• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

حقيقة الإخلاص ودرجاته

حقيقة الإخلاص ودرجاته
لاشكّ ان كل فعل صادر عن هذا الإنسان في حقيقته لا يختلف عن بقية الأشياء التي تنمو ففعل الإنسان له في الحقيقة صورة خارجية وروح يمتاز بها عن أفعال سائر الحيوانات. فهذا الإنسان الذي يعتبر أشرف المخلوقات في هذا العالم. هو في واقعه مُركب من جسم وروح وكذا أفعاله لها صورة. وهي عبارة عن ما يتشخص في الذهن من الكيفيات وهذا يعم جميع أفعال الحيوانات. وروح يتفرد بها عن بقية الحيوانات وهي أمر معنوي يحصل في الحقيقة من التوجه إلى الله (جلّ وعلا) واحساسه بارتباطه مع هذا الإله العظيم ووجوده في ساحة كبريائه جلّ شأنه وكذلك التبرؤ عن كل ما دونه تعالى. فهذه الأمور إذا وجدت مع فعل الإنسان أعطيت له الحياة أما بدونها فهو أي الفعل مجرد فعل عادي لا يختلف عن بقية أفعال البهائم. فهذه الروح أو المعنى الحقيقي للفعل يعبر عنه في الكتاب والسنة (بالإخلاص) وهذا الإخلاص يتفرد به الإنسان عن بقية الكائنات. قال تعالى: (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ) (الزمر/ 2)، فكما لا تقوم هذه الأجساد إلا بالأرواح وبدونها تكون قيمته كذلك كل أعمال الإنسان إذا لا يوجد فيها الإخلاص، أصبحت مجرد شبح وهيكل لا يضر ولا ينفع. وللإخلاص درجات ومراتب تختلف بإختلاف مدى إيمان ويقين وتقوى وطاعة ذلك الإنسان القائم بالفعل.   - حقيقة الاخلاص: وهي في واقع الأمر من الحقائق العظمى والمحجوبة عن الإنسان ولا تعرف إلا بالأثر. ولا يمكن وصفها وأن أدركها البعض. فالإخلاص أمر يشرق في القلب وينور في النفس ويتشرف به المؤمن. وبالإخلاص يصل الإنسان إلى معرفة لذة ذل العبودية له – جلّ ذكره – وبه يستطيع أن يصل إلى معدن العظمة الإلهية. فعن النبي العظيم محمد (ص) أنّه سئل عن الإخلاص فقال (ص) اسأل جبرائيل. فلما سأل جبرائيل. قال جبرائيل حتى اسأل الله تعالى عنه. فلما سأله قال جلّ ذكره: "هو سر من أسراري أودعه قلب من أحببت من عبادي لا يطلع عليه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده"، وعن أمير المؤمنين (ع): "هو أن تعبد الله كأنك تراه". وهكذا فحقيقة الإخلاص يدركها المخلصون من عباده ولكنه لا يوصف لإلتصاقه ووحدته مع الفاعل نفسه. وبالجملة فالإخلاص يعتبر من أعلى مراتب تفويض الأمر له سبحانه.   - درجات الإخلاص: كما أنّ للعبودية درجات ولكل منها مراتب ولكل مرتبة منزلة حسب درجات الإيمان ومراتب المعرفة ومنازلها. وانّ التقرب إلى الله سبحانه يحصل بجميعها. وأن أسمى المراتب وأعلى الدرجات هي قبوله سبحانه بهذه العبودية من عبده. وأن كان للقبول مراتب أيضاً فأنّه هو الفوز العظيم فعن بعض العرقاء "قيل له بعد وفاته – في الرؤيا – كيف حالك مع الملكين (منكر ونكير) فقال لهم لما قالا لي "من ربك؟" قلت لهما أسألا ربي فأن قال هو عبدي وأنا ربه يكفي ولا لو قلت هو ربي وأنا عبده مراراً وتكراراً لا يفيد بلا قبوله". كذلك الإخلاص له درجات وفي كل منها مراتب وعلى العموم فاننا يمكن أن نقسمها إلى ثلاثة أقسام الأوّل هو مطلق الإخلاص ويشمل العوام والخواص والثاني إخلاص المحبين والثالث إخلاص الموحدين. فالقسم الأول هو الإخلاص في العبادة لأجل الحصول على حاجة سواء كانت دنيوية أو أخروية مثلاً كحفظ البدن وسعة الرزق والشفاء من المرض أو طلب الجنة والحور العين وغيرها. أمّا القسم الثاني فهو حاصل لأجل الوصول إلى السعادة الأخروية والدخول في الجنة دون الطمع في شيء من هذه الدنيا. أما القسم الثالث، هو نسيان كل ذلك بالكامل بل يكون الإخلاص له ولأجله وحده سبحانه، بحيث يكون كما قيل (وفؤادي ليس فيه غيره). ولكن من هذه الأقسام مراتب ولكنها جيِّدة وحسنة الا ان أسماها وأعلاها هو القسم الثالث وعن أمير المؤمنين (ع): "إلهي عبدتك لا خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك بل رأيتك أهلاً لذلك فعبدتك". وكما قيل شعراً: ليس سؤلي من الجنان نعيماً **** غير إني أحبها لأراكا وللقسم الأخير درجات ومراتب لا تنال إلا لمن عصمه الله تعالى. وأمده بحق اليقين بافاضة العلوم عليه وتقريبه إلى ساحته بخلع كل ما سواه وكرمه بتطهير نفسه بمخالفه الهوى ورحمه بالتوحيد إليه والقرب لديه.   - منافيات الاخلاص: كلنا نعرف أنّ الصفات الحميدة والجميلة تقابلها الحالات السيئة وتفسدها الصفات المنافية لها. فالشجاعة مثلاً يفسدها الخوف لأنّه ينافيها ولا يمكن الجمع بين المتنافيين في النفس. وكذا القناعة ينافيها الحرص والجشع كما انّ الزهد ينافيه طول الأمل وهكذا وغيرها من الصفات الأخرى. والإخلاص ينافيه ويحجبه أمور كثيرة لأن سبب الإخلاص هو المعرفة له وحده فإذا دخل على هذه المعرفة أمور انتفى الإخلاص. ولعل من أهمها: 1- الرياء: وهو آفة الإخلاص الفتاكة فعن نبينا الأعظم (ص) فيما ورد في حديث قدسي قوله تعالى: (انا اغنى الشركاء فمن اشرك معي تركته لغيري). وعن (ص) أيضاً: "أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الخفي وهو الرياء" وغيرها من الروايات وانّه دقيق جدّاً بحيث يقول (ص) عنه "انّه يدب فيكم كدبيب الدودة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء". وفي الحقيقة كله يعود لحب الدنيا. 2- العجب بالعمل فأنّه مناف للإخلاص وينقص من كمال المعرفة وبالتالي العمل وقد وردت روايات كثيرة في ذمه. 3- الاستهانة بالعمل وتحقيره كما دلت عليه الكثير من الروايات. 4- الاتكال في الأمور على غيره سبحانه وتعالى سواء الاتكال على النفس أو غيرها. 5- التعمق في حكمة الأشياء والبحث عن حكم الاحكام الشرعية فهو مناف للإخلاص فقد ورد عنه (ص): "إياكم والغلو في الدين"، أي البحث عن العلل والغوامض لذا قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (المائدة/ 101). 6- عدم الثقة بالله – سبحانه – فإن ذلك مناف للإيمان فكيف بالإخلاص فهذه أهم المنافيات للإخلاص ذكرتها حتى لا يكون للشيطان علينا سبيلاً.

ارسال التعليق

Top