• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التضرع إلى الله عز وجل

التضرع إلى الله عز وجل
  الأرض والحياة الاجتماعية لهما قوانين، وأهم قانون هو "إنّ الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم". وهو القانون الأساسي لهذه الأرض، وله أبعاد كثيرة. وصلاح هذه الأُمّة وعزها وبهجتها تأتي عن طريق هذا القانون. لقد ورد هذا القانون في القرآن الكريم، عن طريق آيتين، واحدة في سورة الأنفال: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الأنفال/ 53)، والثانية في سورة الرعد: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/ 11). ففي سورة الرعد تبين لنا الآية أنّه لو حدثت لك مصيبة فتغييرها يكون بأن تغير نفسك. وفي سورة الأنفال إذا كان الله عزّ وجلّ أنعم عليك بنعمة، فزوالها يحدث عندما تغير ما في نفسك. فهذا القانون يشمل المصائب والنِّعم. فلو أنت في خير فلا تغير نفسك، فهذه النعمة أتت بناءً على الخير الذي في نفسك. ولو أصبت بمصيبة وتريدها أن تزول فنفذ هذا القانون، فتتغير المصيبة. وبداية، سنبدأ بعبادة مهمة جدّاً، ألا وهي عبادة التضرع إلى الله ثمّ نتواصل بأمور أخرى نستفيد منها. فوضعُنا الحالي يحتاج منا إلى هذه العبادة، وما تشمل، فهي المبالغة في التضرع إلى الله (رفع اليدين) والإحساس بالمسكنة والذل والافتقار بين يدي الله، والذل في إظهار الحاجة إلى الله. فكلنا محتاجون إليه، من حكام ومحكومين، من صغار وكبار، فالأزمة اشتدت علينا، وهذا أول عمل إيجابي سنقوم به، وهذا ليس سلبية منا، بل بالعكس، فمنتهى الإيجابية أن نلجأ إلى الله سبحانه. فالتضرع هو غير الخشوع الذي يكون فيه العبد مستشعراً خاشعاً. ولكن التضرع هو اللجوء إلى الله، والاستغاثة به، وهو أقوى من الدعاء. فالتضرع يكون بكل جوارحك، وكل كيانك. لذلك رأينا أن نبدأ بها "حتى يغيروا ما بأنفسهم". فأوّل عبادة مطلوبة من الأُمّة كلها هي رفع اليدين والتضرع إلى الله. فلو مثلاً حصل أنّ الله نظر إلى هذه الأُمّة كلها وفي ليلة واحدة، ورأى الشيوخ والشبان والبنات والأطفال والرجال والنساء، كلهم وفي لحظة واحدة يرفعون أيديهم إلى الله ويتضرعون إليه، فكم سيكون سرور الله سبحانه بنا؟ فالأمل موجود إذا أحست هذه الأُمّة بحلاوة التضرع إلى الله، وخاصة في وضعنا الحالي. فمتى إذن سيكون التضرع إلى الله؟ فهذا هو وقته، واستخدامه فعندما تُقفل الأبواب كلها، ويصبح الحليم حائراً، والعاقل لا يعرف كيف يتصرف، فليس لنا سوى هذه العبادة. فلماذا لا نتعلم هذه العبادة؟ ولكي أؤكد لكم ما ذكرته، فلننظر إلى كلمة "تضرع" متى جاءت في القرآن، ولنستعرض بعض الآيات القرآنية التي تؤكد ذلك: - (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام/ 42-43). "لولا" هنا تعني: يا ليتهم تضرعوا. فنحن متى سنتضرع؟ - الآية التي بعدها: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (الأنعام/ 63). - (قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) (الأنعام/ 64). فهل نرى كيف الآيات القرآنية تكلمنا؟ - (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) (الأعراف/ 94). فكم منا في قيام الليل تضرع إلى الله؟ فهذا كله يعطي معنى واحداً وهو أهمية التضرع إلى الله، وإلّا يكون الهلاك: (وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (المؤمنون/ 75). "لو رحمناهم".. فالرحمة هنا كأن تحصل معجزة، وتتغير حال الدنيا، وترجع العزة والكرامة. فهل رأينا متى يُستخدم التضرع، ومتى تأتي هذه الكلمة؟ فكأن الآيات تعبر لنا عن معنيين: - المعنى الأوّل: هو أن أحد أسباب التعرض للمصائب هو رحمة من الله والعودة إلى التضرع. وكان من الممكن أن تأتي الرحمة مباشرة. ولكن، يا تُرى لو زالت هذه المصيبة، هل كنتم ستؤمنون بالله؟ - المعنى الثاني: إذا أصابتكم المصيبة ولم تتضرعوا، فتكون النتيجة أشد. فالخوف هو من هذه. والأهم أن لا نيأس ولا ننهار، فالأمل موجود. والله مالك هذا الكون. (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ) (آل عمران/ 26). فلنرفع أيدينا ونقول "يارب" بكل كياننا وقلوبنا وإصرارنا. فكما رأينا في هذه الآيات، لو لم نتضرع، فالنتيجة ستكون مخيفة. ولذلك فالتضرع هو عبادة الأنبياء عند المصائب، فعندما كانت تحدث المصيبة، تجد الأنبياء يتضرعون إلى الله. فلننظر إلى سيدنا يونس وهو في بطن الحوت: ثلاث ظلمات شديدة: ظلمة البحر، وظلمة الليل، والظلمة داخل بطن الحوت. وعلى الرغم من كل ذلك، ماذا فعل؟ (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الأنبياء/ 87). فياليت كل واحد منا يخبر أهله وأصحابه بأن نتفق كلنا فنتضرع. ولا ينفع أن يتضرع واحد منا فقط، بل الأفضل أن نفعل ذلك معاً. نريد همة سيدنا يونس نفسها. لو استبدل الكثير منا الحسرة على ما يحدث بتضرع إلى الله، ولنقلد سيدنا يونس بدعائه: "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين"، فبالتأكيد سيتغير الوضع. وكما جاء في الآية (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ) (الأنبياء/ 88)، وكان هذا نتيجة لتضرعه. انظر إلى النبي، والحديث الذي يرويه كل من سيدنا عمر بن الخطاب وأبي بكر رضي الله عنهما، يقولان: نظرنا إلى النبي ينظر إلى الكفار، فإذا هم ألف إلا خمسين، وينظر إلى المسلمين فإذا هم ثلاثمئة، (فالمعركة غير متوازنة). فما العمل؟ فبدأ النبي (ص) يرفع يديه ويتضرع إلى الله ويقول "يارب، يارب، ويكررها مرات عدة"، ويدعو حتى سقط رداؤه، وبدا بياض إبطيه، حتى إن سيدنا أبا بكر أشفق على النبي وقال له: خفف عنك يا رسول الله، فإنّ الله منجزك وعده. فهل يمكننا نحن أن نقلد النبي (ص)؟. والأكثر من ذلك، أنّ التضرع ليس فقط عند المصائب والشدائد، بل أيضاً سبيل الأنبياء في كل وقت وحين. يقول النبي (ص) حديث رواه الترمذي: "إنّ الله عرض عليّ أن يجعل لي بطحاء مكة ذهباً فقلت لا يارب، ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً، إذا جعت تضرعت إليك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك". فلننظر أيضاً إلى النبي (ص) حديث رواه الترمذي، وابن ماجه: جاء أعرابي (حديث عهد بالإسلام) فقال: يا رسول الله علِّمني صلاة الليل، قال النبي: "صلها مثنى مثنى، تتشهد في كل ركعتين وتدعو وتتمسكن إلى ربك وتتذلل إلى ربك، وتتضرع إلى ربك، وترفع يديك، تجعل باطن يدك إلى وجهك تقول له: يارب يارب" (فانظر إلى النبي كيف علّمه التفاصيل). أكثر من ذلك، المظاهر الكونية التي تحدث لكي يحثنا الله سبحانه على أن نتضرع له، مثل كسوف الشمس، وكيف يجب أن نصلي صلاة الكسوف وهي كلها تضرع، ومنع نزول المطر إلى الأرض، فنصلي صلاة الاستسقاء فنتضرع، ولنا أيام محددة في السنة نمارس فيها هذه العبادة، مثل يوم عرفه. فلماذا لا نعتبر الأسبوع المقبل مثلاً مثل يوم عرفة، وكلنا وبصوت واحد نلجأ إلى الله ونقول: "يارب، يارب". فلنستغث به. لماذا نريد أن نتضرع؟ هل فقط من أجل أصحاب الكوارث؟ أو من أجل الأمة كلها؟ فأقول لكم: بل هو من أجل الأرض كلها. فالأرض حالتها وكأنها ستنهار، فنتضرع إلى الله بأن ينقذ هذه الأرض كلها. فلنتفق منذ اليوم: لماذا لا نجعل ليالي نتضرع فيها معاً، وكلنا نشارك دفعة واحدة، ونخبر بعضنا البعض على تنفيذ هذه العبادة؟ الإمام أحمد بن حنبل جاءه رجل وقال: يا إمام، متى يستجاب دعاؤنا، قال: عندما يقترن بالتضرع. فقال كيف؟ قال الإمام أحمد: أرأيت لو رجل في بحر هائج في سفينة تكسرت، والرجل لا يجد إلا لوح خشب يتعلق به، ينادي يارب، يارب (فهل تتخيلون فنحن أيضاً في هذا البحر الهائج ولا ندري أين سيُرسَى بنا)، فقال الإمام أحمد: فإذا فعلتم كهذا الرجل، فوالله لا يرد لكم دعاء أبداً. تعالوا معاً نتضرع إلى الله سبحانه وتعالى، في كل وقت وحين.

ارسال التعليق

Top