• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

في رحاب الحج…

في رحاب الحج…
"في عرفات والمزدلفة ومنى انفتاحٌ على الله وتأمّل وعبادة وخضوع وابتهال من أجل أن يبقى الله في عقولنا وقلوبنا".

·      فرضية الحج.

·      مشقة تعقبها السعادة.

·      بدايات التأسيس.

·      صلاة إبراهيم (ع).

·      تطهير البيت.

·      التمنيات الإبراهيمية.

·      الثبات على الإسلام.

·      ملّة إبراهيم.

·      التسليم المطلق.

·      أمة قد خلت.

·      البيت العالمي.

·      ذكر الله وتقوى الله.

·      دعاء الدنيا والآخرة.

·      حصاد الحج.

 

فريضة الحج:

في موسم الحج ينطلق الناس إلى بيت الله الحرام ليؤدوا الحج كفريضة فرضها الله على من استطاع إليه سبيلا، أو كمستحب استحبه الله لمن أدى هذه الفريضة، أو لمن تطوع بذلك.

ونحن نعرف أنّ الله عندما يكلفنا بشيء فإنه لابد أن يشتمل على الكثير مما يصلح حياتنا ويرتفع بمستوانا سواء في الجانب الروحي أو الجانب المادي منه، لأنّ كلَّ التكليف الإلهي ليس شيئاً يخص الله بمعنى أن يحصل له نفع من ذلك، بل هو من أجل أن تكون الحياة للإنسان أفضل وأغنى وأرحب وأقوم، وذلك هو قوله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ...) (الأنفال/ 24).

فالإسلام كلّه دعوة إلى الحياة، فكلّ ما أمرنا الله به فهو ينطلق من عناصر حية تمنحنا روح الحياة وحركيتها وخطها المستقيم، كما تنفتح بنا على حياة أخرى أكثر خلوداً وأكثر نعيماً وأكثر سكينة وأكثر طمأنينة (.. وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت/ 64).

 

مشقة تعقبها سعادة:

عندما نريد أن ننفتح على كلِّ ما أمرنا الله به وما نهانا عنه فعلينا أن لا نفكر في أنه عبء ثقيل علينا، يثقل أوقاتنا أو يثقل أجسادنا أو مشاعرنا  لأنّه في عمق معانيه يفتح حياتنا على الأفضل، ونحن نعرف أنّ الإنسان لا يستطيع أن يحصل على العسل إلا من خلال أبر النحل "ولا بد دون الشهد من أبر النحل" وكذلك لا يستطيع أن يقطف الزهرة إلاّ إذا جرحته الأشواك المحيطة بها، ولذلك فإنّ الجراحات التي تجرح مشاعرنا أو أحاسيسنا أو أوضاعنا من خلال ماكلفنا الله به هنا وهناك ما هي إلا وسيلة من وسائل اقتطاف وردة الرضوان الإلهي والنعيم الإلهي والسعادة الإلهية في الدنيا والآخرة، فالناس يقصدون إلى بيت الله الحرام ليعيشوا ذلك من خلال مكابدة المشاق التي تفرضها المناسك.

 

بدايات التأسيس:

وقد حدثنا الله عن خصوصيات هذا البيت وعن ظروف تأسيسه وعن روحية الشخص الذي أسسه وبناه، وعن الأفق الواسع الذي كان يفكر به ويحلم به ويدعو الله أن يحققه، وعن الخط الذي رسمه الله له في نهاية المطاف.

فلنبدأ مع القرآن الكريم ومع إبراهيم (ع) (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا...) (البقرة/ 125)، فالله أعده حتى يقصده الناس ويثوبوا إليه ويجلسوا عنده آمنين، كما أنّ الله جعله منطقة سلام في آية أخرى (.. وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا...) (آل عمران/ 97)، فليس لأحد أن يعتدي على أحد في هذا البيت وبما يحوطه من الحرم الذي جعله الله آمناً ببركة البيت.

 

صلاة إبراهيم (ع):

ويقول تعالى: (.. وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى...) (البقرة/ 125)، لأنّ إبراهيم هو الذي بدأ الصلاة هناك ليشير إلى الناس قائلاً: تعالوا إلى الصلاة هنا، اتخذوا هذا المقام مصلى لأنه أطلق الصلاة من خلال هذا البيت. ولذلك فإنّ كلَّ صلاة تأتي من بعده تنفتح على صلاته، وصلاة إبراهيم (ع) هي الصلاة التي ليس فيها شيء للذات وليس فيها شيء للجسد وليس فيها شيء للناس (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (البقرة/ 131)، (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام/ 162-163)، فهي صلاة تنفتح على الله بكلِّ عناصرها وبكلِّ مواقعها.

ولذلك يمكننا أن نستوحي من اتخاذ مقام إبراهيم مصلى أنّ صلاة إبراهيم هي النموذج الأعلى للصلاة فيما انطلقت الصلاة منه في التأريخ (.. وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ...) (البقرة/ 125)، باعتبار أنهما اللذان أسسا البيت ورفعا قواعده.

 

تطهير البيت:

عهدنا إليهما (.. أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (البقرة/ 125) وليس معنى طهّرا أي من النجاسة، بل أسساه طاهراً ليكون بنيانه على أساس الطهارة، والطهارة هنا قد لا يكون المراد منها – والله العالم – الطهارة من النجاسات ولكن الطهارة من الشرك، فطهرا بيتي أي اجعلاه طاهراً من رجس الشرك، وبهذا قال الله تعالى: (.. إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ...) (التوبة/ 28) باعتبار أنّ الشرك يمثل قذارة فكرية وقذارة روحية. وطهرا بيتي أيضاً أي اجعلاه طاهراً من كلِّ رجس الأوثان، وقد عبّر الله في آية أخرى عن الأوثان بأنها الرجس (.. فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ...) (الحج/ 30).

(ليطّوفوا بالبيت) بعيداً عن كلِّ حالة صنمية بحيث أنهم لا يتوجهون إلى البيت كما لو كان حجراً يستغرقون فيه، ولكن أن يتوجهوا إليه من خلال كونه يمثل معنى عبادة الله وتوحيده والإخلاص له (للطائفين والعاكفين) الذين يعتكفون في البيت للعبادة (والركّع السجود).

 

التمنيات الإبراهيمية:

وعندما عاش إبراهيم هذا الجوّ وهذا العهد انطلقت تمنياته وأحلامه لهذا المشروع الذي أكرمه الله ببنائه. (وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا بلداً آمناً) واجعله واحةَ سلام لا يقتل الناس فيه بعضهم بعضاً ولا يعتدي بعضهم فيه على بعض حتى أنّ الناس هناك لا يعتدون حتى على الحيوان إذا لم يكن حيواناً مؤذياً.

(.. وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ...) (البقرة/ 126) لأنّه قال في آية أخرى (.. إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ...) (إبراهيم/ 37) لذلك أراد إبراهيم لهذا البلد الذي يقصده الناس ليطّوفوا به ويعتكفوا ويدعوا أن يحصل على الثمرات التي تجذب الناس إليه أو تمثل شروط الحياة الطبيعية بالنسبة إليه (من آمن منهم بالله واليوم الآخر) لأنه لا يدعو للكافرين مع بقائهم على كفرهم (قال ومن كفر فأمتعه قليلاً) فكأن الله استجاب دعاءه لكنه استثنى من كفر (.. فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (البقرة/ 126)، وهنا أيضاً يحدثنا الله عن إبراهيم بعد هذه الجملة المعترضة (وإذ يرفع إبراهيم القواعد) الأسس (.. مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة/ 127) فكأنهما عندما قاما ببناء هذا البيت تعبّداً إلى الله وتقرّباً إليه بهذا الجهد الذي بذلاه، وأرادا من الله أن يتقبّل منهما (ربّنا تقبّل منا إنك أنت السميع) الذي تسمع دعاءنا (العليم) الذي تعلم ما نخفي في سرنا.

 

الثبات على الإسلام:

(ربنا واجعلنا مسلمين لك) وهكذا نجد أنهما وهما المسلمان يريدان من الله سبحانه وتعالى أن يجعلهما مسلمين بمعنى أن يتحرك الإسلام في حياتهما إلى نهاية حياتهما فلا يعرض عليهما شيء يختلف عن خط الإسلام (ومن ذريتنا أمة مسلمة لك)، وهذه هي المسألة التي نستوحيها من إبراهيم وإسماعيل، وهي أنّ على الإنسان أن لا يفكر فقط في أن يكون هو مسلماً بل لا بد له أن يفكر بامتداد الإسلام في ذريته لأنّ ذلك هو الدلالة على عمق الإسلام في شخصيته بحيث يصبح الإسلام طموحاً وهدفاً وغاية وليس مجرد شيء شخصي، ولهذا قال (من ذريتنا أمة مسلمة لك).

(وأرنا مناسكنا) يعني الفروض العبادية التي نعبدك فيها، خطّط لنا يا رب فروض الحج ومناسك الحج (.. وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة/ 128)، وكانا يفكران ربما من خلال بعض الإيحاءات التي كانا يستوحيانها مما أنزله الله عليهما أنّ هناك رسولاً سيُبعث حتى يحمل الرسالة (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (البقرة/ 129) وهذه هي التمنيات الإبراهيمية- الإسماعيلية التي كانا يشرفان من خلالها على العهد الذي أرسل فيه رسوله وهو من ذرية إبراهيم وإسماعيل، حيث انطلق ليتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وبذلك استجاب الله لإبراهيم (ع) كلّ ما طلبه مما يختص به وبذريته وبأهله وببلده وبالرسول.

 

ملّة إبراهيم:

لذلك اعتبر الله سبحانه وتعالى ملّة إبراهيم، هذه الملّة المنفتحة على الإسلام العقلي والقلبي والروحي واللساني والجسدي كلّه، اعتبرها هي الملّة الأساسية التي خططت لكلِّ الرسالات التي جاءت من بعده. ولذلك أيضاً قال سبحانه وتعالى: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (البقرة/ 130)، لأنّ الله اصطفاه نبياً ورسولاً وإماماً وخليلاً وهو في الآخرة من الصالحين (ِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (البقرة/ 131)، وهذا هو الإسلام العام، الإسلام المطلق الذي يفرض على الإنسان أنه عندما يقف أمام ربّه فعليه أن يسلم كلّه لربّه وأن لا يكون هناك شيء خارج إرادة ربّه.

 

التسليم المطلق:

فإنّ على الإنسان عندما يقال له إنّ الله قال كذا فلا مجال أن يقول أفكّر في الأمر حتى أفعل أو أترك (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ...) (الأحزاب/ 36)، فمع الناس يمكنك أن تقول أفكّر وأراجع نفسي وأقبل وأرفض، لكن أمام الله عليك أن تكون كإبراهيم (إذ قال له ربّه أسلم قال أسلمت لربّ العالمين) ولم يقتصر في هذا على نفسه (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (البقرة/ 132)، (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي...) (البقرة/ 133)، حيث كان بعض الناس يعبد الشمس وبعضهم يعبد القمر وبعضهم يعبد الكواكب والأصنام (ما تعبدون)، أريد أن أطمئن قبل أن أموت على الخط الذي ستنتهجونه. وهذا درس رائع لكلِّ مسلم، فهو غالباً عندما يأتيه الموت يفكر كيف هي التركة وكيف يحرم فلاناً وكيف يعطي فلاناً، فتراه مشغولاً في الدنيا التي سيفارقها كيف ينظمها والله قد نظمها بالإرث، في حين لا يفكر هل أنّ أولاده سيكونون مسلمين صالحين من بعده أو لا. فالله يريد أن يبيّن لنا هنا هذا الدرس (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي) وقد ربيتكم على الإسلام وعلى الإيمان (.. قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة/ 133).

 

أمة قد خلت:

 (تلك أمة قد خلت) آية نرددها دائماً، إبراهيم وإسماعيل ويعقوب وإسحاق وأولادهم، أمة انتهت، قامت بمسؤوليتها والكرة الآن في ملعبكم – كما نقول هذه الأيام – لأنّ الحياة أضحت لعبة، ونستعبر الكرة ولو من خلال المسؤولية في هذا المجال (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم). سيحاسبون على كسبهم وعليكم أن تؤكدوا كسبكم (.. وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (البقرة/ 134)، فنحن أيضاً مع إبراهيم حتى نعرف روحية هذا الإنسان الذي أعطى كلّ روحه وكلّ إخلاصه وكلّ قلبه لله سبحانه وتعالى.

ففي سورة إبراهيم (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ) (إبراهيم/ 35)، هنا قد يقول قائل كيف يطلب إبارهيم من الله سبحانه وتعالى أن يجنبه أن يعبد الأصنام، هل كان شاكاً في ذلك وهو يعرف نفسه؟ والجواب انه دعاء الإنسان الذي يريد أن يقدم نفسه لربه والذي يريد أن تكون حياته توحيداً لله من خلال مطلبه في أن يجنبه الله عبادة الأصنام حتى لو كان يحرز من نفسه انه لا يعبدها، راهناً ومستقبلاً. وكذلك أن يكون طموحه وحلمه أن يجنب بنيه ذلك، إذ كان إبراهيم مطمئناً لنفسه ومطمئناً لعاقبته.

أمّا نحن – المسلمين الآن – فنخشى على أنفسنا أن يغوينا الشيطان أو تتعقد الأمور فتنحرف بنا عن الصراط المستقيم كمثل قول الله سبحانه وتعالى وهو يتحدث عن البعض (الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) فقد يكون الإنسان مسلماً في أول حياته ثم تأتيه الحياة الفاسدة لتحرفه، فلا بد للإنسان دائماً أن يفكر بأن يطلب من الله حسن العاقبة وأن يجعل أولاده بعيدين عن الانحراف (واجنبني وبنيَّ أن نعبد الأصنام)، ثم قال: (ربّ إنهن أضللن كثيراً) فلقد كانت الأصنام مشكلة العهد الذي عاشه إبراهيم والمجتمع الذي عاش فيه، وقد عانى من ذلك الكثير عندما خاض صراعاً مع أبيه ومع قومه حيث كسر الأصنام بالطريقة التي يحدثنا عنها القرآن (ربِّ إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني) في خط التوحيد (.. فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (إبراهيم/ 36)، يعني أترك أمره إليك لتهديه ليستحق الغفران والرحمة من ذلك (ربنا إني أسكنت من ذريتي) لأنه ترك زوجته وترك ولده إسماعيل هناك (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم/ 37).

 

البيت العالمي:

وهكذا نجد أنّ قيمة البيت الحرام هي في أنّ الإنسان الذي بناه كان يعيش كلّ معنى الروحانية التي أفاضها على البيت حتى يعيش هذا البيت في كلِّ مداه كلّ هذه الروحانية التي أراد الله للناس أن يغرفوا منها وأن يعيشوها بكلِّ معانيها.

وهكذا رأينا كيف أنّ الله سبحانه وتعالى بعد أن بنى إبراهيم البيت وأراد لهذا البيت أن يكون البيت العالميّ، قال الله سبحانه وتعالى في آية سابقة (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة) وبكة هي لغة في مكة (.. مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ) (آل عمران/ 96)، فالله أنزل فيه البركة وأراد للناس أن يهتدوا به (فيه آيات بيّنات) مما حشده الله سبحانه وتعالى فيه من آياته (مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا).

(ومن كفر) مفسرة ومن لم يحج، وليس المراد الكفر العقيدي، بناءً على هذا التفسير، بل الكفر العملي وأنّ الإنسان الذي يؤمن بالله ولا يعمل بما كلفه الله هو بمنزلة الكافر لأنّ النتيجة واحدة، ذلك أنّ الكافر لا يعمل لأنّه لا يؤمن، وهذا مع أنّه يؤمن لكنه لا يعمل فالنتيجة في الخط العملي هو أنّه كافر عملاً وإن لم يكن كافراً عقيدة (.. وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران/ 97).

وهكذا أراد الله من إبراهيم (ع) أن يبدأ النداء إلى الحج (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (الحج/ 27)، (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ...) (الحج/ 28)، باعتبار أنّ الله سبحانه وتعالى يريد للناس أن يجعلوا من الحج ساحة منفعة لهم، فقد تكون المنفعة في الجوانب العبادية وهي الأساس، وقد تكون في الجوانب الثقافية التي يلتقون فيها ليعطي كلّ واحد منهم ثقافته للآخر أو في الجوانب الاقتصادية أو السياسية أو ما إلى ذلك حيث انّه المجمع العالمي الذي يلتقي فيه الناس من الشرق والغرب ليتعارفوا ولينتفعوا من خلال هذا التعارف وهذا الترابط الذي يمكن أن يؤدي إلى نتائج كبيرة على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والروحي والعبادي.

 

ذكر الله وتقوى الله:

وهكذا يحدثنا الله سبحانه وتعالى في أياته عن أعمال الحج وعما ينبغي للناس أن ينطلقوا به، ويؤكد سبحانه وتعالى في مسألة الحج على نقطة أساسية هي الخلاصة لكلِّ أعمال الحج وهي ذكر الله سبحانه وتعالى، فإنّ الله سبحانه وتعالى أراد للناس أن يخرجوا من الحج بنقطتين، إحداهما نتيجة للأخرى "ذكر الله وتقوى الله"، لا حظوا قوله تعالى (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث) والرفث كناية عن العلاقة الجنسية (ولا فسوق) والمراد كلّ فسق سواء بسبّنا بعضنا البعض أو بغير ذلك (ولا جدال في الحج) يعني الجدال طبعاً في غير الحقّ، الجدال الذي يتحرك ليثير العداوة والبغضاء والتعقيدات وما إلى ذلك، لأنّ الله أراد للحج أن يكون فرصة سلام لا أن يكون مناسبة يمكن أن تثير البغضاء بين الناس (وما تفعلوا من خير يعلمه الله) حتى لا يشعر الإنسان أنّ هناك خيراً يفعله يمكن أن يضيع عند الله (إنّ الله لا يضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى).

(وتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى)، ففي الحج كما في غيره يريد الله للإنسان أن يجعل زاده في الحياة الدنيا الذي يحمله إلى الآخرة والذي يرتفع بمكانته عند الله هو التقوى لأنّه الزاد الذي يحقق لك السعادة في الدنيا والآخرة، والله يخاطبنا بعد أن يبيّن لنا حقيقة التقوى وقيمتها يقوله (.. وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ) (البقرة/ 197)، وهذه كناية تعني يا أولي العقول، لأنّ عقل الإنسان يقوده إلى التقوى ويقوده إلى ما فيه نجاته ومصلحته.

ثم يقول (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم) فلا مانع من أن تنتفع مادياً هناك بما لا يشغلك عن حجك وعن عبادتك (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم) أن تذكر الله عند المشعر الحرام بحيث يكون وجودك هناك مملوءاً بذكر الله، وأن تذكر الله في قلبك وأن تذكر الله في إحساسك وأن تذكر الله في عقلك، وأن تذكر الله بلسانك (واذكروه كما هداكم) يعني اذكروه شاكرين له على أساس نعمة الهداية (وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله) بحيث يشعر الإنسان بأنّ نعمة الهداية هي في الإيمان وفي توحيد الله وهي النعمة الكبرى التي لا بد أن يذكر الإنسان ربه عندما يتذكره بالشكر (.. وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) (البقرة/ 198)، (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) ولا تنشغلوا في الحديث الذي يتعلق بأموركم الشخصية أو بلهوكم وبعبثكم، بل انطلقوا من حيث أفاض الناس في مسيرة ربانية تتجه بكم إلى ما يريد الله لكم أن تصلوا إليه من تقواه (واستغفروا الله) ولتكن إفاضتكم مملوءةً بالاستغفار (.. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة/ 199)، (فإذا قضيتم مناسككم) وانتهيتم من ذلك كلّه (فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشدّ ذكراً) ويبقى ذكر الله هو الأساس في كلِّ حركة في حركات الحج، تذكره وأنت تطوف وتذكره وأنت تسعى وتذكره وأنت تقف في عرفات وتذكره وأنت تفيض من عرفات، وتذكره وأنت تقف في المشعر، وتذكره وأنت تقف في منى، بل تذكره وأنت ترجم الشيطان، وفي المحصلة أن يكون ذكر الله هو الخط الحركي الذي تتحرك فيه، (فإذا قضيتم مناسككم) وجلستم (فاذكروا الله كذكركم آباءكم) باعتبار العلاقة التي تشدّ الإنسان إلى أبيه بحيث تجعله يتذكره دائماً (أو أشدّ ذكراً) لأنّ علاقتكم بالله هي أعظم من علاقتكم بآبائكم.

 

دعاء الدنيا والآخرة:

ثم يحدثنا الله تعالى عن الخط الذي عندما نذكر الله فيه فإننا ندعوه لأننا إذا ذكرنا الله شعرنا بالحاجة إليه وشعرنا بالفقر إليه، فكيف تدعو الله سبحانه وتعالى؟ وما هو مضمون الدعاء؟ إنّ الله يقسّم الناس على حسب عمق الإيمان في نفوسهم (.. فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) (البقرة/ 200)، كمن يقول: اللهم اعطني أولاداً، اعطني بيتاً، اعطني مالاً، اعطني صحة، أما أن تقول اللهم اعطني جنة، اعطني رضواناً فهذا أمرٌ ثانوي لا يهمّ البعض بحيث أنه قد لا يفكر بالآخرة كلية لأنّه مستغرق في الدنيا فقد تشغله دنياه حتى وهو بين يدي الله الذي قال (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ...) (غافر/ 60)، فحتى وهو ماثلٌ بين يدي الله يعيش الاستغراق في الدنيا بحيث لا يفكر أن يطلب من الله أن يرضى عنه وأن يدخله جنته وما إلى ذلك (فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة) فنحن نعيش في الدنيا ولنا حاجاتنا ولنا أمورنا ولنا قضايانا (.. وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (البقرة/ 201)، (أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (البقرة/ 202).

وعلى ضوء هذا فعلى الإنسان عندما يدعوه الله أن يدعو وهو منفتح عليه بحيث يضع بين يدي الله دنياه وآخرته، وليطلب من الله أن يعطيه في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وأن يقيه عذاب النار ليشهد الله على قلبه أنه لم يستغرق في الدنيا بحيث تشغله عن آخرته ولم يفهم الآخرة على أنها ابتعاد عن الدنيا فللدنيا مطالبها وللآخرة مطالبها.

 

حصاد الحج:

ينطلق الإنسان من الحج تقياً نقياً من خلال ذكر الله الذي يجعله يحسّ برقابته عليه في جميع الأمور، وهذا ما عبّر الله عنه في آية أخرى (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) (الحشر/ 19-20)، فالجنة أعدّت للذاكرين للمتقين للذي يجعل حياته كلّها ذكراً لله في نفسه وذكراً لله في علاقته مع الآخرين وفي كلِّ مسؤولياته في الحياة. هذا الإنسان الذي إذا حج حجاً واعياً بحيث كان الله معه في عقله وفي قلبه وفي كلِّ المجالات، هذا الإنسان يقال له استأنف العمل من جديد، لأنّ الحاج يخرج من الحج كيوم ولدته أمه بحيث يقال له لقد انتهت مرحلة كنت فيها عاصياً لله وعندما تحج إلى الله وتهاجر إليه كما هاجر إبراهيم (ع) (.. قَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي...) (العنكبوت/ 26)، فإنه يتقبّل هجرتك إذا عرف أنّ هجرتك إليه لا إلى ما تعيشه في نفسك من أطماع وأوضاع معقدة ولذا يقال له "استأنف العمل".

فيا أيها الذين تحجّون احتفظوا بحجكم ليبقى في عقولكم ذكرى، لا ذكرى كيف جلستم هنا وكيف انطلقتم هناك، ولكن ذكرى لكلِّ عبادتكم وإخلاصكم لله فإذا جئتم من الحج حاذروا أن تطوفوا ببيوت الظالمين وبيوت المستكبرين وبيوت الفاسقين وبيوت العابثين لأنّ من طاف ببيت الله لا يمكن أن يطوف ببيوت أعداء الله، وإذا سعيتم بين الصفا والمروة فعليكم أن تتذكروا أنكم أشهدتم الله على قلوبكم أنكم سعيتم بين الصفا والمروة قربة إليه فليكن سعيكم في الحياة في تجارتكم وفي سياحتكم وفي كلِّ أوضاعكم قربة إلى الله.

ففي عرفات وفي المزدلفة وفي منى انفتاح على الله وتأمّل وعبادة وخضوع وابتهال حتى يبقى الله في عقولنا وفي قلوبنا ومن أجل أن تبقى عواطفنا في خط الحقّ، وفي حياتنا من أجل أن تكون حياتنا مع الحقّ، وتلك هي فائدة الحج، فأين الذين يحجّون حجّاً كما هو الحجّ وأن لا يكونوا كما قيل "ما أكثر الضجيج وأقلّ الحجيج".

 

المصدر: كتاب الندوة (4)

ارسال التعليق

Top