. جاميه" إلا مصيباً في تركيزه على خطر سلوكاتالتبعية إزاء سموم المخدرات إبان المراهقة. والواقع أنها تمثل سلوكات الإعطاب الذاتي Autosabotage المشحونة بقدرة قوية على التعزيز الذاتي Autorenforcement وإلى جوار "القدرة" العقاقيرية الموجهة نفسياً، والخاصة بكل مخدر فإنّه يمكننا أن نفهم قدرة التعزيز الذاتي والإعطاب الذاتي على أنها الخاصية التي تميز ميدان الأحاسيس. لا يمكن للأفراد الذي سيصبحون مدمنين على سموم المخدرات المرور إلا بلحظات متقطعة من الإحساس، وليس عيش الانفعالات.
إنّنا جميعاً نعيش حالات من التبعية: إزاء الهواء الذي نتنفسه والمواضيع المحسوسة (الملموسة) التي تسم ذكرياتنا والكائنات العزيزة التي تقاسمنا مشاعرنا. ولكن، فيما خلا الحاجات الفيزيولوجية المتعلقة بجسدنا، يثير وعي هذه التبعيات فينا انفعالات نحن على قناعة، وعن حق، بأنها تخصنا نحن ولا تتعلق بشيء آخر سوى أفكارنا، ويطلق البعض على ذلك اسم الأبابة (الوطان) Nostalgie.
بالمقابل، عندما يوقظ وعي هذه التبعيات فينا إحساساً أو نقصاً في الإحساس، أي ثغرة، أو فراغاً أو فجوة، فإن هذا الوغي يغدو حينها عصياً على التحمل. عندئذ ينبغي تعويض، أو إرضاء، هذا الوعي سريعاً وتقنيعه بتكرار الإحساس، والبحث عن الموضوع المحسوس الذي يحركه، والتأكيد أننا لسنا بحاجة لأحد كي نناله. ذاك هو التناقض الذي يقع فيه المراهقون، وقد يمرض بعضهم، ممن عاشوا في السابق تبعية مؤلمة. حينها قد يرفضون "التبعية العقلانية"، هذه التبعية التي ينبغي على كل مخلوق بشري أن يقبلها كي يندمج في علاقة التبعية للأشياء الاستهلاكية.
ارسال التعليق