تساءل "هوارد كيتشام": إذا كان باستطاعة اللون أن يهدّئ أفكارنا، ويرفع معنوياتنا، ويشيع فينا الصفاء. أو أنّه، على العكس من ذلك، يلهب مشاعرنا؟
وقد خلص في الفقرة الأولى من بحثه إلى أن "لكل لو تأثيره الخاص به" فهو يقرّر، بادئ بدء، التأثير النفسي لكل لون، بصورة خاصة، ويضرب المثل على ذلك باللون الأحمر، الذي ينبّه العقل والقلب والشهية. وعنده أن هذا هو السبب في استخدام المطاعم هذا اللون بدرجات متفاوتة.
ثمّ عرّج على بعض الألوان الأخرى، فألفى أنّ الوردي يشيع السرور، والأصفر "يثير الهمّة ويضفي شعوراً بالهناءة والإطمئنان". بينما وصف اللون الأزرق بأنه "يوحي بالصفاء والاسترخاء"... إلخ. على أنّه أشار إلى اختلاف أثر الدرجات المختلفة للون الواحد. فمن اللون الأصفر ما يوحي بالسقام، مثلاً.
والذي وقعنا عليه من شأن التنبّه إلى اللون وتأثيره لا يرقى إلى أكثر من بضعة عقود من الزمن. أما الاحتفال الصحيح بذلك كله فلا يتجاوز عمره ربع قرن أو نحو ذلك.
وقد يفاجأ القارئ إذا علم أن علماء المسلمين والعرب قد بحثوا هذا الشأن قبل قرون. وقد اطلعت على مخطوطة لعالم من بعلبك، توفي في السنة 657هـ/ 1276م، عنوانه: "كتاب سرور النفس ومفرحها". قصر الباب الثالث منه على الحديث عن "اللّذة المكتسبة للنفس عن طريق حاسة البصر".
"فالنفس تبتهج بما كان من الأجسام له اللون الأحمر والأخضر والأصفر والأبيض، أما بسيط وأما مركب، بعضها مع بعض. فنظر هذه يوجب راحة النفس، ولذة القلب، وسرور العقل، ونشاط الذهن، وتوفر القوى وانبساط الأرواح... لأنها ألوان مشرقة، تنزه النفس لاشراقها ونورانيتها تميل إلى ما يناسبها فتحدث هذه الحالات المذكورة اللذة الوافرة، لأنّ النور محبوب ومعشوق، وانظر إلى فرحك وانساطك وانشراحك، وحركتك وتصرفك بالنهار، وفراغك وسكونك، وتجمعك بالليل..."، و"الألوان السود، والزرق والكمدة، وما شاكل ذلك، وما يكدر الروح، ويعمي القلب، ويولد الاخلاط السوداوية، وما يحدث عنها من الذكر الرديء والهموم المودية (المردية؟)، والأحزان اللازمة، ولا سيما إذا كانت هذه الألوان الردية في لبس الإنسان، فإنها تقرر ثبات هذه الأمور الردية لملازمتها الحاسة البصروية...".
وهكذا يلح على علاقة لون اللباس. بمزاج الإنسان. وهي ملاحظة في أوج الفطنة والدقة. ولا سيما حينما يورد أن مداومة النظر إلى هذه "الألوان الردية" – كما وصفها – تورث "الهموم، والفكر، وضيق الصدر، والوسواس، والمالنخوليا، وما أشبه ذلك... لافحذر الحذر لمن يروم شرق النفس، وراحة الحس من يفعل ذلك".
ومن أبرز من نبّه إلى ذلك – كما يقول المؤلف – ابن سينا ويلفت النظر في أقوال عالمنا الشرقي بداهة ما يقطع به وبساطته. خذ مثلاً قوله: "فانظر إلى إبتهاج النفس في البساتين والأراضي التي فيها نبات جامع الألوان الخمسة المذكورة مع سعتها...".
ومما يؤيد به نظريته أنّ الله تعالى "... لم يخلق شيئاً من الأشجار والثمر والأنوار سوداً لعلمه أنها ردية (في الأصل: "درية"، وواضح أنه تصحيف عن "ردية"، للنفس، مكدرة للأرواح...، وانظر إلى حكمته كيف جعل هذه الألوان الأربعة المذكورة – أعني الأصفر والأحمر والأبيض والأخضر – في أعظم الأجساد، وأشرفها، وأبهجها، وأعزها ذخراً، وأحسنها عزّاً ومنظراً، وهي الذهب الأسفر واللؤلؤ الأبيض، والزمرد الأخضر، والياقوت الأحمر، ولم يجعل من الأحجار أعز منها ولا أشرف... واعلم أنّ النظر في الصورة المليحة، الحسنة، المصورة في الكتب، إذا اجتمعات مع حسن صورتها وصبغتها الألوان والأصباح المذكورة، والاعتدال في مقادير الصورة، وحسن الاشكال... تزيل الهموم الملازمة والكدرة عن الأرواح، لأنّ النفس تلطف وتشرف بالنظر فيها...
المصدر: مجلة الموقف
ارسال التعليق