• ٢٢ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٠ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

العواطف.. ميالة إلى التطرف

العواطف.. ميالة إلى التطرف

◄معرفة الاعتدال والغلو والإفراط والتفريط، من أعمال العقل، فهو الذي يُصدر الأحكام فيها وفي غيرها، وهو الذي يميِّز بين ما يشتبك ويلتبس من كلّ ذلك، لكن علينا أن نقول أيضاً: إنّ العقل لا ينظر إلى الأشياء، ولا يحكم عليها بعيونه المجردة، وإنما ينظر إليها عبر غشاء من الثقافة التي غُذِّي بها، فالإنسان يُعلي من شأن الأشياء التي تعلي من شأنها بيئتُه وثقافتُه، ويحطُّ من قدر الأشياء التي يرى قومه يحطون من قدرها. أما المشاعر والعواطف والأحاسيس، فهي صماء عمياء، حيث إنها تتولد داخل النفس بعيداً عن الموازين الدقيقة والمعطيات الصحيحة، ولهذا فإن من السهل جدّاً أن يحبَّ الواحد منا شخصاً حباً شديداً، قلَّ نظيره، وبعد مدة ينقلب الحب إلى بغض لافت وغير مألوف، وقد يحدث العكس، فينقلب البغض الشديد إلى حب عارم. ويقدِّم لنا (التعلق) الروحي الذي يُلمس بكثرة لدى المراهقين والمراهقات نموذجاً واضحاً في هذا حيث يرى من تعلق قلبه بشخص من الأشخاص أن كلّ محاسن الكون قد جُمعت له وفيه، إن كلّ ما لديه من تصرفات ومواقف واختيارات، وكلّ ما يقوله، ويراه يثير الدهشة والإعجاب، وإن كلّ ما يمكن أن يصدر عنه من أخطاء ورعونات لا يكون في عين من تعلق به شيئاً غير مقبول، إنّه جميل وله مسوغات وهو معذور في كلّ ما يُقْدم عليه.

 

·      ولعلي أعمّق الرؤية إلى طبيعة العواطف عبر المفردات الآتية:

1-    لدينا بعض النصوص التي توضح المرونة العظيمة للعواطف وكيف أنها قابلة للانتقال من النقيض إلى النقيض عند توفر الأسباب والظروف التي تساعد على ذلك، ويمكن أن نفهم ذلك من قول الله -تعالى- : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصّلت/ 34)، إن إكرام الخَلْق من خلال الصبر على أذاهم، ومن خلال مقابلة إساءتهم بالإحسان، من الأمور المؤثرة جدّاً في مشاعرهم حيث يمكن في معظم الأحيان أن يتحول العدو إلى ولي حميم وصديق مخلص. ونحن نعرف أن عواطف المرأة تكون في معظم الأحيان أقوى من عواطف الرجل، وأشد وضوحاً، وهذا لا يشكل مغمزاً أو مطعناً، لكن له تأثيره الواضح في العلاقة بين الزوجين حيث إن من الشائع والمألوف جدّاً أن يسمع الرجل من زوجته من الثناء والمديح وعبارات الإعجاب ما يتجاوز كلّ الحدود، وفي لحظة غضب أو جفاء، يتبخر كلّ ذلك لتفاجئ زوجها بعبارات قاسية تصوره مجرداً من الفضائل، وتصور الحياة معه جحيماً، لا يطاق! والمرأة في كلّ ذلك لا تتصنع ولا تجامل، ولا تحقد، وإنما تساير عواطفها، من غير رقابة عقلية كافية لما يمكن أن يصدر عنها بسبب تلك المسايرة من أقوال ومواقف مملوءة بالتناقض والتطرف، وقد وضح ذلك النبيّ (ص) على نحو صارم وجازم حين روي عنه في حديث طويل أنّه قال: "ورأيت النار، فلم أر منظراً كاليوم قَط أفظع. ورأيت أكثر أهلها النساء. قيل: بم يا رسول الله؟! بكفرهنّ. قيل: يكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير -الزوج- ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى أحداهنّ الدهر كله، ثمّ رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط". وهذا لا يحتاج إلى تعليق.

2-    يمكن القول: إنّ العواطف تشتد، وتثور، وتتقلب على نحو متطرف كلما كانت ثقافة صاحبها ضحلة ومحدودة، لأنّ الإملاق المعرفي يهمش سلطة العقل على ضبط العواطف وتوجيهها، كما أنّ الجاهل لا يدرك على نحو حسن نصاب التوازن والاعتدال في كثير من الأحيان، وهذا يجعله بمضي خلف عواطفه في تقلباتها دون أن يشعر أنّه قام بشيء غير لائق أو غير مقبول، ولهذا فإنّ الأُمم التي قطعت شوطاً طويلاً في التقدم الحضاري والمدني... تكون في العادة أقرب إلى الموضوعية في أحكامها، ويكون مدى تذبذب عواطفها أقصر، ونلاحظ هذا في الشعر، فالأمم النامية تستخدم البلاغة الكلامية، وتسرف في الذم والمدح أكثر من الأمم المتحضرة، حيث تكون هيمنة العقل والمعرفة على العواطف والمواقف والتعبيرات ضعيفة أو شبه مفقودة.

3-    قد يسأل المرء بعد كلّ هذا:

كيف سيكون في إمكاني الحد من تقلبات عواطفي، ولزوم القسط والاعتدال في مواقفي الشعورية؟

والجواب يكمن في الآتي:

·      إنّ العواطف ستظل تحتفظ بطبيعتها، أي التطرف والتقلب، وما جُبلت عليه من كونها صدى للأفكار والرؤى والتقييمات التي يحملها الناس في رؤوسهم، وكونها صدى لأحداث الحياة ومواقف البشر بعضهم من بعض، ولهذا فإن علينا دائماً أن نتوقع لعواطفنا نوعاً من الفوران غير المسوَّغ، وغير المقبول، وهذا يعني مهمتنا لن تتجاوز التهذيب ومحاولة التخفيف من الغلو والتطرف.

·      علينا بشيء، فلا نمضي معها إلى الحد الأقصى، وإذا نفرت من شخص أو أمر، فلا نمضي معها أيضاً إلى النهاية، وإنما نحاول أن نتذكر أنّ التعلق والنفور أمران متوقعان ومتقلبان، فلا ينبغي أن نتعامل معها كما نتعامل مع الأشياء الثابتة والمستقرة، ولو أننا استحضرنا هذا المعنى في تعاملنا مع عواطفنا لأصبحنا أكثر توازناً، ولتخلَّصنا من الكثير من التذبذبات التي تعكر حياتنا الشخصية والاجتماعية. وقد أرشدنا إلى هذا المعنى معلم الناس الخير (ص) حين قال: "أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما".

حين يحب أحدنا شخصاً لسبب من الأسباب، كأن يحب أسلوبه في التفكير، أو تفانيه في خدمة إخوانه، أو سماحته في التعامل مع الناس، فإن عليه أن يكون على وعي بذلك، ولا يقوم بتعميمه حتى يمدح كلّ شيء في ذلك الشخص، فيتجاوز الحقيقة، كما يفعل المراهقون والمراهقات حين تتعلق قلوبهم ببعض الأشخاص، فيحبون كلّ شيء فيهم، ويقلدونهم في كلّ شيء... وعليه في الوقت نفسه إذا تكونت لديه مشاعر سلبية أو انفعالات حادة تجاه صفة من شخص من الأشخاص أو عمل من أعماله، ألا يعمِّم ذلك عليه، ويذم كلّ ما فيه، أو يعمم ذلك على أهله وأقربائه وأهل بلده، فهذا من الظلم الذي لا يرضى الله عنه، كما أنّه من المجاراة غير الصحيحة للعواطف والمشاعر، وقد نهانا الله -تعالى- عن ذلك بقوله: (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ) (هود/ 85). وقال (ص): "إن أعظم الناس عند الله فرية لرجلٌ هاجى رجلا، فهجا القبيلة بأسرها، ورجل انتفى من أبيه وزنّى أمه".►

 

المصدر: كتاب هي.. هكذا/ كيف نفهم الأشياء من حولنا (ثلاثون سُنّة إلهية في الأنفس والمجتمعات)

ارسال التعليق

Top