• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

إتقان العمل

إتقان العمل

◄لا تقف المعادلة عند حدود أن تعمل أو لا تعمل، فمتطلبات الحياة ومستلزماتها تفرض عليك حدّاً من العمل والحركة، لكن المعادلة الأصعب والأعمق تكمن في التنافس على مستوى العمل ودرجة إتقانه.

فالسباق والتنافس الشديدين بين دول العالم اليوم ليس في مجال القدرة على الإنتاج أو كمية الإنتاج فحسب، وإنما الأهم من ذلك هو السعي للتفوق في الجودة والإتقان.

وإذا كان التنافس في الماضي يتم ضمن رقعة وحدود معينة، فإنّه الآن يجري على مستوى العالم الذي أصبح قرية واحدة. فالمنتج لا يقارن اليوم بأمثاله على مستوى منطقة إنتاجه، بل يدخل معركة التنافس مع ما يشاكله من مختلف بلدان العالم.

من هنا تبرز أهمية تأكيد القرآن الكريم على الارتقاء بالعمل إلى المستوى الأفضل والأحسن، وليس مجرد أداء العمل في أي مستوى كان.

1- فالإنسان في هذه الحياة جاء ليواجه تحدي التفوق والتقدم يقول تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) (الكهف/ 7)، (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا...) (الملك/ 2).

2- وحينها يريد الإنسان المؤمن أن يقدم أفكاره ومعتقداته للآخرين، ويعرضها عليهم، فعليه أن يجتهد في اختيار أفضل أسلوب، وأحسن طريقة للطرح والتقديم، وإلا فإنّ عرضه سيكون ضعيفاً غير مقنع، أو سيئاً منفراً. يقول تعالى: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...) (العنكبوت/ 46).

3- وإذا تحمل الإنسان مسؤولية الإشراف على ثروة يتيم قاصر، فعليه أن يتوخى إدارة أمواله بأفضل نحو ممكن للحفاظ عليها وتنميتها يقول تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...) (الأنعام/ 152).

4- وتخاطب الإنسان مع من حوله، وكلامه لهم، لا ينبغي أن يأتي كيفما اتفق أو من وحي الانفعالات والأحاسيس، وإنما يجب أن يختار الإنسان أجمل الكلمات، وأنسب المعاني في تحدثه مع الآخرين، يقول تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...) (الإسراء/ 53).

5- ومجمل تعامل الإنسان وتعاطيه مع الآخرين، عليه أن يجتهد لجعله في أرقى مستوى، وأفضل صيغة، مهما كانت مواقفهم نحوه، يقول تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...) (المؤمنون/ 96).

6- ولتركيز قيمة الإتقان، والارتقاء بالعمل إلى أفضل مستوى، فإنّ القرآن الكريم يؤكد على ثبوت هذه الصفة للفعل الإلهي، وما على الإنسان إلا أن يتأمل في عظمة خلق الله تعالى، ليرى أنّ كلّ شيء صنعه الباري جلّ وعلا، فهو في غاية الكمال والإتقان.

يقول تعالى: (.. صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ...) (النمل/ 88)، (.. فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون/ 14)، (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ...) (السجدة/ 7)، (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين/ 4).

وبلغة واثقة حاسمة يتحدى القرآن الكريم أبناء البشر، على مدى أجيالهم الصاعدة، وتقدم مستوياتهم العلمية والتكنولوجية، أن يجدوا ثغرة أو نقطة ضعف أو خلل في كمال وجمال آفاق هذا الكون البديع، الذي تخضع كلّ ذرة فيه لنظام متقن رصين. يقول تعالى: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ) (الملك/ 3-4).

 

مقاييس الجودة والإتقان:

للتنافس الشديد على تسويق المنتجات، وللاهتمام العالمي بمسألة الجودة والإتقان، أصبحت هناك أنظمة ومؤسسات لتحديد مواصفات الجودة، وتقرير مدى انطباقها على أي منتج من المنتجات. ويوجد الآن ما يعرف بـ(إيزو 9000) وهو نظام للمواصفات القياسية في الجودة.

ومن الدول المتقدّمة في الاهتمام بالتدقيق في المواصفات القياسية للجودة هي اليابان، ويذكرون أنّ هذا الاهتمام عندهم مرّ بثلاث مراحل تأريخية:

المرحلة الأولى: من عام 1955 إلى عام 1965م وهي التي ركّزوا فيها على الجودة النسبية، بالتقليل من نسبة الخطأ والثغرات في المنتج، فمثلاً في إنتاج السكر، يكون التفاضل بخفض أكبر نسبة للشوائب فيه، بحيث تصبح نسبة الشوائب 10% أو 5% أو ما أشبه. فالمصانع تتنافس على تقليل نسبة الخطأ.

المرحلة الثانية: من عام 1965 إلى 1975م انتقلوا لمرحلة انعدام الخطأ، بحيث يكون المنتج سليماً 100%.

المرحلة الثالثة: ما بعد 1975م وهي مرحلة الجودة النوعية، حيث تتنافس المنتجات على إحراز أكبر قدر من الميزات الإضافية.

إنّ خلوص العمل من الخلل والنقص هو الحد الأدنى لإتقانه وجودته، لكن هناك مستويات ومقاييس أخرى، تؤخذ الآن بعين الاهتمام والاعتبار، ومنها مدى سرعة الإنجاز، فقد تجد أمامك خيارات عديدة لتصنيع منتج معيّن، أو إنشاء بناء أو مشروع، وقد تتساوى عروضها من حيث المواصفات والتكلفة، لكنها تتفاوت في جانب توقيت الإنجاز والإكمال، فيكون لذلك دخل في ترجيح الأسرع والأقل استهلاكاً للزمن.

كما أصبح التطوير، وإضافة المزيد من الامتيازات، مضماراً للتنافس على الجودة والإتقان، في مختلف مجالات العمل والإنتاج.

 

كيف نتعامل مع العمل؟

في بلداننا تنفق ميزانيات ضخمة، وتصرف أوقات كثيرة، وتستهلك جهود طائلة، على القيام بمشاريع، وأداء أعمال، من قبل القطاع العام والخاص، لكن الملحوظ غالباً هو ضعف الاهتمام والعناية بجودة العمل وإتقانه، لذلك تكثر الثغرات والخلل في المشاريع، ويتأخر إنجازها، كما لا تحقق العديد من الأعمال النتائج المرجوة منها، وتفشل بعض المنتجات في ميدان منافسة البضائع المستوردة.

فقد نصرف ميزانية كبيرة على رصف شوارع وطرقات لا تلبث أن تصبح متشققة محفّرة.. وقد نبني عمارة أو بيتاً بمبلغ ضخم، لكنه بعد فترة بسيطة تظهر فيه العيوب والنواقص.. وتكثر الأخطاء الطبية في العديد من مستشفياتنا ومؤسساتنا الصحية.. وهكذا نعاني في مختلف المجالات من تدني مستوى الإنتاج والعمل، وإن كنا لا نستطيع التعميم، فهناك محاولات وتجارب رائدة يفخر بها، إلا أنها محدودة في مقابل الحالة العامة السائدة في بلدان العالم الثالث.

إن أكثرنا ينجز العمل كيفما اتفق، دون أن يهتم بالجودة والإتقان.

ولعل من أبرز الأسباب والعوامل التي تكرّس هذه الحالة ما يلي:

1- ضعف الرغبة والإخلاص:

حيث يقوم البعض بعمله وكأنّه مكره عليه، ومضطر إليه، فلا يتوفر لديه اندفاع ورغبة داخلية لأداء العمل، فيمارسه بتثاقل وكسل، وكما قال الإمام جعفر الصادق (ع): "الكسل يضرّ بالدين والدنيا". وقال (ع): "عدو العمل الكسل".

ويذم الله تعالى المنافقين على صلاتهم، لأنّهم لا يؤدونها بإخلاص واندفاع، بل بتثاقل وكسل، يقول تعالى: (.. وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى...) (النساء/ 142).

إنّ الإنسان في عمله يصرف من جهده ووقته، فلماذا يستهين بما يستهلك من ذاته؟ ولماذا يقبل بإضاعة طاقته وجهده في مستوى متدن هابط؟

حقاً إنّ من يحترم نفسه يحترم عمله، وإنّ من يقدر جهده ووقته يهتم بإتقان أدائه وإنتاجه.

وفي نظر الإسلام فإنّ العمل والكدح لإدارة شؤون الحياة أمر مقدس، وهو في درجة العبادة، بل درجة الجهاد في سبيل الله، فقد ورد عن الإمام جعفر الصادق (ع): "الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله".

إنّ الموظّف والعامل ورجل الأعمال والعالم والخطيب حينما ينطلق إلى عمله بعشق ورغبة، فسيتعامل معه بإخلاص، ويؤديه بجودة وإتقان.

2- ضعف الوعي الاجتماعي والوطني:

كلنا نمارس النقد، ونظهر التذمر من المستوى المتدني للإنتاج، وأداء الأعمال في مجتمعاتنا، لكننا في الواقع نتذمر من أنفسنا، وندين سلوكنا، لأننا شركاء في صنع هذه الحالة العامة، كلّ في موقعه، ومن خلال دوره وعمله.

سمعت مرّة بعض المواطنين يشكون من تقصير أحد الموظفين في إنجاز أعمال المراجعين، واتفق بعد فترة أن رأيت ذلك الموظف نفسه يعلن الشكوى والانزعاج من موظف احتاج هو إلى مراجعته في موقع آخر، فقلت: سبحان الله ما للواحد منّا يشعر بتقصير الآخرين نحوه ولا يشعر هو بتقصيره تجاه الآخرين؟ يرى الخلل حينما ينعكس على مصلحته المباشرة ويتجاهله حينما يضر بمصالح الآخرين؟

إنّ الإصلاح والتغيير في أوضاع مجتمعاتنا، يبدأ من كلّ فرد منا، لأنّ كلّ واحد يؤدي دوراً ما، فإذا أتقن دوره يكون قد أسهم في معالجة جزء من الخلل، ويصبح أنموذجاً للآخرين ومشجعاً لهم على ذلك.

3- غياب المحفزات:

فالمجتمعات التي تهتم بالجودة والإتقان، تخضع لقوانين عادلة موضوعية، تقدر الكفاءت، وتحترم الجهود والعطاء، وتقدم المحفزات وعناصر التشجيع للمتفوقين، والأكثر عطاءً وإتقاناً. وذلك عامل مهم للتطوير والتقدم.

أما حينما تسود معادلة المحسوبيات، والتمييز بين الانتماءات والولاءات، ويتفشى الفساد الإداري، فسوف يكون ذلك على حساب الكفاءة والتطوير. وسيضن العامل بجهده وطاقته إذا لم يجد التقدير والمكافأة، أو رأى أنّ عطاءه يجيّر لصالح رؤسائه ومسؤوليه.

4- انعدام الرقابة والتقويم:

لأنّ التستر على الأخطاء، وغض الطرف عن الثغرات والنواقص، وسيادة أجواء المجاملة والمحاباة، كلّ ذلك يكرّس حالة الإهمال والاسترسال، واستمرار التدني في العمل والإنتاج.

إنّ لمؤسسات الرقابة والتفتيش، ووسائل الإعلام، ومناخ التنافس الحرّ، ووعي النّاس الذي يدفعهم للتقويم والتمييز بين منتج وآخر، وبين طرح وآخر، إنّ لذلك أثراً واضحاً في تسليط الأضواء على مكامن النقص والخطأ، والدفع باتجاه المعالجة والتصحيح.

فعالم الدين والخطيب والموظف والعامل وسواهم، إذا شعر كلّ واحد منهم بأنّ دوره وإنتاجه يخضع للتقويم والمناقشة، وأنّه يشكر ويقدّر إذا أحسن وأتقن، ويحاسب ويعاتب إذا أساء وقصر، فإنّه سيكون أكثر اهتماماً ورعاية لمستوى عمله وإنتاجه، أما إذا لم يلحظ شيئاً من ذلك، وأنّ "كلّ شيء يمشي" حسب التعبير المتداول. فالنتيجة المتوقعة هي هذه الحالة السائدة.

5- تأثير الأجواء العامّة:

حينما يعيش الإنسان ضمن محيط سليم، يخضع للنظام والقانون، وتسوده حالة الانضباط والإتقان، فإنّه غالباً ما يتربى على ذلك، ويتفاعل مع هذا الاتجاه السائد، بينما إذا أحاطت به أجواء متسيبة، فسينجرف معها. ونسمع كثيراً عن أشخاص يبدؤون مسيرة عملهم بالتزام وانضباط في المؤسسات أو القطاعات التي يلتحقون بها، ثمّ ما يلبثون أن يفقدوا تلك الحالة الإيجابية، ويصبحون جزءاً من الوضع الفاسد المنحرف، والسبب في ذلك هو تأثرهم وتكيّفهم مع المحيط العام.

 

ثقافة الإتقان:

يحتاج المجتمع إلى توجيه مكثف وثقافة عامة تدفع نحو الإتقان، وأن يؤدي الإنسان أي عمل يقوم به وإن كان بسيطاً بدقة وضبط، وترتيب واهتمام. ►

 

المصدر: كتاب العمل والفاعلية طريق التقدُّم

ارسال التعليق

Top