عن الإمام أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق (ع): "كان فيها – وصية لقمان – الأعاجيب، وكان أعجب ما كان فيها أن قال لابنه: خف الله عزّ وجلّ خيفة لو جئته ببر الثقلين لعذبك، وارجُ الله رجاءً لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك. ثمّ قال: كان أبي يقول: إنّه ليس من عبدٍ مؤمنٍ إلا وفي قلبه نوران: نور خفية ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا ولو وزن هذا لم يزد على هذا".
إنّ للمؤمن العارف بالحقائق نظرتين:
الأولى: نظرته إلى نفسه من حيث نقصانه وضعفه وافتقاره واحتياجه الأزلي والأبدي، وأنّه لا يملك بذاته شيئاً على الإطلاق، بل إثبات النقص له هو قصور في التعبير لأن إثبات النقص يقتضي ثبوت الذات في مرتبة سابقة، وهذا غير دقيق لأنّه فقير بذاته أيضاً، وليس له اكتفاء من جهتها لنثبت لها شيئاً!
وهو من خلال هذه النظرة سيعلم بأن ليس له شيء من ذاته، فلا العبادات ولا الطاعات ولا العلوم ولا المعارف كانت منطلقة من ذاتياته! فلا يبقى مكان للعجب، بل سيقف مطأطئَ الرأس خجلاً وذلاً وخوفاً! فهذه العبادة ممن ولمن؟ إن كل جميل يعود إليه تعالى:
"ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك".
الثانية: نظرته إلى كمال الله تعالى، وبسط رحمته، وسعة لطفه وعنايته. فهو يرى أنّ الله تعالى أنعم عليه بهذه النعم المتنوعة مبتدأة لا يسبقها سؤال، رغم عدم علم الإنسان بقيمتها وعدم استعداده وتهيُّئه للاستفادة منها! وأنّ الله قد فتح أبواب لطفه وعفوه على العباد دون استحقاق منهم.
هذا الملك الذي لا ترضه معصية من عصاه ولا تنقص من خزائنه شيئاً، ولا تنفعه طاعة من أطاعه ولا تزيد خزائنه شيئاً!
فإذا جثونا عند أعتاب رحمته وعنايته، لوجب أن نقول: اللّهمّ إنك إذ ألبستنا لباس الوجود، ووهبتنا كل أسباب الحياة والرفاه بما يفوق إدراك المدركين، وأريتنا طرق الهداية، وأسبغت علينا من نعمك، إنما كان ذلك لمصلحتنا لننعم بأفضالك ونعمك. وها نحن قد وفدنا إلى دار كرامتك، وعلى أعتاب سلطنتك، مثقلين بذنوب الثقلين، مع أن ذنوب المذنبين لم تنقص من خزائن رحمتك، ولم تخلّ خطاياهم بمملكتك. فماذا أنت صانع بقبضة تراب لا تساوي شيئاً عند أعتاب عظمتك سوى أن تشملها برحمتك وعنايتك؟ أيمكن أن نأمل غير الرحمة من لطفك؟!
فعلى الإنسان أن يتردد بين هاتين النظرتين. فلا يغمض عينيه عما فيه من نقص وقصور في القيام بواجب العبودية، ولا هو ينسى سعة رحمة الحق جل جلاله وعنايته وشمولها.
- مراتب الخوف وأسبابه:
للخوف مراتب ودرجات متعددة، منها:
1- العامة: حيث أنهم يخافون من العذاب والألم والعقاب في الآخرة نتيجة ذنوبهم.
2- خوف الخاصة: حيث أنهم يخافون من العتاب الإلهي لهم بسبب تقصيراتهم في جنب الله.
3- خوف أخص الخاصة: حيث أنهم يخافون من طروء الحجب التي تحجب القلوب عن الله تعالى، فأشد ما يخافونه البعد والفراق.
وهناك عوامل تساعد على رفع غفلة الإنسان وحصول هذه المراتب عنده على اختلافها، منها:
- التفكر في شدة بأس الله تعالى وأنّه شديد العقاب، وملاحظة دقة الطريق المستقيم، وأخطار الدنيا وما فيها ومتاعب البرزخ ومصاعبه، ووقفة يوم الحساب والميزان، وعذاب الآخرة!
- الاعتراف بالقصور عن عبادة الله تعالى حق عبادته، لأنّ العبادة هي الثناء على مقام ذات الله المقدسة، وثناء كل شخص لا يمكن إلا مع معرفة الشخص ومزاياه بشكل كامل، ويد العباد قاصرة عن عزّ جلال معرفته، فهم بالتالي غير قادرين على ثنائه حق الثناء، كما اعترف بذلك أشرف البشرية وأعرف الكائنات بمقام الربوبية:
"ما عبدناك حق عبادتك، وما عرفناك حق معرفتك".
ولذلك كان (ص) يقول: "أنت كما أثنيت على نفسك".
- العبادة باب من أبواب الرحمة الإلهية:
ذكرنا أنّ العباد قاصرون عن الثناء على الله تعالى وعن عبادة ذاته المقدسة. ومن دون معرفة الحق سبحانه وعبوديته لا يمكن لأحد من عباده أن يبلغ المقامات الكمالية والمدارج الأخروية، كما هو ثابت في محله (وإن كان عامة الناس غافلين عن ذلك، ويحسبون المدارج الأخروية تأتي جزافاً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً) ولما كان الأمر كذلك فتح الله تعالى بلطفه الشامل ورحمته الواسعة باباً من الرحمة والرعاية بالعباد عن طريق تعليمات الوحي الغيبية وبواسطة الأنبياء، وهو باب العبادة والمعرفة، فعلم العباد طرق عبادته وفتح لهم سبيلاً إلى المعارف لكي يخففوا من نقائصهم قدر الإمكان ويسعوا لنيل الكمالات الممكنة ويهتدوا بأشعة نور العبودية للوصول إلى عالم كرامة الحق، وإلى الروح والريحان وجنات النعيم، بل إلى رضوان الله الأكبر.
ففتح باب العبادة والعبودية من النعم الكبرى التي تدين لها الكائنات كافة، دون أن تستطيع الوفاء بحق الشكر، بل إن كل شكر هو فتح باب كرامة لا تقدر على شكره أيضاً، فإذا علم الإنسان ذلك وأطلع قلبه عليه علم تقصيره. وحتى لو تقدم إلى أعتاب الله جل جلاله بعبادة الجن والإنس والملائكة المقربين لكان مع ذلك خائفاً ومقصراً.
فعلام تعتمد أيها الإنسان المسكين؟ أعندك متكاً تتكئ عليه؟ أتثق بعملك وتطمئن إليه؟ إذا كان كذلك فالويل لك من غفلتك هذه، وإذا كان اعتمادك على فضل الحق وسعة رحمته وشمول عنايته، فقد اعتمدت على أمر وثيق، ولجأت إلى ملجأ حصين، وقد ورد عن رسول الله (ص):
"قال الله تبارك وتعالى: لا يتكل العاملون لي على أعمالهم التي يعملونها لثوابي، فإنهم لو اجتهدوا وأتعبوا أنفسهم أعمارهم في عبادتي كانوا مقصرين غير بالغين في عبادتهم كنه عبادتي فيما يطلبون عندي من كرامتي والنعيم في جناتي ورفيع الدرجات العلى في جوارحي، ولكن برحمتي فليثقوا وفضلي فليرجوا وإلى حسن الظن بي فليطمئنّوا فإن رحمتي عند ذلك تدركهم ومني يبلغهم رضواني ومغفرتي تلبسهم عفوي فإني أنا الله الرحمن الرحيم وبذلك تسمَّيْتُ".
- الرجاء وسعة رحمة الله تعالى:
جاء في الأحاديث أنّ الحق تعالى يبسط يوم القيامة بساط رحمته بصورة يطمع حتى الشيطان بالمغفرة منه. وأنّ الحق سبحانه لم ينظر إلى هذا العالم منذ تكوينه وخلقه نظرة لطف كما ورد في الرواية، وأنّه سبحانه وتعالى لم يبعث إلى هذا العالم رحمته إلا بمقدار ذرة بالنسبة إلى العوالم الأخرى، هذه الذرة قد بعثت على إحاطة النعم الإلهية بالجميع من جميع جوانبهم! فكيف إذن بنعمه سبحانه في عالم هو عالم كرامته ودار ضيافته وموضع رحمته حيث يبسط رحمته ورحمانيته؟! إذن فأكمل حسن ظنك وثق بفضله "إنّ الله يغفر الذنوب جميعاً" ولو لا شمولك برحمته الواسعة لما كنت قد خلقت، فكل مخلوق مرحوم "وسعت رحمته كل شيء".
- الفرق بين الرجاء والغرور:
يمكن للإنسان أن يخطأ فيقع في الغرور وهو يظن نفسه من أهل الرجاء، ويمكن التمييز بين الحالتين من خلال أمرين:
1- المصدر والأساس في تكوّن هذه الحالة:
- إن كانت هذه الحالة نتيجة ووليدة الاعتقاد الراسخ بسعة رحمة الله وعظمته في قلب الإنسان حتى تعلق بهذه الصفات، وأشرقت عليه هذه الحالة فهو الرجاء.
- وإن كانت وليدة التهاون في أوامر الله تعالى والاسترخاء وقلة المبالاة، فهذا غرور ليس من الرجاء بشيء.
2- الآثار المترتبة على هذه الحالة:
- إنّ القلب الذي يعرف الله تعالى حتى وصل إلى مرتبة الرجاء سيكون محاطاً برحمة ذاته المقدسة وبعطاياه، وبالتالي ستراه يقوم بحق العبودية والطاعة، لأنّ العبادة والطاعة من الأمور الفطرية التي سيقوم بها القلب السليم بلا شك، وفي نفس الوقت ستجد نفسك غير معتمد على أعمالك تلك بل لا تعتبر هذه الأعمال شيئاً يستحق الذكر، وإنما كنت تعتمد على رحمة الله تعالى وفضله وعطائه، فأنت من أهل الرجاء. فاشكر الله تعالى على ذلك.
"إنّ الذين آمنوا والذين هاجروا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله".
- وأما من يعمل المعاصي ويتكل على أعماله لا سمح الله فهو الغرور! وقد سأل أحدهم أبا عبدالله (ع) عن قوم يعملون بالمعاصي ويقولون نرجو فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم الموت، فقال: (ع):
"هؤلاء قوم يترجحون في الأماني. كذبوا ليسوا براجين، إن من رجا شيئاً طلبه ومن خاف من شيءٍ هرب منه".
وفي رواية أخرى عنه (ع):
"لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو".
إنّ مثل من لا يعمل وينتظر رحمة ربه ويرجو رضوانه مثل من يرجو المسبب دون أن يعد الأسباب، كالفلاح الذي ينتظر الزرع من دون أن يبذر الأرض أو يهتم بإصلاحها وإروائها، إنّ مثل هذا الانتظار لا يمكن تسميته رجاء، بل هو حماقة وبله!
- سبب تعادل الخوف والرجاء:
ورد في الأحاديث الشريفة أنّه لابدّ من تعادل الخوف والرجاء "لو وزن هذا لم يزد على هذا ولو وزن هذا لم يزد على هذا"، فالإنسان عندما يدرك قصوره في النهوض بالعبودية ويرى صعوبة وضيق طريق الآخرة يصاب بالخوف، وعندما يجد ذنوبه ويرى بعينه كيف أن هناك بعض الأشخاص الذي كانت بدايتهم حسنة ثمّ انقلبوا وكانت عاقبة أمرهم الموت دون إيمان أو عمل صالح! سيصاب بالهلع، وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع):
"المؤمن بين مخافتين ذنب قد مضى لا يدري ما صنع الله فيه، وعمر قد بقي لا يدري ما يكتسب فيه من المهالك فهو لا يصبح إلا خائفاً ولا يصلحه إلا الخوف".
ولكنه في المقابل يرى الحق تعالى في منتهى العظمة والجلال وسعة الرحمة والعطاء.
وحيث أنّ الله تعالى حاضر في قلب المؤمن بجميع صفاته حيث تتجلى أسماء الجلال والجمال في قلب العارف بصورة متعادلة، لا يترجح كل من الخوف والرجاء على الآخر.
- وهناك من اعتبر أنّ الخوف أنفع للإنسان في حال صحته وسلامته وعافيته حتى يجهد نفسه بالعمل الصالح، وعند ظهور علامات الموت فالرجاء أفضل حتى يلاقي الإنسان الحق المتعالي على أفضل حال يحبه عليها تعالى. لكن هذا الكلام لا يتطابق مع الروايات المذكورة، ثمّ إنّ الخوف من الحق سبحانه محبوب لديه ولا يتنافى مع الرجاء المؤكّد، فوجود الخوف لا ينافي كون الإنسان في أفضل حال يحبها الله تعالى بل يؤكد محبوبية الله تعالى له.
- وهناك من ذكر أن وجود الخوف والرجاء في قلب واحد من شؤون الدنيا، فالخوف يفيد المؤمن في الدنيا لأنّه يحثه على العمل فيحرص على فعل العبادات وترك المعاصي، وأما في الآخرة فلا يبقى دور للخوف بالنسبة له وإنما سيبقى الرجاء في قلبه لأنّ الرجاء هو كمال معنوي على كل حال، ولأنّ العبد كلما نال رحمته الله أكثر كلما زاد طمعه نحو فضل الحق المتعالي أكثر لأن خزائن رحمته لا تنتهي.
يقول العلاقة المجلسي رحمه الله: "والحقد إنّ العبد ما دام في دار التكليف لابدّ له من الخوف والرجاء، وبعد مشاهدة أمور الآخر يغلب عليه أحدهما لا محالة بحسب ما يشاهده من أحوالها".
هذا الكلام لو سلمنا بصحته فهو يختص بطبقة المتوسطين حيث يكون خوفهم ورجاؤهم عائدين إلى الثواب والعقاب، وأما الخواص والأولياء فأمرهم مختلف، لأنّ الخوف والرجاء ناجمان عن مشاهدة عظمة وجلال وتجلي أسماء اللطف والجمال، والحاصلَين في القلب لا يزولان بمشاهدة أمور الآخرة، ولا يترجح أحدهما على الآخر بل إن آثار الجلال والعظمة وتجليات الجمال واللطف في عالم الآخرة أكثر، فيصبح الخوف الحاصل من عظمة الحق من اللذائذ الروحانية، وهو بهذا المعنى من الكمالات النفسية.
ارسال التعليق