• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الرحمة في السلوك الاقتصادي للمسلم

أ. د. حسين شحاته*

الرحمة في السلوك الاقتصادي للمسلم

◄الرحمة من صفات الله سبحانه وتعالى، وهي من خُلُق رسوله (ص)، ولها انعكاساتها على سلوك المسلم مع نفسه ومع أهله ومع أولاده وأقاربه ومع المؤمنين ومع الناس جميعاً، كما تؤثر على سلوكه في العبادات والمعاملات سواء بسواء. ومن يتدبر التشريع الإسلامي في مجال المعاملات الاقتصادية بصفة عامة، يجد آثار رحمة الله، بل يلاحظ أنّ الله يمزج بين الروحانيات والماديات في إطار متوازن ليحقق للإنسان الإشباع الروحي وهو غذاء الروح والإشباع المادي وهو غذاء البدن.

ومن نماذج رحمة الله في المعاملات الاقتصادية على سبيل المثال ما يلي:

1-    أحل الله الطيِّبات من الأرزاق لعباده: وذلك بهدف تعمير الأرض، كما أمره بالسعي للحصول على الرزق الحلال الطيب، وأصل ذلك قوله سبحانه وتعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك/ 15)، وقوله سبحانه وتعالى: (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) (المائدة/ 88)، ويقول الرسول (ص): "إنّ الله طيب لا يقبل إلا طيباً" (رواه مسلم).

2-    أمر الله بالاعتدال في الإنفاق دون تقتير أو إسراف: فالوسطية في الإنفاق رحمة، والتقتير والإسراف شقاء ونقمة، وأصل ذلك قول الله تبارك وتعالى في وصف عباد الرحمن: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان/ 67)، ويؤكد هذا المبدأ رسول الله (ص): "كل ما شئت، والبس ما شئت دون سرف أو مخيلة" (رواه البخاري ومسلم)، كما أمر الرسول الزوجة بالاعتدال في الإنفاق، فقال (ص): "إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة، كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره ما كسب، وللخادم مثل ذلك، لاينقص بعضهم أجر بعض شيئاً" (رواه الطبراني) وقال (ص): "من فقه الرجل قصده في معيشته" (أحمد).

3-    أوجب الله الإنفاق على الأهل والأولاد وذي القربى وجعلها رحمة وصدقة، وذلك لتقوية رابطة صلة الأرحام وتحقيق المودة والحب، ولتحقيق التكافل والتضامن، يقول الله تبارك وتعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة/ 215)، ويقول الرسول (ص): "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول" (رواه الدرامي)، ويقول الرسول (ص): "إنّ المسلم إذا أنفق على أهله نفقة هو يحتسبها كانت له صدقة" (مسلم)، ويقول (ص) في حديث آخر: "من أنفق على امرأته وولده وأهل بيته فهي صدقة" (رواه الطبراني).

4-    فرض الله سبحانه وتعالى الزكاة رحمة بالأغنياء وبالفقراء، كما أنها تزكية للقلب وإصلاح للنفس وطهارة للمال وللمجتمع، ودليل ذلك قول الله تبارك وتعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (التوبة/ 103)، وقال تبارك وتعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة/ 60)، ولقد ورد عن رسول الله (ص) العديد من الأحاديث عن وجوب الزكاة منها قوله (ص): "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج لمن استطاع إليه سبيلاً" (رواه البخاري ومسلم)، وفي زكاة الفطر، يقول الرسول (ص): "زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين" (رواه أبو داود وابن ماجه). فمن رحمات الله فريضة الزكاة لأنها تغرس الأخلاق الطيبة في الناس، كما تساهم في التنمية الاجتماعية والاقتصادية.

5-    حض الله على الصدقات: فهي رحمة بالأغنياء وبالفقراء، قال الله تبارك وتعالى في وصف المتقين: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة/ 177)، ويقول الرسول (ص): "ما تصدق أحد بصدقة من طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة، فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يُرَبِّي أحدكم فلوه أو فصيله" (رواه مسلم)، كما حث رسول الله (ص) على الصدقات الجارية التي تنفع المسلم بعد موته، فهي رحمة ممتدة له، يقول الرسول (ص): "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، ولد صالح يدعو له، وصدقة جارية، وعلم ينتفع به" (رواه مسلم).

6-    شرع الله الميراث رحمة للميت وللورثة والأقربين واليتامى: يقول تبارك وتعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) (النساء/ 13-14)، ولقد حث الرسول (ص) المسلم على الادخار لورثته فقال: "إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس.." (رواه البخاري ومسلم). ►

 

* أستاذ الاقتصاد الإسلامي

ارسال التعليق

Top