وقد يراد بطمأنينة القلب الثقة في أمر أو توقعه برجاء عميق، كما في قول الله تعالى: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) (الأنفال/ 10). أي وما جعل الله الإمداد المتتابع لكم بالملائكة في غزوة بدر إلّا أن يكون بشرى لكم، ولتسكن به قلوبكم، وتثق فيه، وترجو من ورائه الخير والنصر.
و(الطمأنينة) خُلُقٌ من أخلاق القرآن الكريم، تحدّث عنها في أكثر من من موطن، فقال في سورة البقرة: (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (البقرة/ 260). وقال في سورة الرعد: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد/ 28). وقال في سورة الفجر: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً) (الفجر/ 27-28).. إلخ.
وبتدبرنا لحديث القرآن عن الطمأنينة نفهم أنّه يقصد بها الثبات والاستقرار، ويتحقق هذا بأمور منها: أن تكون النفس موقنة بالحقّ لا يخالجها فيه ظن أو تردد، وأن تكون آمنةً لا يستفزها خوف ولا حزن وأن تنتهي بآمالها ورغباتها إلى ربها، فليس وراءه أقوى منه ولا أقدر، وكما أنّ حاجات العبد غير متناهية، وكلّ ما سوى الله تعالى فهو متناهي البقاء والقوة، إلّا بإمداد من الله، وغير المتناهي لا يصير مجبوراً بالمتناهي، فلابدّ – في مقابلة حاجة العبد التي لا نهاية لها – من كمال الله الذي لا نهاية له، حتى يحصل الاستقرار، فثبت انّ كلّ من آثر معرفة الله لشيء غير الله فهو غير مطمئن، وليست نفسه نفساً مطمئنة.
أما من آثر معرفةَ الله لا لشيء سواه، فنفسه هي النفس المطمئنة، وكلّ من كان كذلك كان أنسه بالله وشوقه إلى الله، وبقاؤه بالله، وكلامه مع الله، فلا جَرَمَ الكلام لا ينتفع الإنسان به إلّا إذا كان كاملاً في القوة الفكرية الإلهية أو في التجريد والتفريد".
حيث إنّ حاجات العبد غير متناهية، إن حاجات الإنسان كثيرة موصولة ما دام حيا، والبقاء الأبدي الذي لا نهاية له إنما هو لله وحده: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ) (الرحمن/ 26-27).
والطمأنينة خُلُقُ أصحاب العقول الراجحة، والعلم الراسخ، والإيمان القوي، والذكر الخالص، والحقّ الثابت، فهم لا يزدهيهم متاع، ولا يوئسهم تعب، وما داموا قد أقبلوا على الله، واعتصموا بحبل الله، وحرصوا على ذكر الله، فإنّهم لا يذلون لما عداه في هذه الحياة. ولذلك قال سهل بن عبد الله: "إذا سكن قلبُ العبد إلى مولاه واطمأن إليه، قويت حال العبد، فإذا قويت أنسَ بالعبد كلُّ شيء".
ولقد أشار البصراء بدقائق الأخلاق إلى أنّ الطمأنينة مراتب ودرجات، فهناك طمأنينة القلب بذكر الله، فإنّ القلب إذا أخلص في ذكر الله هدأ واطمأن، وسكن واستراح. وهناك طمأنينة السالك على بصيرة وهدى إلى استقامة طريقه، وتوصيله إلى غايته، ولعله مما يشير إلى هذا قول الحقّ جل جلاله: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (يوسف/ 108). وهناك طمأنينة المؤمن إلى لطف الله وسعة رحمته، فربه هو القائل: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (الأعراف/ 156).
والرجل المطمئن لا يحزن على ما فات، ولا يفرح بما هو كائن، ولا يخاف مما هو آت، وهو لا يضجر من أداء واجب، فإنّ الطمأنينة فيها معنى الإقامة والدوام، ولذلك يقال: "اطمأن فلان بالمكان إذا لزمه وأقام فيه، وهو لا يمل مجانبة الإثم، لأنّ الإثم والطمأنينة لا يجتمعان، فالإثم حيرة، ولكن البر سكينة والحديث يقول: "الإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس". ويقول: "البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب".
والمطمئن لا يجزع من قضاء، ولا يضيق بقدَر، بل يردد مع القائل:
ما قد مضى يا نفس فاصطبري له *** ولكِ الأمان من الذي لم يقدر
وتحققي أن المقدّر كائن *** يجري عليك، حذرتِ أم لم تحذري
ولقد كان سيدنا رسول الله (ص) المثلى الأعلى في التخلق بخلق الطمأنينة، فما استطاعت الأهوال المتوالية أن تُخرِجه عن وقاره ورزانته، ولا استطاع النصر العظيم أن يزدهيه أو يغره، ولا ضعف يقينه أو رجاؤه في أحلك الظلمات وأشد الأزمات، والقرآن يترجم عن هذا حين يقول: (إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة/ 40).
وراودته الجبالُ الشمُّ من ذهب *** عن نفسه فأراها أيّما شَمَمِ
ومن مفاتح الطمأنينة ذكر الله تعالى، بالإقبال على تلاوة كتابه وتدبر آياته، وذلك لأنّ القلب يطمئن بالإيمان واليقين، والقرآن الكريم هو أصدق رائد إلى هذا الإيمان، وهو أقوى قاطع لذيل الشك والريب، ومن هنا جاء قول الله تبارك وتعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد/ 28)، لأنّ هؤلاء إذا ذكروا ربّهم، وقرأوا كلامه وتدبروا مغزاه، خشعت قلوبهم واطمأنت.
وإنّ القلب كلما وصل إلى شيء فإنّه يطلب الانتقال منه إلى حالة أخرى أشرف منها، لأنّه لا سعادة في عالم الأجسام إلّا وفوقها مرتبة أخرى في اللغة والغبطة، أما إذا انتهى القلب والعقل إلى الاستسعاد بالمعارف الإلهية والأضواء الصمدية بقي واستقر، فلم يقدر على الانتقال منه البتة، لأنّه ليس هناك درجة أخرى في السعادة أعلى منها وأكمل، فلهذا المعنى قال: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).
وقد يحلو لمعترض أن يقول: إنّ القرآن الكريم هنا يقول: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)، وفي مكان آخر يقول: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)، والاطمئنان ضد الوجل. والجواب عن ذلك أنّ المؤمنين إذا ذكروا العقاب، وعدم العصمة من المعصية، وجلوا وخافوا، وإذا ذكروا الثواب والرحمة اطمأنت قلوبهم، فالوجل عند ذكر العقاب، والاطمئنان عند ذكر الثواب.
ويمكن أن يقال إنّ علمهم بكون القرآن معجزاً يجعلهم يطمئنون إلى صدق الرسول (ص)، ولكن خوفهم من عجزهم عن الاستقامة الكاملة على كثيرة إيماناً يقينياً وهو لا يعرف كيفيتها، ويود لو يعرفها، فهذا التلغراف الذي ينقل الخبر من المشرق إلى المغرب في دقيقة واحدة، يوقن به كلُّ الناس في كلّ بلد يوجد فيه، ويقل فيهم العارف بكيفية نقله للخبر بهذه السرعة.
أفيقال فيمن طلب بيان هذه الكيفية إنّه شاك بوجود التلغراف؟ طلبُ المزيد في العلم والرغبةُ في استكناه الحقائق والتشوق إلى الوقوف على أسرار الخليقة مما فطر الله عليه الإنسان، وأكملُ الناس علماً وفهماً، أشدُّهم للعلم طلباً للوقوف على المجهولات تشوفاً، ولن يصل أحد من الخلق إلى الإحاطة بكلّ شيء علماً وقتل كلّ موجود فقهاً وفهماً.
وقد كان طلبُ الخليل (ع) رؤية كيفية إحياء الموتى بعينيه من هذا القبيل، فهو طلبٌ للطمأنينة فيما تنزع إليه نفسه القدسية من معرفة خفايا أسرار الربوبية، لا طلب للطمأنينة في أصل عقد الإيمان بالبعث الذي عرفه بالوحي والبرهان دون المشاهدة والعيان.
وقد زكى القرآن المجيد مكانة النفس المطمئنة، وبشّرها بحميد مآلها وجمال عاقبتها فقال: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر/ 27-30). و(النفس المطمئنة) هنا هي التي لا تأمر بالسوء وهي النفس المؤمنة الموقنة، المخلصة الساكنة، التي أيقنت أنّ الله ربها فاخبتت لذلك، ورضيت بقضاء الله تعالى، وعلمت انّ ما اخطأها لم يكن ليصيبها، وما أصابها لم يكن ليخطئها، والتي عملت على يقين بما وعد الله في كتابه، وهي واثقة بالبعث وبما لها عند الله من ثواب.
وقد تحدث القرآن عن نوع سيء من الطمأنينة، لأنّها طمأنينة كاذبة تقوم على الاغترار والانخداع، فقال في سورة الحج: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الحج/ 11). فليست الطمأنينة هنا هي تلك الطمأنينة الراسخة الثابتة المستقرة، وإنما هي صورة طمأنينة موقوتة مضطربة قلقة.
ويقرب من هذا الوادي قول الله تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (النحل/ 112).
وقال الله تعالى في سورة يونس: (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (يونس/ 7-8). أي إنّ الذين لا يؤمنون بالبعث، ولا يطمعون في ثوابنا، واكتفوا بملذات الحياة وشهواتها، وركنوا إلى الدنيا، واغتروا بها، وغفلوا عن آيات الله وأهملوها، سيكون مصيرهم النار بما كفروا وفجروا. وصفة السعداء أن يحصل لهم عند ذكر الله نوع من الوجل والخوف، كما قال تعالى: (إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) (الحج/ 35)، ثمّ إذا قويت هذه الحالة حصلت الطمأنينة في ذكر الله تعالى، كما قال تعالى: (وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).
وصفة الأشقياء أن تحصل لهم الطمأنينة في حب الدنيا، وفي الاشتغال بطلب لذاتها، كما قال في هذه الآية: (وَاطْمَأَنُّوا بِهَا) (يونس/ 7)، فحقيقة الطمأنينة عند هؤلاء أن يزول عن قلوبهم الوجل، فإذا سمعوا الإنذار والتخويف لم تَوْجَل قلوبهم، وصارت كالميتة عند ذكر الله تعالى.
والإنسان في أشد الحاجة إلى خُلُقِ الطمأنينة، ليجعله يندفع في شعاب الحياة ومسالكها، يمشي على نور الإيمان، ويعمل بثقة اليقين، ويواجه المتاعبَ بالصدر الرحب، ويلقى المسرات بالاتزان والاعتدال، وبذلك يسعد في حياته، وينعم برضوان الله جلّ جلاله عليه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق