◄إنّ أسمى هدفٍ يطمح إليه النظام الإسلامي هو تربية الناس العظماء ذوي الفضل، وبناء الفرد والمجتمع على صعيدي الجسم والروح، وفي كلا الجانبين المادّي والمعنوي، وبسط جناحي تسامي الإنسان وتكامله.
ومن هنا، تكتسب العبادات، وعلى رأسها "الصلاة"، هذا القدر من الأهمية، وتُسّمى (الصلاة) عمود الدين. فالصلاة حينما تؤدّى بانتباه وبحضورِ قلبٍ لا يقتصر تأثيرها على ما تغرسه في قلب المصلّي وروحه، وإنّما يتّسع مداها ليملأ الأجواء المحيطة به نوراً وشذىً يسري أريجه إلى رحاب البيت والأسرة. وإلى محلّ العمل ومجلس الأصدقاء، وإلى كلّ ربوع مدينته، بل، وكلّ آفاق الحياة.
كلّما ازداد المصلّي ذكراً وخشوعاً، تتبدّد من حوله ظلمات الأنانيّة والأحقاد، والاستبداد، ويضمحلّ الشحّ والبخل، ويرتفع العدوان والحسد، ويسطع نور الفلاح على جبين الحياة .
كلّ الوقائع المريرة في حياة الإنسان تعود جذورها إلى الغفلة عن ذكر الله والانغلاق في حدود المصالح الذاتيّة. والصلاة تطلق الإنسان من أسوار هذه الظلمات، وتحرّره من أغلال الشهوة والغضب، وتسمو به نحو الحقيقة المتعالية والخير الأشمل.
أعظم الفرائض
إنّ الصلاة في مضمار البحث الدائم (الأبديّ) والذي لا مفر منه والمأمور به الإنسان بل المجبول عليه هي أعظم الفرائض وأكثرها تأثيراً، ولعلّ البعض عرّف هذه الخصوصية فقط في ميدان السعي الفرديّ نحو الكمال، ولم يسمع بدورها في ميدان الجهاد الجمعيّ والاجتماعيّ في مواجهة القوى الدنيويّة المناهضة. لذا، ينبغي أن نعرف أنّ المروءة والثبات، في المواجهات المختلفة، مرتبطان بكون القلوب والإرادات مليئة بالصفاء والتوكّل والثقة بالنفس والأمل بحسن العاقبة.
مظهر العبادة الكامل
الحمد لله الذي جعل الأفئدة النيّرة الطاهرة ترنو إلى الصلاة وإلى إشاعتها وإقامتها، وبثّ فيها لهفة المجاهدة والسعي الحثيث في هذا السبيل.
لقد تلخّصت ثمرة مساعيكم الحكمية خلال هذه السنوات بأن أصبح للصلاة وهي المظهر الكامل للعبادة والمناجاة والدعاء والمحبة والإيمان بالمحبوب الفطريّ لعالم الوجود إشعاعٌ أكثر إشراقاً، وحضورٌ أكثر جلاءً في ذهن مجتمعنا الإسلاميّ وسلوكه.
والحمد لله، فقد أضحت الصلاة اليوم في الكثير من الأماكن التي يجمتع فيها الناس، ولا سيما مراكز تجمّع الشباب كالمدارس، والجامعات، والمعسكرات، والمتنزهات، والمؤسسات الحكومية، والطريق، وغيرها، ظاهرة، مشهودة وبارزة تقرّ بها العيون والأفئدة، وتُعرض في وسائل الإعلام وفي الكتب والدروس والبرامج الفنيّة والإعلاميّة الكثير من الكتابات والكلمات بشأن الصلاة، مما يجعل أذهان الكثير من الناس وقلوبهم تهفو إلى هذا التكليف العذب اللطيف، ويحدوها الشوق إلى إقامتها.
لا ينبغي الشكّ في أنّ هذا هو طريق النجاح والتوفيق في جميع المهامّ الفرديّة والاجتماعيّة، وهو الطريق نحو السعادة والفلاح. يقول تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (المؤمنون/ 1-2).
ما أكثر الأفراد والجماعات الذين بلغوا قمم التسامي والكمال بمعرفتهم لأهمية ومكانة الذكر والخشوع والإنابة، التي تعدّ الصلاة مظهرها الكامل، وإرفاقها بالعمل والإبداع الدنيويّ؛ وما أكثر السُّذج وقصيري النظر الذين حرموا أنفسهم من السعادة الكاملة بالغفلة عن هذا السر العظيم في الوجود، سواء من خلال الانغماس في العمل المادّي أو في أوقات الفراغ والكسل، وأينما حلّوا هووا بأنفسهم في مستنقع الحرمان والإخفاق بشكل أو بآخر. فالناس الذين جعلوا مساعيهم وجهودهم في ميدان الحياة الإنسانيّة مشفوعة بذكر الله، والأنس به، وعشقه، يدركون المعنى الحقيقيّ للسعادة، وتنالها أجسادهم وأرواحهم.
صلاةٌ بلا حضور بدنٌ بلا روح
فصلاة بلا ذكر ولا حضور، هي بدن بلا روح، وإن كان إطلاق لفظ الصلاة عليها ليس على سبيل المجاز؛ إلّا أنّه لا يترتّب عليه أثر الصلاة وخاصيّتها.
وقد ورد في الآثار حديثٌ عن هذه الحقيقة بعنوان "قبول الصلاة" وهكذا، ورد أنّه "ليس لك من صلاتك إلّا ما أقبلت عليه".
إنّ هذه الصلاة موهبةٌ ليس لها بديل ومنبع فيض لا يزول، حيث نصنع بها الإنسان الصالح من أنفسنا أوّلاً ومَن نحبّ ثانياً، وهي بوابة مفتوحة إلى ساحة واسعة يسودها الصفاء، وإنّها لحسرة أن يقضي الإنسان عمره بجوار هذه الجنّة ولا يزورها ولا يدعو أحبّاءه إليها، فقد أبلغ الوحي النبيّ العظيم (ص) (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) (طه/132).
الصلاة جنّة
الصلاة الزاخرة بالخشوع وحضور القلب أوّل ما تخلق في قلب المصلّي جنّة حقيقيّة يسري مداها تدريجيّاً إلى أجواء الحياة، وتهب المرء الصلاح والفلاح. وانطلاقاً من هذه الرؤية، أضحت الصلاة في كلّ الأديان الإلهيّة من أكثر آداب التديّن أصالة، ومن أبرز علامات الإيمان وأوضحها وأشملها، والصلاة الإسلاميّة هي أكمل الصلوات وأجملها.
نبع فوّار
إنّ الصلاة تمثل النبع الفوّار الذي يفيض بكلّ هذه وغيرها من الفيوضات الكثيرة على قلب المصلّي وروحه وتصنع منه إنساناً نقيّاً، ثابت القدم، راجياً، صاحبَ يقين.
وما جاء في القرآن بأنّ (الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (العنكبوت/45) ووُصِفت على لسان النبيّ الخاتم (ص) بأنّها "معراج المؤمن وقربان كلّ تقي" ، وفي كلمة واحدة،"أنّها عمود الدين"، ووصفها الرسول بأنّها "قرّة عيني"، يجب أن يحثّنا على التأمل والتعمق أكثر في فهم عظمة الصلاة.
طبعاً، يجدر بنا أن نعلم أنّ الصلاة لا تعني التفوه ببعض الكلمات وأداء بعض الحركات، فلا تترتّب كلّ هذه الفيوضات والبركات على إيجاد أمواج صوتية وأعمال بدنيّة دون أن تبعث في هذا البدن روح الذكر والتوجّه؛ وإن كانت - على الأقل- مسقطة للتكليف الشرعيّ. فروح الصلاة هي ذكر الله والخشوع والحضور أمامه، وهذه الكلمات والأفعال التي فرضت على المكلّف بالتعليم الإلهيّ، هي أفضل قالب لتلك الروح، وأقرب الطرق لذلك المنزل المقصود.
مبعث المعنويّات في زمن الآلة
الصلاة هي التي تبثّ في روح الإنسان دواعي الإيثار والصفح والتوكلّ والتعبّد، باعتبارها السند الحتميّ للواجبات الخطيرة والمهامّ الخطيرة والصعبة، كالجهاد والنهي عن المنكر والزكاة، وتدفعه لتقحّم تلك الميادين بكلّ بسالة.
وإنّ الحاجة إلى الارتباط المعنويّ بالربّ الرحيم والكريم، بالنسبة إلى جميع بني الإنسان من هذه الجهة، لهي اليوم، أكثر أهميّة وجدّية من أي وقت مضى؛ وتبرز الصلاة هنا كأفضل أداة وأجداها لتأمين هذه الحاجة. البشريّة اليوم أكثر حاجةً من أي وقت مضى إلى الصلاة الخالصة والكاملة.
باب التوفيق
يجب فهم أهميّة الصلاة بشكل صحيح. فإنّ الصلاة لله، إذا قُبِلت قُبِل ما سواها من الخدمات والجهود، وإذا رُدّت رُدّ ما سواها، فهذا كلامٌ يعرض أمامنا حقيقة كبيرة. وتلك الحقيقة هي أنّ الصلاة إذا وضعت في موضعها المناسب في المجتمع الإسلامي فسوف تفتح كلّ الجهود المادّية والمعنوية البنّاءة طريقها نحو الأهداف والمبادئ، وتوصل المجتمع إلى المحطة المثاليّة المطلوبة في الإسلام. وإذا كانت هناك عفلة عن أهميّة الصلاة، وجرى عدم الاكتراث لها فسوف لن يطوى هذا الطريق بشكل صحيح، ولن تترك الجهود والمساعي تأثيرها اللازم في الإيصال إلى القمّة التي رسمها الإسلام للمجتع الإنساني.
نافذة نسيم الحرّية
إنّ الصلاة حاجة ملحة للإنسان، وذلك لأنّنا، بسبب قيودنا المادّية، بحاجة إلى منفذ لاستنشاق نسيم الحرّية الذي يهب من العوالم المعنويّة وتطهير قلوبنا من الدنس والغفلة، إنّ جوهر الطينة البشريّة سيفقد بريقه بدون هذه النافذة التي تضيء وتنعش.
إذا عرفنا كُنه الصلاة وحقيقتها كما هي، فإنّنا سنشكر الباري تعالى آلاف المرات على هذه النعمة العظيمة التي أتحفنا بها أنبياؤه.
إقامة الصلاة من أوجب الفرائض
إنّ أقامة الصلاة من أوجب الفرائض في بلد رفع راية الإسلام خفاقة ويفخر بحكومة الإسلام، لأنّ كلّ أهداف المجتمع السعيد من قبيل: تحقيق العدالة الاجتماعية، وبلوغ الرفاهيّة العامّة والإزدهار المادّي، وتنميّة القابليات والإبداعات لدى أفراد الشعب، والتمتّع بالعلم والمعرفة والخبرة، والعزّة والاستقلال والاقتدار الوطنيّ، وإشاعة الأخلاق الإنسانيّة والعلاقات السليمة بين أفراد الشعب، وسائر الأهداف السامية، إنّما تتحقق في ظل التربية الذاتيّة والتهذيب الأخلاقيّ لدى أفراد الشعب ولا سيّما المسؤولين عن شؤون البلاد. ومع وجود أُناس أطهار في ذلك المجتمع يتمتّعون بالعزيمة والتوّكل والإخلاص والصبر والسعي الحثيث، فإنّهم سيتمكنون، وبمعونة هذا الرصيد الروحيّ، من تحمّل الأعباء الثقيلة والوقوف بوجه العقبات المختلفة ولا سيّما أمواج الفساد والدمار. وكلّما ازداد عدد هؤلاء في مجتمع ما وبلد معين، أصبحت آفاق مستقبل ذلك المجتمع وذلك البلد أكثر جلاًء ووضوحاً، والسير نحو السعادة فيهما أكثر سهولة وإمكانيّة.
ومما ذكرنا، تتضح أهمية الصلاة وأحد أسرار التركيز عليها (والدعوة إليها) في التعاليم الإسلاميّة، لأنّ الصلاة أفضل وسيلة لبلوغ أفراد المجتمع المسلم التهذيب الأخلاقيّ والسموّ الروحيّ والمعنويّ.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق