الإمام الرضا قاعدة من قواعد الفكر الإسلامي، وأحد منطلقاتها الغنية بالمعرفة، انتهت إليه بعد أبيه الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) أسرار الرسالة ومفاتيح كنوزها، فكان منهله منها، وعطائه من فيضها. وجالس الإمام (عليه السلام) العلماء في مناظرات فريدة وصفها أحدهم مبتدئاً بوصف الإمام (عليه السلام): «ما رأيت أعلم من علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، ولا رآه عالم إلّا شَهِد بمثل شهادتي».
وهو أحد الأئمة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام)، الذين أغنوا الفكر الإسلامي بشتّى صنوف المعرفة، ممّا أملوه على تلامذتهم أو أجابوا به من سألهم أو ما نقله لنا التاريخ من محاوراتهم العلمية والعقائدية مع أصحاب المذاهب الأخرى.
والظاهرة التي يمتاز بها أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، والتي تلفت النظر في حياتهم، أنّ لهم على الآخرين حقّ العطاء في المعرفة، وليس لأحد من الناس عليهم حقّ الأخذ منه، وتلك منحة من الله شائها لهم ليقيم بهم الحجّة على الخلق، وقد شَهِد لهم بذلك خصومهم من خلفاء زمانهم، وأقطاب الفكر من معاصريهم. ويدعم واقعية هذه الظاهرة أنّ بعض العلوم وخصوصياتها لم تكن في ذلك العصر واضحة المعالم، وبينة الأثر ولكنّها ظهرت وتجلت غوامضها بتعليم من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، كعلم الكيمياء مثلاً الذي يعتبر الإمام الصادق (عليه السلام) الملهم الأوّل له والواضع الأقدم لأُسسه وقوانينه، وكعلم للطب الذي يعطينا الإمام الرضا في رسالته للمأمون عنه، المنهاج الرائع، والأسلوب المبدع، في عرض دقائقه وضوابطه، إلى غير ذلك من العلوم المتنوّعة التي حفلت بها آثارهم، والتي كان لهم الفضل الأكبر، في إحكام أُسسها وتنويع مطالبها.
ولم يُعرف هناك من العلماء مَن تتلمذ عليه الإمام الصادق في الكيمياء، ولا مَن تتلمذ عليه الإمام الرضا في الطب، بل هو المنهل الذي شرعه لهم جدهم صاحب الرسالة، وورثه بعضهم عن بعض، وقد نرى الأئمّة (عليهم السلام) يُرجعون ما يجيبون به عن المسائل حينما يُستعلم منهم مصدر الجواب، بفهمهم الخاص للكتاب، أو بما تلقّوه عن آبائهم، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا يُرجعون ذلك إلى روايةٍ عن أحد الصحابة أو التابعين أو عن غيرهم من أرباب الفنون وحملة العلوم.
ولقد كانت إحاطتهم بالعلوم، وعامّة فنون المعرفة، مصدر إعجاب الأُمّة وتقديرها، ممّا جعلهم الحكم الفصل، في حل كلّ معضلة ومشكلة، قد تطرأ في ذلك العصر بين العلماء وحملة الفكر، فلا يُسألون عن شيء إلّا وينتزعون له الجواب المقنع بسهولة مذهلة، ينحل المعقّد معها إلى بديهي، والنظري إلى ضروري بدون لبس ولا غموض. وهذا الامتياز الفريد لا يشاركهم فيه أي فرد من علماء الأُمّة وحكمائها على اختلاف طبقاتهم ومراتبهم في العلم والحكمة وقوّة الفكر.
كما كان الإمام الرضا (عليه السلام) يؤكّد على أهمية العقل حيث يقول (عليه السلام): «صديق كلِّ امرىءٍ عقلُه»، لأنّ العقل هو الذي يحدّد لك الحسنَ والقبيح، وهو الذي يفكّر لك، فيميّز بين ما يضرُّك وما ينفعك. فالإمام (عليه السلام) يريد أن يؤكّد قيمة العقل لدى الإنسان، والعقل هو هذه القوّة المفكِّرة التي تحسب للإنسان حسابات الأشياء بكلِّ دقّة، والتي يحصل عليها الإنسان من خلال ما يتأمّله وما يجرّبه.
ومن هنا، فإنّ الإمام الرضا (عليه السلام) يوصي الإنسان بألا يترك صديقه الذي هو عقله ويتّبع غريزته والجهل الذي يفرضه عليه الناس. ثمّ إنّ العقل هو الذي يمنح الإنسان علمه بالتأمّل في موارد العلم ومصادره، وبالتجربة التي يتابعها العقل في حركة الإنسان في الواقع، ويدفع به إلى السعي والبحث والملاحقة لأسرار الحياة في نظامها الكوني وفي حياة الإنسان والدراسة للتاريخ في قضاياه التي تمنح الإنسان الدرس والعبرة والتخطيط للمستقبل الذي يقبل عليه في صناعة حياته. وهكذا يقف العقل ليقود المسيرة الإنسانية التي ترتفع بالإنسان في مجالات الاكتشاف والإبداع والتنمية لكلّ الطاقات المادّية والمعنوية. وهذا هو الذي يجعله الصديق الأوفى للإنسان عندما يتحرّك معه في كلِّ أموره وقضاياه ويشرف على حاضره ومستقبله.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق