◄(لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة/ 8-9).
أودع الله في الإنسان العديد من الغرائز الضرورية لحياته ولأداء دوره في هذه الحياة، ومن هذه الغرائز، غريزة حبّه لوطنه. فالإنسان بطبيعته يحبّ وطنه؛ مسقط رأسه، ووطن آبائه وأجداده، ويألف الأرض التي تربّى فيها، وترعرع عليها، وتنفَّس هواءها، وارتوى من مائها، وأكل من خيراتها، ونسج فيها علاقاته مع الذين يعيشون معه فيها.
وبسبب هذا الحبّ، تجد الناس يحرصون على بناء أوطانهم وإعمارها والدفاع عنها، وبذل الغالي والنفيس من أجل حرّيتها ومنع استهدافها من أعدائها. وإلى هذا، أشار الإمام عليّ (ع): «عمِّرت البلدان بحبّ الأوطان».
حبُّ الوطن في الإسلام
وقد حرص الإسلام في تربيته على تعزيز هذا الحبّ وتعيمقه، وفي ذلك ورد: «حبُّ الوطن من الإيمان».
لذا، لم يكن غريباً أن يسكن هذا الحبّ ويتوطَّن في قلب رسول الله (ص)، حتى وهو يواجه المصاعب والأخطار من أهل وطنه، فقد ورد في السيرة النبوية، أنّ رسول الله (ص) لما خرج من وطنه مكّة إلى المدينة، وقبل أن يتجاوز حدود مكّة، توجَّه إليها قائلاً: «ما أطيبك من بلد وأحبّك إليَّ! ولولا أنّ قومي أخرجوني منك، ما سكنت غيرك»، رغم أنّه لاقى ما لاقى من أهلها، حتى وصل الأمر إلى قرارهم باغتياله.
وتضيف السيرة النبوية، أنّ رسول الله لما بلغ الجحفة وهو في طريقه إلى المدينة، اشتدَّ حنينه وشوقه إلى مكّة، فأنزل الله عليه قرآناً ليطمئنه، فقال: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) (القصص/ 85)، أي لرادّك إلى مكّة التي أخرجك أهلها منها. وعندما وصل رسول الله (ص) إلى المدينة واستقرَّ فيها، كان دعاؤه: «اللّهُمّ حبّب إلينا المدينة كحبّ مكّة».
وورد عن الإمام عليّ (ع): «من كرم المرء، بكاؤه على ما مضى من زمانه، وحنينُهُ إلى أوطانه، وحفظه قديم إخوانه». فالإنسان يحظى بالكرامة إن بقي حنينه لوطنه.
والقرآن الكريم حفل بالكثير من الآيات التي أظهرت موقع الوطن في حسابات الله سبحانه، عندما اعتبر أنّ إخراج الإنسان من وطنه، يبرِّر له الجهاد والتضحية بالنفس العزيزة من أجله (قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا) (البقرة/ 246).
وقال سبحانه: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) (الحجّ/ 39-40). فقد جاء الإذن للمسلمين بالقتال بسبب ما تعرَّضوا له من ظلم، ومظهر هذا الظلم، هو أنّهم أخرجوا من ديارهم بغير وجه حقّ. وأكثر من ذلك، فقد قرن القرآن الكريم بين حبِّ الأرض وحبِّ النفس، فقال: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) (البقرة/ 84)، فقد اعتبر أنّ الإخراج من الوطن يوازي قتل النفس.
وهذا التعزيز لحبّ الوطن، هو أمر طبيعي في حسابات الله وحسابات الدِّين، كونه يتَّصل بهدف وجود الإنسان، وهو إعمار الأرض والبناء، والذي أشار إليه الله بقوله: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود/ 61).
ونحن عندما نتحدَّث عن حبّ الوطن، فهذا لا يقتصر على وطن المسلمين، بل على أيِّ وطن يسكنه الإنسان، حتى لو كان هذا الوطن ليس بلداً إسلامياً، أو عندما تكون غالبيّته من غير المسلمين، فقيمة الوطن أنّه وطن، بعيداً من هُويّته الخاصّة.
ضوابط وحدود
لكن هذا الحبّ للوطن والميل له والتعلّق به، لم يتركه الإسلام بدون حدود وضوابط، كما في تعامله مع كلّ غرائز الإنسان، فالدِّين لم يترك الغرائز التي أودعها في الإنسان بدون ضوابط وحدود، فغريزة الطعام لها ضوابطها، كما غريزة حبّ الإنسان لنفسه، أو غريزة الجنس، أو غير ذلك. فحبّ الوطن لا ينبغي أن يخرج الإنسان عن القيم والمبادئ التي أراد الله له أن يعيشها، أو أن يكون على حسابها.
وأُولى هذه الضوابط، أنّه رفض أن يتحوَّل هذا الحبّ إلى عصبية، بحيث يرى أنّ وطنه دائماً على حقّ، أو لا يرى الخير فيما يصدر عن الأوطان الأُخرى حتى لو كان حقّاً وعدلاً، والذي يتمثَّل بشعار: (وطني فوق الجميع)، أو (وطني دائماً على حقّ). فالعصبية من صُنع إبليس، وهو إمام المتعصبين، وقد ورد في الحديث: «ليس من العصبية أن يحبّ الرجل قومه، لكن من العصبية أن يرى شِرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين».
ومن المنطلق نفسه، رفض الإسلام من الإنسان أن يبقى حبيس الارتباط بالوطن، عندما يتحوَّل الوطن إلى سجنٍ لا يستطيع أن يعيش فيه، أو أن يعبِّر فيه عن قناعاته وأفكاره، ولذلك قال القرآن الكريم: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) (العنكبوت/ 56).
وقد ندَّد الله سبحانه بأُولئك الذين يقدِّمون التنازلات من كرامتهم لقاء بقائهم في وطنهم، فقال عنهم: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) (النِّساء/ 97). وهدرُ الكرامةِ كما قد يكون بالإساءة إلى إنسانية الإنسان، قد يكون نتيجة صعوبة تأمين الرزق، ما قد يدفع الإنسان الى أن يذلَّ نفسه حتى يصل إلى رزقه، أو أن يتسكَّع على الأبواب لأجله، وفي هذه الحالة، على الإنسان أن يسعى لأن يهاجر إلى أرضٍ يحصل فيها على رزقه، ولا يذلّ فيها لتحصيل حاجاته ومتطلّبات حياته. ولذلك نجد عليّاً (ع) يقول: «الغِنى في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة».
والأخطر من ذلك، أن يكون حبّ الإنسان لوطنه ومكوثه فيه على حساب مبادئه ودينه، بحيث يخسر دينه، أو يضعف دينه بسبب وجوده في وطنه.
فحبُّ الوطن حتى لو علا، لا ينبغي أن يكون على حساب الله الذي لولاه لم يوجد الإنسان ولم توجد الأوطان.
وقد حذَّر الله الذين يحبّون آباءهم أو أبناءهم أو أخوانهم أو أزواجهم أو أوطانهم أو أموالهم أكثر من حبّهم لله ولرسوله وللجهاد في سبيل الله، بأنّهم لن يكونوا بمأمن من غضبه، عندما قال: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة/ 24).
وقد عزَّز الله موقع المهاجرين الذين تركوا ديارهم من أجل حفظ دينهم والقيام بمسؤولياته، فقال: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحشر/ 8). وقد ورد في الحديث: «مَن فرَّ بدينه من أرضٍ إلى أرض، وإن كان شبراً من الأرض، استوجب الجنّة».
كيف نعبِّر عن حبِّنا للوطن؟!
لكن يبقى السؤال: كيف نعبِّر عن حبِّنا للوطن؟ إنّنا من موقع الإيمان، إنّما نعبِّر عن حبِّنا للوطن عندما نحفظه ممّن يتعرَّضون له بتهديد؛ بأن ندافع عنه بوجه كلِّ معتدٍ وطامع، ونبذل جهودنا من أجل أن نبقيه موحَّداً حرّاً عزيزاً كريماً، ونمنع عنه عبث العابثين، فالذين يحبّون الوطن، هم حراسه والذين يدافعون عنه، لا الذين لا يبالون بذلك، أو الذين قد يساعدون العدوّ عليه لحساباتهم الخاصّة. وقد عزَّز الإسلام موقع الذين يبذلون دماءهم من أجل أوطانهم واعتبرهم شهداء، عندما قال: «مَن مات دون أرضه فهو شهيد»، فيما ورد عن رسول الله (ص): «إنّ اللهَ عزّوجلّ يبغض رجلاً يدخل عليه في بيته ولا يقاتل».
وقد وقف أمير المؤمنين (ع) يندِّد بالمتخاذلين عن القتال، عندما قال لهم: «ألا وإنّي قد دعوتكم لقتال هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً، وسرّاً وإعلاناً، وقلت لكم اغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم قطُّ في عقر دارهم إلّا ذلُّوا، فتواكلتم وتخاذلتم، حتى شنَّت عليكم الغارات، ومُلِكت عليكم الأوطان».
ولا يقتصر الأمر في التعبير عن الحبّ للوطن على الدفاع عنه أو حفظه، رغم أهمّية ذلك، فهناك تعبير آخر عن ذلك، يتمثَّل باحترام قوانينه وأنظمته، والمحافظة على منشآته، والاهتمام ببيئته ومقدِّراته، واستثمار طاقاته، وإعمار أرضه، وأن يعمل كلّ مواطنٍ لتطوير وطنه ليكون أفضل الأوطان، أن لا يبخل بإمكاناته عليه. فحماية الوطن ليست في الحدود فحسب، ولكن أيضاً في اقتصاده وسياسته ووحدته وتماسكه وتكاتف أهله، أن يكون وطن عدل ومحبّة وخير وتعاون وبذل وعطاء، وطناً يشعر فيه الإنسان بإنسانيته وكرامته وعزّته، وطناً بعيداً من الاستئثار والفساد والظلم.
إنّنا أحوج ما نكون في مرحلة اهتزاز الأوطان، إلى تعزيز هذا الحبّ، وإلى التربية عليه، وأن نعتبر ذلك جزءاً من إيماننا، بل جزءاً أساسياً منه.
وبذلك نحفظ استقلال أوطاننا، ونواجه كيد الأعداء الذين يريدون النيل من وحدتها وحرّيتها واستقرارها، أو الذين يريدون إضعاف حضورها في ميادين الحضارة والتقدّم، وإبقاءها في دائرة الجهل والتخلُّف والحاجة ليسهل استلابها.
وبذلك نحقِّق الطموح الذي أراده الله لنا، عندما أراد لنا أن نكون خير أُمَّة أُخرجت للناس، أُمَّة لا تكتفي بأن تشعّ على نفسها، بل على الآخرين أيضاً.
وليكن دعاؤنا في ذلك: «اللّهُمّ إنّا نرغب إليك في دولة كريمة، تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدُّعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدُّنيا والآخرة، برحمتك يا أرحم الراحمين».►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق