كان الأسبوع الماضي أوروبيّاً بامتياز. أغرقت الكاميرات ثلاثة مدن رئيسية: موسكو ووارسو وميونيخ.. في موسكو كانت هناك محاولات إنعاش المصالحة الفلسطينية التي باءت بالفشل الحتمي، لأنّ المعطيات هي نفسها كسابقاتها، والنتائج بالتالي تبعاً لجميع قوانين العقل والمنطق كسابقاتها أيضاً. وفي وارسو كان مؤتمر عرّابي الصفقات المشبوهة «ترامب ونتنياهو» بعنوان كبير جدّاً لا أذكره لأنّه غير مهم، فيما الهدف واضح: «ضد إيران» ومطاط يتسع لقائمة طويلة ومتنوّعة من المواضيع والمصالح والتسويات. أمّا في ميونيخ فبرأيي كان الحدث الأهم، رغم قلة التغطية العربية مقارنة بمؤتمر وارسو، لأنّهم تحدّثوا بصراحة وبتناقض وبخشونة تعبّر عن الواقع العالمي الحالي وتكشف بتشاؤم ملامح القادم..
السؤال الرئيس الذي ارتكزت عليه اجتماعات ونقاشات مؤتمر ميونيخ للأمن هو «اللغز الكبير.. مَن سيلتقط ويرتّب قطع الصورة؟؟». والمقصود هنا باللغز النظام العالمي أو الصورة الكلّية للعالم التي تعاني من تفكك قطعها وتحتاج إلى مَن يعيد ترتيبها!
كان هدف المؤتمر على الدوام منذ أن بدأ في العام 1963 أي في ذروة الحرب الباردة، هو الحفاظ على رؤية عالمية غربية موحّدة ترتكز على مبادئ ومصالح وقيم مشتركة أبرزها: أسواق مفتوحة، وأمن مسيطر واستخبارات قوية، مع محاربة أيّة مخاطر تهدّد مصالح الحلفاء على ضفتي المحيط الأطلسي: الولايات المتحدة من جهة وشركاء الناتو في أوروبا من جهة أُخرى، وكان يوصف المؤتمر من قبل مؤسّسيه بأنّه اجتماع للعائلة.
اليوم.. وعلى ما يبدو أنّ العائلة تفكّكت، فقد غابت وحدة المصالح وغابت معها القيم المشتركة التي طالما تحدّث عنها الأوروبيون والأمريكان، فأصوات الخلافات والاختلافات تغطي على التوافق بين ضفتي الأطلسي حول أُسس البناء الدولي وأزماته. لا شيء كما كان في السابق هكذا قال رئيس المؤتمر الدبلوماسي «إيشينجر» فالنظام العالمي الليبرالي بأسره يتهاوى!! بالفعل لا اتفاق بين الحلفاء في التعامل مع إيران، ولا في العلاقة مع روسيا، ولا في قضايا الشرق الأوسط، وخاصّة سوريا واليمن والقضية الفلسطينية، ولا موقف مشترك تجاه فنزويلا، هل هي فنزويلا مادورو أم فنزويلا غوايدو؟ حتى الناتو الحلف الذي أطّر وقنّن وجمع مصالح الضفتين بات محل انتقاد من قبل الإدارة الأمريكية. في الجهة الأُخرى من العالم روسيا تعاود تموضعها الدولي في نقاط مختلفة، والصين أكثر ثقة باقتصادها الواعد، وأمن الطاقة يجمع فرقاء الماضي ألمانيا وروسيا.
مايك بنس نائب الرئيس الأمريكي لخص توجه الولايات المتحدة العالمي في جملة واحدة تعبّر عن محدّدات الإستراتيجية الأمريكية الكبرى قائلاً: «لا يمكن ضمان الدفاع عن الغرب طالما يسعى إلى احتضان الشرق (روسيا والصين)». الصمت المطبق الذي واجهه بينس في القاعة حين نقل تحيات ترامب إلى الموجودين كان تأكيداً على أنّ النظرة الأوروبية للولايات المتحدة قد تغيّرت نحو كثير من الشكّ والارتياب والقناعة بأنّ أمريكا بسياساتها المتقلّبة ورفضها للاتفاقات والتوافقات الدولية هي السبب في انهيار النظام العالمي الليبرالي وفي دفع أوروبا للتوجه نحو حلفاء جُدد.
رغم الحضور الاستثنائي الضخم لقادة ومهندسي الأمن وصانعي القرار في ميونيخ، إلّا أنّه فشل في إيجاد حلول للأزمات العالمية فتناقض المصالح بين الكبار كان سيِّد الموقف وإصرار أمريكا على نهج سياسة أُحادية دون النظر لمصالح حلفائها الأوروبيين يزيد من مؤشرات الصراع ويغيّر من قواعد اللعبة. وعليه فنتيجة هذا المؤتمر أيضاً صفر كبير يبشّر بلا نظام عالمي جديد / قديم تعود فيه المنافسة بين القوى الكبرى وتغيب عنه الدبلوماسية والتوافق والغلبة ستكون لسياسة الاستقطاب!
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق