(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) (الشمس/ 7-9).
أيّاً كانت المدارس والإتجاهات الفكرية في تفسيرها للفعل الأخلاقي ومصدر إنبعاث النفس في العمل به.. فإنّها جميعاً تشترك في أنّ السلوك الخارجي للإنسان يعكس ما هو بداخله، سواء كان هذا الداخل هيئة نفسه، كما يذهب إلى ذلك الغزالي كممثل للمدرسة الإسلامية في علم الأخلاق، أو كان ذلك عقله وما يُفكِّر فيه، كما يرى ديكارت، أو كان ذلك العاطفة أو الحاسّة الأخلاقية، كما يُسمِّيها ديفيد هيوم[1]، فالنتيجة واحدة، وهو تأثّر السلوك الإنساني الخارجي بوضعه: النفسي، أو العقلي، أو العاطفي، أو الداخلي ولو جمعت فقلت بها جميعاً، أي بوضعه الأخلاقي الذي هو فيه.
والغزالي يعرف الأخلاق بأنّها (عبارة عن هيئة راسخة في النفس، عنها تصدر الأفعال بسهولة ويُسرٍ، من غير فكر ورويّةٍ، فإذا كانت الهيئة بحيث تصدر منها الأفعال الجميلة المحمودة عقلاً وشرعاً سُمِّيت تلك الهيئة خُلقاً حسناً، وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سُمِّيت الهيئة التي هي المصدر خلقاً سيِّئاً)[2].
فالخلق برأيه: ليس هو فعل الجميل أو القبيح، ولا القدرة على الجميل أو القبيح، ولا التمييز بين الجميل والقبيح، وإنّما هو الهيئة التي بها تستعد النفس، لأن يصدر عنها الأفعال، فالخلق إذاً عبارة عن هيئة النفس وصورتها الباطنية[3].
أمّا ديكارت، فإنّه يعطي للإنفعالات داخل النفس، الدور الكبير في الموقف إزاء الأشياء الخارجية، وبالتالي انتخاب السلوك السيِّئ أو الحسن.. ولكنه يعطي النفس الفرصة الكبيرة في السيطرة على تلك الإحساسات والمشاعر لما لديها من أفكار واضحة، فالسلوك الحسن يجب أن يقترن دائماً بالتفكير الواضح المتميز.
وهكذا فإنّ كثيراً من الناس ينساقون وراء العواطف ويذعنون لأوامرها وبالتالي يعيشون في النهاية: حياة لا أخلاقية تعيسة، ولكن الحياة التي يكون أساسها ضبط النفس والتوجيه الذاتي تتصف بالصفات الحسنة وهي أسمى من الحياة السابقة.. إنّ هذه الحياة الخيرة لا يصعب تحقيقها في هذا العالم الواقعي، والشرط الوحيد لنيلها، كما يراه ديكارت، يكمن في إدراك النفس للحقيقة والعمل بمقتضاها.. ويمكن للنفس عن طريق التربية والتدريب والتعوّد أن تصل إلى المستوى الأسمى وتتخلّص من سيطرة العواطف والشهوات.. فالحياة الفاضلة: هي الحياة طبقاً للعقل[4].
ورغم أنّ هيوم لم يعط أي دور للعقل البشري في العملية المعرفية، فالإنطباعات والإنفعالات تكون أقوى وأشد حيويّة من الأفكار.. واستبعد في كتاب (بحث في الطبيعة البشرية) أن يكون للعقل علاقة أساسية بالأخلاق، وبذلك انتقد الإتجاهات التقليدية التي حاولت أن تؤسس الأخلاق على العقل في الإنسان، فهو يُخصِّص للعقل مجالاً يختلف كلية عن مجال الأخلاق وطبيعته، فالعقل يختص بقضايا الواقع، وميدانه عالم ما هو كائن، وقضايا كلّها تخضع لأحكام الصدق والكذب. أمّا غيرها من موضوعات الأخلاق فتتعلّق بالعواطف والإنفعالات، فهي لا تقبل الصدق والكذب، وبالتالي فإنّها لا تدخل ضمن موضوعات العقل، وميدانها الأخلاق، وهو ما ينبغي أن يكون.. ومن ثمّ فهو يرى مصدر الأخلاق: الحاسة الأخلاقية أو العاطفة، التي عن طريقها نصدر كل أحكامنا الأخلاقية، نحو الأفعال والأشياء بالرضا أو السخط، وطبيعة هذه المشاعر تتمثّل في اللذّة والألم، فإذا كانت هذه الإنطباعات التي تبعثها فينا الأفعال والأشياء لذيذة، شعرنا بالرضا والقبول نحوها، وأمّا إذا كانت مؤلمة فإنّها تشعر بالرفض والإستهجان.. وبذلك تكون الفضيلة مرتبطة بالرضا والإرتياح، في حين تكون الرذيلة مرتبطة بالسخط والقلق.
ويختلف هيوم في تصوّره للذّة عن أصحاب مذهب اللذة التقليدي المعروف في الفكر الأخلاقي، والذي يُوحِّد بين الخير واللذة، وبين الشر والرذيلة من ناحية أخرى، فيصبح كل ما هو لذيذ خير وكل ما هو مؤلم شر.. فهو يشترك مع هؤلاء في أنّ الإنسان بطبيعته يسعى إلى تحقيق اللذة وتجنّب الألم، ولكنه يُفرِّق بين معنى اللذة النفسية التي تتمثل في إشباع تلك الدوافع الفطرية في النسان وتلك اللذة المتمثلة في الشعور بالرضا والإستحسان عند القيام بفعل معيّن أو تأمّل شيء ما.. إنّ هذا الشعور الأخير هو ما أطلق عليه هيوم اللذة الأخلاقية، أو الخير الخلقي.
وهكذا يجعل هيوم من العاطفة أساساً للأخلاق والقيم الإنسانية الفاضلة، وقد أدّى هذا الإتجاه إلى نسبية القيم والفضائل الأخلاقية من فرد إلى آخر، حيث أنكر موضوعية الخير والشر والفضيلة والرذيلة، ولم تعد الأخلاق سوى عاطفة الرضا والإستحسان أو القلق والإستهجان التي تحدث في نفوس الأفراد[5].
وعلى الرغم من اختلاف هذه المدارس الفلسفية في تفسير الأخلاق ومنشئها، وبالتالي: كيفية انبعاث الموقف الفردي من الأعمال خيراً كانت أو شرّاً، وكيفية بنائها في المجتمع، إلا أنّنا نجد في النصوص الإسلامية إشتراكاً في بعض الوجوه مع هذه الآراء، سواء على صعيد أثر النفس في السلوك، كما عند الغزالي، أو دور العقل في ضبط الأهواء وبناء الأخلاق، كما عند ديكارت، وحتى مع هيوم في موضوع: الشعور بالرضا أو الألم، تجاه الفضيلة أو الرذيلة.. بل حتى في نسبية هذا الشعور من فردٍ إلى آخر.
فالغزالي ينسجم في تفسيره لمصدر الأخلاق مع الآية التي ابتدأنا بها الموضوع، حيث تشير إلى أن مركز انبعاث الخير أو الشر، من النفس التي ألهمت كليهما، وهي لها إرادة الإختيار بين الإثنين، ليكون ذلك الإختيار، طريق الخير أو طريق الشر، كما قال تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الإنسان/ 3).
وطبيعي أنّ الحاكمية في الإختيار هي للعقل، الذي يُوجِّه الغرائز ويغلب الشهوات، وحين يغلب نداء العقل وتتبعه الإرادة القويّة النافذة، تكون الفضيلة ويكون العمل الخير، كما ذهب إلى ذلك ديكارت، فالعقل هو الذي يُميِّز الحق من الباطل، والحسن من السيِّئ، (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (النور/ 61).
والآيات التي تدعو للتفكّر واستخدام العقل في القرآن كثيرة، وهذا التمييز يؤدِّي بدوره إلى تحرُّك الإرادة واتخاذ الموقف المناسب، وتلك الإرادة الباعثة إلى الخير والمانعة من الشر، قد يُعبِّر عنها بالتقوى، أي إتقاء غضب الرحمن، بتجنّب الآثام والمعاصي والمظالم والموبقات والسيِّئات، وكسب رضاه باتخاذ الموقف الجيِّد والعمل الحسن.
يقول تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة/ 100).
فالخطاب لأُولي الألباب – أُولي العقول – بالتقوى، التي بدورها تؤدِّي إلى الفلاح والسعادة.
وأمّا ما عبّر عنه هيوم بالحاسّة الأخلاقية، أو العاطفة، التي بواسطتها نصدر أحكامنا الأخلاقية، نحو الأفعال والأشياء، بالرضا والسخط، فقد استخدم القرآن مفهوم الرضا والسخط – وأحياناً يستخدم هيوم: الرضا والقرق – نتيجة لعمل الإنسان، صلاحه وفساده، إيمانه وعمله الصالح، أو معصيته وسوء فعاله، فنقرأ عن الرضا قوله تعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً) (الفجر/ 27-28).
ونقرأ عن الإطمئنان وعدم القلق في قوله تعالى: (فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الأعراف/ 35).
والسخط في قوله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا...) (طه/ 124).
وكلُّ ذلك نتيجة شعورنا باللذّة، للفعل الحسن، والألم لغيره.
والفكر الإسلامي يُعبِّر عن ذلك الذي يُحرِّك الإنسان نحو الخير ويُبعده عن الشر بالفطرة، التي بها يُميِّز الإنسان بين الصحيح والخطأ، وبها يركن إلى الإيمان، وكما قال الراغب: فطرة الله: هي ما ركز فيه – في الإنسان – من قوته على معرفة الإيمان، وهو المشار إليه بقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)[6] (الزخرف/ 87).
وعُرِّفت الفِطرة أيضاً بأنّها: الطبيعة السليمة التي لم تُشب بعيب، وفي التنزيل:
(فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) (الروم/ 30)، والفطرة السليمة في إصطلاح الفلاسفة: استعداد لإصابة الحكم والتمييز بين الحق والباطل[7].
نعم، هذه الفطرة قد تنحرف أو تتلوّث، أو تضعف أو تتغيّر، من إنسان لآخر نتيجة لظروف النشأة والتربية، فيرى البعض الحق باطلاً والباطل حقاً، أو يرى السُّوء حسناً والحسن سوءاً، أو أقل من ذلك، فتكون الحاسّة الأخلاقية، أو العاطفة، ضعيفة، والرضا والسخط واللذّة والألم متباينين من فرد لآخر، بحسب درجة نقاوة فطرته وسلامتها.. وفي الحديث عن رسول الله (ص): "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"[8]، ولكن بشكل عام يمكن أن يجتمع عامّة الناس على حسن الصدق وقبح الكذب، وهكذا أُمّهات الفضائل والرذائل الأخلاقية، وإن شَذَّ أو اختلف البعض في ذلك.
ونسبية الأخلاق، الناشئة من ظروف النشأة والتربية، تؤكِّد أهميّة التربية وتهيئة الظروف المناسبة للحفاظ على سلامة الفطرة، أو قل إيقاظها وتفعيل كوامنها الغائرة في النفس الغافلة لتعود إلى نقائها وصفائها ولتعمل بمسؤوليتها وتنهض بدورها الفعال في إشاعة الأخلاق الفاضلة، وما كان مجيء الأنبياء وبعث الرُّسُل إلا لذلك، يقول تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الجمعة/ 2).
وعن الإمام علي بن أبي طالب: "فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكروهم منسي نعمته ويحتجوا عليهم بالتبليغ"[9].
فوظيفة الرِّسالات: إيقاظ الفطرة النائمة وتذكير الإنسان بمبادئه الكامنة فيه، ومن ثمّ: التعليم والتزكية، المعرفة – على رأي ديكارت – والتزكية والتربية، لكي تكون المشاعر والعواطف – على رأي هيوم – متقاربة، والنتيجة التوجه نحو الأخلاق الفاضلة.
ونخلص من ذلك كلّه إلى أنّ سلوك الإنسان وعمله، ناتجان عن موقفه الأخلاقي ومعرفته واتباعه لعقله، وطُهر نفسه وصفاء داخله، كما عند الغزالي، وكل ذلك يعني الأخلاق، التي تتجلى عملاً: فضيلةً وحسناً، أو تتدنى، فتكون رذيلة وقبحاً.
وما الفساد، أو الصلاح، الذي نراه في العالم والذي ينتشر بفعل عمل الناس، إلا تجليات ومظاهر لأخلاقهم الكامنة فيهم، حسّاً أو معرفة أو هيئة نفسية ووضعاً داخلياً، ومن هنا كان الإصلاح الأخلاقي، أعلى مراتب الإصلاح، بل أشرفها، لأن فيه صلاح العالم، ودونه فساده.
المصدر: كتاب (نظرية الإصلاح في القرآن الكريم)
[1]- الأسس النظرية للسلوك الأخلاقي، د. أبوبكر إبراهيم التلوع، منشورات جامعة قار يونس، بنغازي، ط1995، ص144-179.
[2]- إحياء علوم الدين، للغزالي، ج3، ص53.
[3]- الأسس النظرية للسلوك الأخلاقي، ص146.
[4]- المصدر نفسه، ص176.
[5]- المصدر نفسه، ص181.
[6]- معجم ألفاظ القرآن، مادة فطر.
[7]- المعجم الوسيط، مادة فطر.
[8]- الجامع الصغير، السيوطي، ج2، رقم الحديث 6356.
[9]- نهج البلاغة، الخطبة 1.
ارسال التعليق