• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

المسؤولية الإيمانية

المسؤولية الإيمانية
◄يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (المائدة/ 105).

وهذا نداءٌ للمؤمنين يحدّد مسؤوليتهم الإيمانية في الحياة، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ)، فعلى كلّ مؤمن أن يتحمّل مسؤوليّته عن نفسه في تهيئة سبل الهداية الفكرية والعقيدية والمنهجية، لإنجاز البرامج والخطط والأهداف والخبرة المتعلّقة بها. فإذا تمّ له ذلك على النهج الذي يرضاه الله ورسوله، فقد أخذ بأسباب الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة، ولن يضره بعد ذلك كفر الكافرين وضلال الضالين، لأنّ المسألة لا تتعدى صاحبها في ما يؤكّده الإسلام من فردية التبعيّة، فلا يتحمل إنسان ذنب غيره، ولا يؤخذ المهتدي بضلال الضال، مهما كانت درجة قرابته به وعلاقته معه.

وهكذا يوحي القرآن للإنسان، بأنّ عليه الاستغراق في هذا الاتجاه، من أجل أن يتحمّل مسؤوليته عن نفسه كاملة غير منقوصةٍ، فيعمّق لها مفاهيمها عن الكون والحياة، طبقاً لما أوحاه الله إلى رسوله، ولمّا بلّغه الرسول (ص) إلى النّاس، حتى لا تشتبه عليه الأمور، فيضلّ عن الهدى من غير علم، وينحرف عن الحقّ من دون وعي، ولكي يسير في خط العمل على الصراط المستقيم، فيضبط خطواته عن الانحراف، ويمنعها من الزلل، بالسير في حياته على هدي شريعة الله في ما تأمره به وتنهاه عنه، ليتأكد لديه الفكر والالتزام، فيصوغ على أساس ذلك شخصيته صياغة إسلامية لا مجال فيها للاهتزاز والارتباك، ويتابع – بعد ذلك – عملية المراقبة والمحاسبة والرصد لكلّ حركة في داخل نفسه من أفكار ومشاعر، وفي خارجها من أقوال وأفعال، ليستقيم له دورها، ولتثبت فاعليتها بانضباطٍ دقيقٍ وبشكل مستمر، من دون التفات إلى ما حولها من حالات الانحراف والضلال، لأنّ ذلك ليس مسؤوليته في ما يحمِّله الله من ذلك.

 

مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

ولكن، ماذا عن الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! فقد حمَّل الله المؤمنين مسؤولية هذه الأمور، واعتبر الالتزام بها استقامة على الدرب، وإهمالها انحرافاً عنه، وتوعَّد التاركين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما لم يتوعّد به على أيّة معصيةٍ أخرى. فكيف نوفق بين ذلك، وبين ما توحي به هذه الآية من وقوف المسؤولية عند حدود النفس، فلا تتعداها إلى غيرها؟

فهل هناك ناسخٌ ومنسوخٌ بين هذه الآية وبقية الآيات الأخرى كما يتصوره البعض؟ وهل هناك تحديدٌ للآية في نطاقٍ معيّن، كما في حالات التقية، أو في حالات الكفّار كما في بعض الروايات، أو أنّ القضية تتجه اتجاهاً آخر؟!

والجواب عن ذلك، أنّ الآية لا تأخذ وجهة الإهمال لدعوة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنّ مدلولها يتضمن مسؤولية الإنسان عن نفسه على أساس الخط المستقيم الذي رسمه الله، وذلك في مختلف دوائر حياته وشؤونه الإيمانية والعملية والالتزامية، سواءٌ تلك المتصلة بشؤونه الخاصة أو العامة. فقد كلّفه الله بأن يُمارس نشاطه العملي في هداية الناس وإرشادهم، وحفظ خطواتهم من الزلل، ورعاية أمورهم، وتدبير قضاياهم، قدر إمكاناته المادية والمعنوية.

وعلى ضوء هذا، فإنّ مسؤوليته عن الناس هي جزء من مسؤوليته عن نفسه، باعتبار أنّ ذلك من مرتكزات الإيمان. وليس في الآية ما يدل على خفاف ذلك، بل هي واردة لتأكيد الفصل بين النتائج الإيجابية التي ينتهي إليها الإنسان من خلال القيام بالتزاماته الشرعية، وبين النتائج السلبية التي تتمثل في سلوك الناس مع أنفسهم، سواء كان ذلك من جهة عدم استجابتهم له في ما يدعوهم أو يهديهم إليه، أو عدم انضباطهم في واجباتهم بشكل ذاتي. فلا علاقة له بالنتائج السلبية المنطلقة من تمردهم وضلالهم، لأنّه قام بواجبه كاملاً في هداية نفسه وهداية غيره، فلا يضره من ضلَّ إذا اهتدى. وبذلك، تكون المسألة مرتبطة بحركة الواقع في حياة الضالين والمهتدين، بعد استكمال كلّ الشروط الموضوعية التي تقوم بها الحجة على الضالين، وتتحرّك بها المسؤولية من خلال المهتدين. ولابدّ من التركيز على كلمة (لا يَضُرُّكُم)، فإنّها توحي بما قلناه، فيكون مساقها مساق الآيات التي تتحدث عن إبلاغ الدعوة إلى الناس، باعتبار أنّ ذلك هو ما يستطيع أن يتحمل الداعية مسؤوليته، لأنّ هناك شروطاً في حركة الفكر والإرادة للإنسان، كما أنّ هناك شروطاً في الأجواء المحيطة به. وليس على الداعية إلى الله، نبيّاً كان أو غير نبيّ، إلّا أن يبلِّغ بأفضل أساليب التبليغ، وليس من مسؤوليته ماذا يحصل بعد ذلك سلباً أو إيجاباً.

 

الاعتصام الاجتماعي:

وقد ذكر بعض المفسرين احتمالاً في النطاق الذي تتحرّك فيه الآية، فأنّ المخاطب بها هو مجتمع المؤمنين الذي يواجه مجتمع الكافرين بانحرافاته وضلالاته، ليكون المراد بقوله: (عَلَيْكُمْ أنفسَكُمْ) هو إصلاح المؤمنين مجتمعهم الإسلامي، باتّخاذ صفة الاهتداء بالهداية الإلهيّة من خلال المحافظة على معارفهم الدينية والأعمال الصالحة والشعائر الإسلامية العامة، كما قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا) (آل عمران/ 103)، فإنّ المراد بهذا الاعتصام الاجتماعي، الأخذ بالكتاب والسنّة، ويكون قوله: (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)، أنّهم في أمنٍ من أضرار المجتمعات الضالة غير الإسلامية. وتجري الآية على هذا مجرى قوله تعالى: (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) (آل عمران/ 196-197).

ولكنّ الظاهر من الآية، أنّها لا تخاطب المؤمنين كمجتمعٍ، من حيث إنّهم مجموعةٌ مميّزةٌ مرتبطةٌ ببعضها البعض في مقابل مجتمعٍ آخر على هذا النحو، بل هي في مقام إثارة القضية في حياة كلّ فرد من أفراد المؤمنين، لتحديد دوره ومسؤوليته، تماماً كما هي الآيات الكثيرة في القرآن، التي تطلب من المؤمنين أشياء وتنهاهم عن أشياء، فإنّها جاءت تخاطب الأفراد بطريقة الجمع الذي يختصر الأعداد الكثيرة بكلمة واحدة، لتحدّد لكلّ إنسانٍ منهم دوره، بعيداً عن أدوار الآخرين في ما تتمثل فيه من سلبيات.

(إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، وهذا الجزء من الآية موضوع البحث، لا يدع مجالاً للشكّ، بأنّ الجميع سائر إلى الله، المؤمن والكافر وأهل الضلالة، وبالتالي تثبت أنّ جميع الطرق منتهية عند الله تعالى، ليوفّى كّل من سلكها حسابه، حيث تتباين النتائج وتتراوح ما بين الفوز والفلاح، أو الخيبة والخسران، وذلك وفق ميزان الأعمال، وحيث تجد كلّ نفسٍ ما عملت محضراً، فمن ثقلت موازينه فهو في عيشةٍ راضية... وأما من خفت موازينه فأمه هاوية.

 

حدود المسؤولية:

هناك حديث قرآني على مستوى الحقيقة الإيمانية في خط القاعدة التي تحكم مسؤولية الإنسان في مسيرته الخاصة، وفي علاقته بالآخرين وعلاقة الآخرين به. فالهدى الذي يتصف به من خلال معاناته في المعرفة هو هداه، والضلال الذي ينحرف به عن خط الاستقامة هو ضلاله، فلا يتحمل الناس الآخرون، مهما قربوا منه، خطاياه. وفي ضوء ذلك، فإنّه يتحمّل النتائج الجيدة التي يمثلها الهدى، والنتائج السلبية التي يمثلها الضلال، فالهدى يربطه بمواقع الخير في الدنيا والآخرة، بينما يؤدي به الضلال إلى مواقع الشرّ. أما الله، فلا تنفعه طاعة من أطاعه، ولا تضره معصية من عصاه. ولذلك، فإنّه من المفروض أن يفكر الإنسان في المسألة بطريقة ذاتية، تحسب حساب الربح والخسارة في الحياة من موقع الذات، كما يفكر بطريقة مبدئية منطقية، الأمر الذي يعمِّق حسّ المسؤولية لديه في أكثر من جانب.

وإذا كان الإنسان الآخر لا يتحمّل مسؤولية العامل بالخطيئة، أيّاً كانت صفته من قرابة وزوجية وغيرهما، فإنّنا نستوحي من ذلك انسحاب المبدأ إلى الجانب المعنوي من العلاقات الخاصة والعامة، كما في مسألة الشرف التي قد يراها البعض، ممّن يتحركون في أجواء الجاهلية العائلية أو القبلية، خاضعة في الجانب السلبي لانحراف فردٍ من العائلة أو القبيلة، فإذا أخطأت المرأة مثلاً بعلاقةٍ غير شرعية كالزنا، فإنّ أهلها وعائلتها يعتبرون ذلك مسيئاً إلى شرفهم وعاراً عليهم، فيبادرون إلى غسل العار بقتلها، على أساس أنّه لا يغسل العار إلّا بالدم. وقد يتحول ذلك إلى حالة وحشية تضغط على المشاعر بطريقة همجية، تؤدي إلى وأد البنات، لأنّهم يخافون من العار إذا امتد العمر بالبنت، فبلغت سنّ الشباب، ووقعت أسيرة لدى الأعداء، فيسيء ذلك إلى شرفهم كما يدّعون، وقد تنفجر هذه العقدة في المبادرة إلى قتل المرأة لمجرد اتهامها بالزنا، وإن لم يثبت ذلك بطريقة شرعية.

إلا أنّ المفهوم الإسلامي المرتكز على خط العدالة، يؤكد لنا خطأ هذا السلوك، ويقرّر فردية الشرف. فللمرأة شرفها الشخصي الذي يتعلّق بها ولا يمتد إلى غيرها سلباً أو إيجاباً، وللرجل شرفه الشخصي كذلك، على أساس طبيعة السلوك الذاتي الصادر عن كلّ منهما، ولا علاقة لأحد بأحد آخر في هذا المجال، ولا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة. بينما نرى المفهوم الجاهلي يفرّق بينهما، فيعتبر انحراف المرأة موجباً للعار على الأهل، ولا يرى انحراف الرجل كذلك، بل قد يرى في زنا الرجل مظهراً للفحولة والقوة لا مظهراً للضعف، لأنّه العنصر الفاعل الإيجابي في هذه العملية، أمّا المرأة، فتمثل الجانب السلبي الذي يعبر عن مظهر ضعف وانسحاق للشخصية.

وقد نجد من الضروري تأكيد المسألة في التربية الخُلُقية للإنسان المسلم، بحيث تتحول الحالة الأخلاقية لديه إلى حالة شعورية وفكرية، فلا يتأثر بما حوله من التقاليد الجاهلية المجتمعية في سلوكه العملي، بل يكون الحكم الشرعي هو الأساس في بناء عاداته وتقاليده الخاصة والعامة، حتى لا يعيش الازدواجية بين ما تفرضه الشريعة من مسؤوليات، وما تفرضه التقاليد الاجتماعية من عادات وانفعالات، وقد يخضع – بفعل فقدان التوجيه الإسلامي الأخلاقي – لضغط التقاليد أكثر مما يخضع لتأثير الشريعة.

وهذا المنهج هو ما أشارت إليه أكثر من آية:

(مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (الإسراء/ 15). (وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى) (النجم/ 39-41). (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ) (النساء/ 111). (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ) (فصّلت/ 46). (وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (البقرة/ 48). (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (النحل/ 111). (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) (الإسراء/ 14). ►

 

المصدر: كتاب الندوة 16

ارسال التعليق

Top