◄"كانت الصداقات في الزمن القديم نادراً ما تتجاوز البيئة الجغرافية الضيقة التي يعيش فيها المرء، وقلما ينسج أحدهم صداقة وثيقة مع أفراد يقعون خارج بيئته المحدودة.. فالتراث والإبداع الإنساني غالباً ما يصوِّر الصداقة بوصفها وجهاً آخراً من وجوه علاقات الدم والعائلة الممتدة. ولكن هذه الظاهرة الإجتماعية انقلبت – شأنها شأن ممارسات إنسانية أخرى – رأساً على عقب مع الكشوفات التكنولوجية والمعرفية المذهلة التي توصّل لها الإنسان في العقود الأخيرة، فكان لتطور وسائل الإتصالات والإنترنت – بالدرجة الأولى – اليد الطولى في إعادة صياغة ظواهر إجتماعية شتى من بينها الصداقة"
مثلما هو معلوم، حطَّمت الثورة الإتصالية عائق البيئة الجغرافية ومحدوديته، وبالتالي بددت حاجز المسافة التي يفصل البشر عن بعضهم، فلم يعد تماس اللحم والدم شرطاً شارطاً لتحقق الصداقة، في عين الوقت الذي كفَّ فيه الإنتماء إلى بيئة محلية صغيرة عن أن ينهض أساساً لقيام الصداقات. فمع تطوّر وسائل التشبيك الإجتماعي، أضحى المرء قادراً على أن يكتسب أصدقاء جدد في كل لحظة ومن مختلف مجتمعات الدنيا، ولا يقتصر الأمر على ذلك، إذ وفّرت تلك الوسائل بُعداً آخراً مذهلاً في تأسيس الصداقة والتئامها، فقد أصبح بإمكان الأفراد إختصار فترة التعارف التي عادة ما تتطلّبها العلاقات الإنسانية من خلال إيجازهم لسيرتهم الذاتية وعرضهم لأبرز ملامح شخصيتهم واهتماماتهم، ليكون متيسِّراً على مَن هم على شاكلتهم ومتوافقين معهم في الإهتمام والميول الإلتقاء بهم.
وذلك تحديداً الجوهر الذي تنهض عليه وسائل التشبيك الإجتماعي، والذي يمكن تلخيصه على النحو التالي: توفير فضاء إتصالي يلتئم فيه شمل الأفراد الذين تجتذبهم هوايات وميول متشابهة، ومن ثمّ يغدو كل منهم قادر على أن يجد متعته الخاصة مع الآخرين. ولا يتوقف الأمر عند ذلك، فالممارسة الإنسانية تتشعّب كالفضاء الإلكتروني نفسه، فنجد مجموعات خاصة تتكوّن وتتضخّم، وعادة ما يكون قوامها أفراد يتشاطرون الإهتمام بجزئية خاصة أو بهواية غاية في الندرة أو بأفكار قلّما يعرفها الكثيرون.
يتأتّى عن ما سبق حقيقة ساطعة مفادها أنّ الإنترنت أصبح بإمتياز العالم الأكثر رحابة لنشأة الصداقة وائتلاف الأفراد المتشابهين في الميول والطباع. فالمرء يجد على قائمة أصدقائه في وسائل التواصل الإجتماعي العشرات من الأفراد وتتضخّم هذه القائمة يوماً بعد يوم ويندرج فيها أخلاط من المعارف، والمرء قد يرتبط مع هؤلاء بجانب محدَّد أو بجزئية محدَّدة، كما أنّ منهم مَن تكون له مودّة خاصة، وآخر قد لا يكن له المرء في قلبه مشاعر محدَّدة. وفي الوقت نفسه، هناك مَن كان المرء على إتصال يومي أو دائم معهم، وآخرون ربّما لم يتواصل معهم المرء منذ شهور أو في مناسبات عامة. ومع ذلك، فإنّ هؤلاء جميعاً يدرجون في حساب المرء بوسائل التواصل الإجتماعي تحت قائمة الأصدقاء.
ولكن هل من الصواب أن نصف هذه الأنواع من العلاقات بالصداقة؟ وهل تمكَّن الإنترنت من أن يحدث تغيُّراً على ضرب من أهم ضروب العلاقات الإنسانية، والتي جعلها فلاسفة الإغريق القدماء النوع الأرفع لعلاقة الفرد بالفرد؟ وسيكون تناول مفهوم الصداقة عند أحد هؤلاء الفلاسفة نقطة البدء المثلى لمقاربة هذا السؤال. وفي هذا السياق، ربّما كان أرسطو المرشح المثالي عند الحديث عن الصداقة. فقد عرض بطريقة فلسفية منظمة لمفهوم الصداقة في عمله الضخم (الأخلاق إلى نيقوماخوس)، إذ قَسَّم الصداقة إلى ثلاثة أنواع: صداقة المنفعة، صداقة المتعة، وصداقة الخير، حيث يذهب أرسطو إلى القول بأنّ صداقة المنفعة هي تلك التي يكون فيها الأشخاص على توافق متبادل لأن كل منهم يستفيد من الآخر بطريقة معيّنة، فعلاقة المرء التجارية، والصداقات بين الموظفين، وتعارف الطلبة في المدرسة والجامعة، هي نماذج على علاقات المنفعة. أمّا صداقة المتعة، فيرى أرسطو بأنّها تلك التي يسعى من خلالها المرء إلى مصاحبة شخص آخر بسبب المتعة التي تحقِّقها له هذه العلاقة، ومثال على ذلك علاقات الحب والشغف، والعلاقة التي تجمع بين أشخاص يعشقون هواية معيّنة، أو مجموعة تندرج تحت كيان أو تنظيم يرعى هواية يفضلونها. أمّا النوع الثالث من الصداقة الذي يرسمه أرسطو، فهو الصداقة الخيرة، وتلك الصداقة تنهض في نظر المعلم الأوّل على الإحترام المتبادل، وإعجاب كل طرف بالفضائل التي يتحلّى بها الطرف الآخر، ورغبة حقيقية لدى كل منهما لمساعدة الآخر لمعرفته بأنّ الخير الجوهري متجسِّد فيه.
ويستطرد أرسطو في شرحه لثلاثية الصداقة، فيذكر بأنّ صداقتي المنفعة والمتعة تتسمان بالهشاشة، إذ إنّهما سرعان ما تنفرطان وتتبددان حينما يتلاشى الهدف الذي بسبب التأمت الصداقة، فإذا انتقل المرء من وظيفة لأخرى ومن بيئة عمل إلى أخرى، أو تخرَّج في المدرسة أو الجامعة، فغالباً ما تنتهي الصداقات القائمة على المنفعة والتي تشكَّلت في حينه. وكذلك الأمر في علاقة الحب التي تذبل وتنتهي أو حينما يتخذ المرء لنفسه هواية جديدة، إذ يفترق حينها شمل أصدقاء المتعة، ويتخذ كل منهم طريقاً مغايراً. ولكن أرسطو يشدِّد على أنّ الأمر مختلف تماماً في حالة الصداقة الخيرة، إذ تتسم هذه الصداقة بكونها أبدية لا تقضي عليها صروف الزمن، وغالباً ما تتشكّل هذه الصداقة في طفولة المرء أو سنين عمره المبكرة، وتدوم هذه الصداقة طالما بقي الصديق في عيني صديقه متحلِّياً بالفضائل. ويؤكِّد أرسطو على أنّ المرء سيكون محظوظاً للغاية لو أنّه ظفر بمجموعة أصدقاء من هذا النوع.
ومن البديهي أنّ هذا النوع من الصداقات نادر وقلّما يجده المرء ويحظى به لأن طرفي هذه الصداقة هما أساساً من الأشخاص النادرين. ويؤكِّد أرسطو على أنّ الصداقة الخيرة تتطلب كذلك قدراً كبيراً من المخالطة والحميمية، كما أنّها تستهلك كثيراً من الزمن، وهذين الملحمين هما شرطان لهذه الصداقة ولا يمكنها أن تتحقق من دونهما، فالمرء كي يتعرّف بعمق على الفضائل الخيرة للأشخاص يتوجّب عليه أن يخوض معهم تجربة عميقة ويكون على صلة دائمة بهم.
ويذهب أرسطو إلى الجزم بأنّ صداقتي المنفعة والمتعة حينما تنفرطان، فإنّ ذلك ليس أمراً مأساوياً، لأنّ الديمومة ليست صفة لازمة لهما، كما أن طبيعتهما التبادلية تجعلهما أقل شدّة وتكثيفاً من الصداقة الخيرة. ولكن على الجانب الآخر، تعد خسارة الصديق الخير مأساة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. فالمرء طيلة حياته قد يتعرّف إلى أشخاص كثر في محطات مختلفة من حياته، وقد يُكوِّن صداقات منفعة ومتعة حينما يتطوّر في عمله وفي ساعات لهوه، كما أنه قد يرتبط بعلاقات عاطفية تنتهي بالإخفاق والفشل فيحل أشخاص أو شخص جديد مكان القديم، هذه من طبائع الحياة وسننها ولكنها لا تعني على الإطلاق أنّ المرء قد وصل إلى النهاية أو أنّ حياته قد أفضت إلى مرحلة الإنغلاق، في حين تكون خسارة الفضائل والخير الجوهري ثقيلة الوطأة على الفرد.
وفي عصرنا التكنولوجي الحديث، بوسعنا القول أنّ صداقات وسائل التشبيك الإجتماعي (الفيسبوك، التويتر وغيرها) تقوم إلى حد كبير على الترفيه وتبادل المنفعة، كأن تُحرِّك المرء الرغبة في معرفة كل ما هو طريف ومشوق في العالم من أخبار ومعلومات، وكذلك تبادل المنافع كالتطبيقات والألعاب وغيرها. ويمكننا ملاحظة جذور المنفعة والمتعة في صداقات كهذه من خلال مقدار الحرص الذي يمارسه المرء في مراكمة ما يندرجون تحت قائمة الأصدقاء الإفتراضيين وزيادة أعدادهم، لأن ذلك بالضرورة سيجلب كمِّيّة أكبر من التشويق والمتعة، وتعظيم قائمة الإفتراضية أمر يكون المرء حريصاً عليه رغم أنّه قد يجهل حقيقة هؤلاء الأصدقاء وما تختزنه أعماقهم. كما أنّ المرء قد يبقي في القائمة عينها أشخاصاً لا يطيقهم على المستوى الحميمي والشخصي ولكن قانون المنفعة والمتعة يحتم عليه الإحتفاظ بهم في قائمة الأصدقاء.
والبرهان الساطع على أنّ قانوني المنفعة والمتعة أصبحا هما الطاغيان في صداقات وسائل التواصل الإجتماعي، يتمثّل في قيام المؤسسات والكيانات وكذلك بعض الأفراد باستخدام تلك الوسائل لأغراض تسويقية ودعائية، بل يلجأ بعض الأفراد إلى جعل تلك الوسائل منبراً – على سبيل المثال – لعرض أعمالهم الإبداعية أو الفنية. وقد أكّدت مؤخراً إحدى مسؤولات التسويق في أبرز بيت للأزياء الأوروبية بأن وسائل التواصل الإجتماعي غدت الآن المنفذ الدعائي الأوّل لمنتجاتهم، في حين شهدت مكانة الإعلانات الورقية والتلفزيونية تدهوراً كبيراً. وكان اللافت في حديث هذه السيدة قولها بأنّ القدرة على المنافسة تعتمد على الحصول على صداقات جديدة يتفاعلون معها من بين جمهور عريض...!
من الطبيعي أن يصرّ المرء على القول بأن أصدقاءه ليسوا مَن يشتركون معه في الإعجاب بمطرب معيّن أو يستمتعون معه في ممارسة لعبة ما، ولكن مَن يسارعون إلى مساعدته حينما يحتاج إلى عوهم ونصحهم، ومَن يحفظون أسراره ويكونون في الوقت عينه محطّ ثقته.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق