أحمد الملّا
◄(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء/ 1).
يوجه القرآن الكريم انظارنا إلى أصل خلق الإنسان من أسرة واحدة (آدم وحواء) ثمّ نشأ عن ذلك الأصل الأسرة، فلابدّ لنا أن نتراحم ونتواصل من أجل بناء المجتمع الفاضل وليكون دافعنا لذلك هو التقوى.
إنّ مجتمع الرسول (ص) كان قوياً صامداً في وجه كل الأخطار المحدقة وكل أوجه الصراع التي عاشتها الأُمّة الإسلامية آنذاك وإذا رجعنا قليلاً إلى الأسرة المسلمة في عهد الرسول الأكرم (ص) نجد انها كانت من أقوى الأسر في صمودها وقيامها بدورها الرسالي تجاه أبنائها، فها هي أسرة آل ياسر تواجه الموت وليستشهد الأبوان ولتكون أولى الشهادات في الإسلام شهادة أسرة آل ياسر.. ولكنها افرزت (عماراً) ذلك الذي كان في يوم من الأيّام معيار الحق والباطل كما حدده الرسول (ص)...
وتلك الأسرة التي يُقتل فيها كل أبنائها في إحدى المعارك فتعود الأُم بجثث أبنائها لتدفنها وهي مستبشرة لا جزعة.. وتلك الأسرة النموذجية أسرة الإمام علي (ع) تعيش في أشد الظروف صعوبة حتى تصل إلى الموت ولكنها تبقى الأسرة المعطاءة.. تعطي.. وتؤثر ذلك العطاء على نفسها.
(وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا) (الإنسان/ 8-9).
وكان نتاج هذه الأسرة.. الحسن.. الحسين.. (عليهم أفضل الصلاة والسلام).
انّ أمثال تلك الأسر هي التي كونت ذلك المجتمع القوي الصامد أمام كافة متغيرات الحياة.
فالمجتمع الفاضل لا يكون إلا بوجود الأسرة المسلمة التي تستقي منهلها ومنطلق عملها من الأوامر الربانية بعيداً عن المادة ولتكون المعهد الذي يُربى فيه الفرد الرسالي ولتكون منبت الإيمان ومزرعة التقوى وحقل الأخلاق الفاضلة، انّ الأسرة بالنسبة للمجتمع كمثال المعهد الذي يُخرّج الأفراد المتدربين، فمثلاً معهد اللغة يُخرّج فئة تُجيد فنون اللغة وتقوم بتطوير الجانب الثقافي في المجتمع ومعهد التربية مثلاً هو الذي يُخرّج الفئة من الشباب الذين يتحملون مسؤولية تربية وتعليم قطاع كبير من المجتمع.
إنّ الأسرة إنما هي معهد يُخرّج الجيل الذي يشحذ إرادته ويقاوم هواه فيقتحم ساحة المعركة دفاعاً عن الوطن، وهو الجيل الذي يبذل ماله ونفسه وجهده في سبيل خدمة أفراد المجتمع وتنمية اقتصادهم.
وإذا فشلت الأسرة في تربية أبنائها فإنّها ستخرج جيلاً يشكل عالة على المجتمع فيأخذ ولا يعطي، وينسحب منهزماً أمام أول اعتداء يقع على وطنه أو حقوقه، أننا يجب أن نتلمس تأثير الأسرة تجاه المجتمع بوضوح عندما ننظر عبر التاريخ إلى ما حدث في المجتمع عندما تنحرف الأسرة.
عندما تفقد الأسرة عنصر التقوى فإنها تهتز وتصاب بالخلل وبالتالي فإنّ المجتمع بكامله سوف ينتقل إليه ذلك الخلل. وهذا ما حدث لمجتمع لوط، لم يكن للأسرة أي معنى في مجتمع نبي الله لوط (ع) فلا الرجل يقوم بدوره ولا المرأة تقوم بدورها، فما الذي حدث لهم:
(وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ * وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) (هود/ 77-78).
لقد إنحرفت الأسرة عن مفهومها فاكتفى الرجال بالرجال والنساء بالنساء حتى إن دعوة لوط (ع) بتزويج بناته لم تلق إلا صدوداً.
لقد كان الانحراف الأسري في أسوأ أحواله وأقواها حتى إن امرأة نبي الله لوط (ع) قد أصابها الانحراف فكانت من الغابرين وكان لابدّ من فصلها عن أسرة الإيمان ليصيبها ما أصاب القوم، وكانت نهاية المجتمع الذي تحطمت فيه الأسرة.
(فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) (هود/ 82-83).
وكمثال آخر على تأثير انحراف الأسرة على المجتمع انّه لما ضربت روسيا العائلة ومزقتها ووضعت محلها دور الحضانة والروضات نشأت عندها أزمة نفسية حادة تجلت في سلوك الآباء والأُمّهات والأطفال فقد خرجوا وهم عاجزون عن الإبداع والأخلاق، فضلاً عن المفاسد الاجتماعية التي اجتاحت روسيا جميعاً بسبب هذه الاجراءات.. وعندما ضاقت المرارة عادت إلى صوابها فالغت الشيوعية الجنسية واعترفت بالأسرة وتنظيمها.
إبراهيم، هاجر، إسماعيل.. رمز الأسرة الفاضلة:
الطاعة:
لقد امتثل إبراهيم لأوامر الله ونقل أسرته (إسماعيل وأمه هاجر) إلى مكان ليس فيه زرع أو نخل أو ماء أو ناس بعد أن كانوا قرب فلسطين حيث مخيمه ومضيفه وماشيته، انّه امتثال لأمر الله عزّ وجلّ ومن أجل أن يرشد الناس ويدعوهم للصلاة.
(رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم/ 37).
إنّ طاعة الأسرة لله تؤهلها لأن تكون أسرة فاضلة.. إنها الأسرة التي تصطبغ بصبغة الله وتمتثل لأوامره دائماً في كل صغيرة وكبيرة حتى إذا وصل هذا الأمر إلى التضحية بالإبن بتلك الصورة التي حصلت لأسرة إبراهيم (ع).
(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (الصافات/ 102-107).
انّها الطاعة المطلقة لأمر الله (إفعل ما تؤمر..) وما يترتب على ذلك فهو في حساب التعامل مع الله عزّ وجلّ.
العطاء:
إنّ الأسرة لابدّ أن تخرج من ربوعها الفرد الصالح وليمارس دوره الرسالي في المجتمع لذلك دعا إبراهيم ربه لأن يرزقه ولداً.. وليكون هذا الولد صالحاً وإلا لما قامت أسرة نبي الله إبراهيم (ع) بدورها في بناء حضارة بابل.
(رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠)فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) (الصافات/ 100-101).
وحتى يكون هذا الفرد صالحاً لابدّ أن يكون مطيعاً لرب الأسرة ما دام هذا الأب يمثل المبادىء والقيم السماوية ولذلك عندما حاوره أبوه في شأن رؤياه لم يعترض بل أجاب بثقة تامة:
(افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الصافات/ 102).
ما دام الأمر الذي تعهده والده أمراً إلهياً فلا اشكال في التضحية بالنفس من أجل الله ولبقاء سلطة الأب كما هي دون أي خلل فيها.
انّه العطاء الكامل من الأب والابن.. ومن الأسرة الفاضلة.. في سبيل الله.
الصمود:
قد تبتلى الأسرة باختيار ويعرف منها مدى مقاومتها وقدرتها على الصمود والبقاء أمام التياراتالجارفة وكلما كان البلاء كبيراً ويمس كيان الأسرة كلما كانت الحاجة إلى القدرة على الصمود أكبر وأقوى وهذا ما امتحنت به أسرة إبراهيم (ع) انّه كان بلاءً عطيماً ولكن الأسرة الفاضلة لا تزحزحها الرياح ولا تؤثر فيها الفتن بل تزيدها أصالة ومقاومة ورسالية..
(إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) (الصافات/ 106).
ولكن النهاية تكون بمستوى المقاومة وكان ذلك لإبراهيم (ع) وأسرته.
(وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (الصافات/ 107-112).
التحصن:
قد تسير الأسرة في ركاب الإيمان وتصمد أمام الكثير من الابتلاءات ولكنها لا تستطيع الاستمرار في ذلك فتقع فريسة لبعض الانحرافات التي قد تتسع شيئاً فشيئاً حتى تصل إلى أعلى مراتبها وهو الشرك بالله عزّ وجلّ ولذلك حصّن إبراهيم (ع) نفسه وأسرته من الوقوع في تلك المزالق ونراه في ذلك يتوجه في كثير من الأوقات إلى الدعاء إلى الله ليأمن هو وأسرته من ذلك الانحراف.
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ) (إبراهيم/ 35).
لقد استجاب الله دعاء عبده إبراهيم (ع) لأنّه كان كثير الدعاء ولأنّه كان صادقاً في دعائه وليس مرائياً فيه.
(رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) (إبراهيم/ 38-39).
إنّها الأسرة الفاضلة.. تطيع.. تعطي.. تصمد.. تتحصن بالله وفي سبيل الله.►
المصدر: كتاب سرّ النجاح في شخصيتك
ارسال التعليق