• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

سياحة المُمانَعَة

أسرة البلاغ

سياحة المُمانَعَة

  سياحة المُمانَعَة

مُعطَيات الصوم وأبعاده الحركية

 

 

لجنة التأليف - مؤسسة البلاغ

 

إرادة التغيير:

بين (الصوم) الذي يعني الإمساك (الإمتناع) والكفّ عن الممارسة، وبين (المُمانعة) التي تُشير إلى حالة المنازعة مع النفس الميّالة إلى الشهوات، الأمَّارة بالسُّوء، المستغرقة في هواها، صلة قرابة.. ذلك أنّ الصوم – بما هو امتناع طوعي – يوجد حالة من ممانعة الذات في الانجرار إلى ما يهبط بقيمتها، أو يُسيء إليها، أو يُحدِّد حركتها في الحياة، أو يُشوِّه سُمعتها بين الناس.

عملية الشدّ والجذب بين نفس توّاقة للاغتراف من اللذائذ والانصراف عن مسؤولياتها، وبين حكومة عقلية تُقنِّن اندفاع الذات، وتضبط حركة سيرها، وتنزع أو تفكُّ عنها قيودها.. هي في الناتج النهائي عملية بنائية تصبُّ في مصلحة الإنسان الصائم أو الممتنع عن المضيّ مع رياح الرغبة بشكل طوعيّ، لأنّ الامتناعات الذاتية تخلق حالة من (المناعة) الداخلية التي تصدُّ هجمات المضعفات لقوى الذات وسلطانها وإرادتها.. هي (لقاح) فعّال للتوقي من آفات أو أضرار قد تلحق بطاقة الروح فتستنزفها.. وهناك من الباحثين النفسيين مَن يحسب أنّ في الإمكان إستخراج (طاقة ذهنية) من كل (قوّة جسمية) استناداً إلى مبدأ (وحدة القوّة) الفيزيائي.

يقول (تورنبول) في كتابه (المغناطيسية الشخصية): "بإمكان المرء أن يستخرج قوّة من رغبات نفسه، لأنّ الرغبة في مختلف أشكالها، إنما هي (تيّار ذهني) مشحون بالقوّة"! ويُضيف: "إذا أنت استجبت لرغبة ما، فإنّك بمجرّد هذه الإستجابة تَهدُر قوتك وتنقصها، ثمّ تفقد قوّة الجذب في شخصيتك"، ويعاكس تورنبول الرأي الإسلامي السائد في أنّ كبت الإنفعالات تُسبِّب اضمحلالها. ويرى أنّ الرغبات تكتسب عشرة أضعاف قوّتها إذا كُبتت، وهذا صحيح لو كان الحديث عن شخصية منفلتة لا انضباط روحياً لها، لأنّ المربِّي الإسلامي يرى أنّ (الكفّ) و(الامتناع) و(السيطرة الذاتية) و(الصوم) وكل أشكال الممانعة الأخرى، تعمل عل كبح جماح الرغبة لا على ازدياد إشتعالها.

خُذ على ذلك بعض الأمثلة: في (الغضب) وهو قوّة إنفعالية ملتهبة، ينادي الإسلام بـ(كظم الغيظ) وبـ(الحلم) وبعدم (المجاراة) في السبّ والشتم والمهاترة، بل إلى مقابلة الإساءة بالإحسان، مثلما يدعو إلى التعفُّف عندما لا تكون هناك وسائل شرعية للتصريف الجنسي (ومَن لم يجد فليستعفف)، بل نجد ذلك في الكثير من التعويضات المجزية المقدَّمة لمانع نفسه من الإسترسال، والمضاهاة (أي التقليد السلبي غير الواعي) وفراغ الصبر، والميل إلى الحرام، فيكون ما يتلذَّذ به (الصائم) من قوّة الصبر والتماسك أكثر مما يحصل عليه من لذّة الإنجرار والإسترسال والإنقياد إلى الضعف.

يقول صاحب (سلطان الإرادة): "لابدّ والحالة هذه، من اتخاذ خطوات أساسية لصون الطاقة العصبية في أن يمتنع المرء عن الغضب، والثرثرة، والدخول فيما لا يعنيه، وطلب الظهور والشهرة، وما إلى ذلك من أوضاع وحالات تُكلِّفه جهداً نفسياً لا طائل من ورائها، حتى إذا احتاج إلى أعصابه وجدها في خدمته تُلبِّي رغباته وتستجيب لإرادته، ويشعر عندئذ بقوّة في نفسه لا يعهدها من قبل، يخالجهُ إزاءها إحساس بالراحة يزيد في طاقته العصبية"[1].

وعليه، فإنّ تلبية الرغبات الحسّيّة فوق الحدّ الطبيعي هو هدرٌ كبير في التيار العصبي أو الطاقة العصبية التي نحتاجها في فعّاليات جسمية وعقلية ونفسية كثيرة.. هو أشبه بتشغيل كل المصابيح والأجهزة الكهربية في البيت من دون الاستفادة الفعلية منها، فكأنّ الطاقة الكهربائية هنا تُلقى في البالوعة أو تبعثر في الهواء!

ولمّا كان التفاعل بين (الجسم) و(النفس) طرديّاً ومطّرداً، فإنّ في مُستطاع الفكر أن يُغيِّر حالات الجسم، كما أنّ لهذه تأثيرها المتبادل في النفس، ولذلك فإنّ أكبر الأخطاء في فهم الصوم هي أنّه امتناع عن الأكل والشرب لساعات معيّنة، أو خلال شهر مُحدَّد، لأنّ الناظر إلى مسألة الصوم من هذه الزاوية يقف عند شكله الخارجي أو جانبه المادّي من غير أن يعكف بنظره على ما يفعله الإمتناع المادّي من مناعة نفسيّة.. من هنا جاءت الدعوات التربوية الاسلامية بأن لا يعتاد الإنسان عادةً تأسره، وأن يخالف نفسه في بعض ما تطلبه من الحلال حتى لا تطمع في الحرام، لأنّ مَن يقدر على الأولى تسهل عليه الثانية، وأن لا يتساهل مع (الكسل الروحي) أو الشعور بالفتور والانكماش العبادي من غير أن يسعى لإخراج نفسه من حالة النقص في الولع والحماسة أو الإنتعاش الروحي.

وأطباء النفس يشخصون ذلك في أمرين: إمّا أنّ التراخي يعود إلى إعتلال في الصحّة فيجب أن يُداوى ويُعالج، وإمّا أن يكون ناتجاً عن إستنزاف في الطاقة العصبية سواء أكان ذلك بالكآبة، أم القلق، أم الإنشغال بالجروح العاطفية، أم الإحباط، أم الإخفاق والصدمات المتكررة، أو الانغماس في الدنيويات الواطئة، مما يستدعي المعالجة بأسلوب (تبديل المعيشة) و(تغيير النظرة)، والابتعاد – ما أمكن – عن المُسمِّمات النفسية والأخلاقية والسلوكية، إذ حتى الجروح العاطفية يمكن أن تُضمَّد بتعزيز الحيوية الجسمية، واستعادة النشاط الفكري، وفتح العين على جمالات الوجود والطبيعة، وإحياء حسّ أو حاسّة المقارنة، وإيقاظ تداعي المعاني، وارتياد آفاق جديدة في العلم والمعرفة، أي أنّ نفاد البطارية يستدعي إعادة شحنها لا تركها تلفظ أنفاسها حتى تموت!

 

حصيلة الامتناع.. المناعة:

بهذا المعنى يلتقي (الصوم) و(المُمانعة) فيما يحدثانه من نتيجة (التقوى) عند نقطة مشتركة، هي (الوقاية) لتجنيب النفس كلّ المعوقات والملوِّثات الممكنة، الأمر الذي ينفي الإنطباع الخاطئ في أنّ إمكان السيطرة على النفس ضربٌ من العبث، وأنّ ما ترسَّب في الجينات من الصعب إقتلاعه أو إزالته أو تغييره.. فالنفس في نظر هذا الصنف تتشكّل بحسب الشكل الذي رُكِّبت فيه أساساً، والحقيقة التي انتهى إليها العلم مغايرة لذلك، وهي أنّ السيطرة على النفس أمرٌ يمكن تحصيله بالمران والممارسة، وقد حصل فعلاً وواقعاً للكثيرين وفي كل زمان ومكان.

إنّ التوقّي من الميول والنزعات الفاسدة المتطرِّفة (الضارّة) بالذات (المضرّة) بالآخرين عملية اكتسابية تتأتّى نتيجة الممارسة والتمرين الدائمين والمراقبة المستمرة، ومن ثمّ فإنّ الذين لديهم استعدادات خاصّة، لم يستوردوها من كوكب آخر أو يستخرجوها من منجم سحريّ، ولا هم اشتروها بضاعة من السوق، وإنما توفّروا على تأمينها والتحلّي بها من خلال الرغبة في اللياقة، ونشدان الاحترام، وطلب التعاطف الاجتماعي. وما كان ميلُهم إلى الاستقامة وانحيازهم لها إلّا بعد أن تذوَّقوا حلاواتها مثلما تذوَّقوا مرارات الانحراف والزيغ والتطرُّف والابتعاد عن الله.

يقول (علماء النفس) في الطريق لتحصيل ذلك: تبدأ السيطرة على النفس – في معناها الصافي – عندما يتخذ الإنسان قراراً بالإمتناع عن عمل أو بالتزام حالة معيّنة، في وقت لا يكون فيه ما يدعوه أو يغريه غير احتكامه إلى عقله وفكره، وفي اللحظة التي يبدأ فيها سيرته وفق ما يُفكِّر، لا وفق ما يُوحى إليه، أو يُعرض عليه، يحكم نفسه!! ولا يمكن أن يتم ذلك عملياً إلّا عندما يستهدف الإنسان غاية شاملة عامّة يتجه إليها بجهوده، وتنبعث منها تصرُّفاته، وتستقطب حركاته وأعماله.. ومن الناحية الدينية، فإنّ معنى ذلك أن يكون الهدف الأوّل والأكبر هو الله تعالى، لأنّه – بحسب تعبير المفكِّر الشهيد محمد باقر الصدر 2 – الهدف الذي لا تنطفئ عنده الجذوة، بل تبقى مشتعلة، متقدة في كل مراحل السير إليه.. وما إن تقطع إليه شوطاً، حتى تتقد الجذوة من جديد لقطع شوطٍ آخر.. إنّها (الإرادة الواعية) (إرادة التغيير) المتحرِّكة في خط السير الموافق للفطرة باتجاه الكمال، وصولاً إلى الهدف الأعلى.

 

أسئلة المُمانعة:

إنّنا في مجال الصوم والمُمانعة لا نتحدّث عن (معجزات) أو (استحالات)، بل عن (ممكنات)، ولا يمكن أن يكون الممكن عند غيري مستحيلاً عندي إلّا إذا اعتبرته أنا نفسي كذلك، شاكّاً بقدرتي على بلوغ ما بلغه الآخرون.. وعلى ذلك، فالإنسان المُريد (ذو الإرادة) هو الذي يُنفِّذ قرارات انتهى إليها بفكره أو قاده إليها التفكير بما عُرِضَ عليه من أفكار فلقيت صدى في نفسه، وتجاوباً مع مشاعره، وتجلّياً حركياً في الخارج.

والنصيحة العملية هنا: (المحاولة ثمّ المحاولة ثمّ المحاولة).. ولو كنت رياضياً وقارنت بين تسديدك للأهداف في مرمى الخصم بعد محاولات عديدة، ومباريات كثيرة، وإخفاقات ليست قليلة، وبين قدرتكُ على ذلك الآن، لعرفت أنّ (المحاولة) المستمرة هي التي تفتح المغلقات من الدروب وتزيد في رصيد التسديدات والتصويبات الموفقة.

 يتفرّع عن ذلك، الرغبة الدائمة بتحسين الذات والانتقال بها من الحالة (أ) الإبتدائية، إلى الحالة (ب) المتوسطة، نزوعاً وطموحاً إلى المستوى (ج) المنزلة الأعلى. ونقصد بتحسين الذات (الكفاءة) في الأداء، والجدارة في الموقف، والقدرة على إدارة الأزمات بأقل الخسائر والتداعيات، مما يستدعي الإجابة الصريحة عن ثلاث أسئلة جوهرية:

-        هل أنت مُصمِّمٌ على العمل؟ (توفر شرط النيّة والعزيمة).

-        هل أنت مستعد لبذل الجهد اللازم؟ (التعبير الجدّي عن الإرادة).

-        هل تريد شيئاً واضحاً محدَّداً؟ (مُهدَّفاً بهدف من الإرادة الإيجابية)، (بلوغه بأي ثمن).

الدراسات النفسية الميدانية انتهت إلى أنّ الجهد الواعي يُشكِّل في النفس الناشطة التوّاقة إلى التحسُّن والإصلاح، المتطلِّعة إلى الأُفق الأوسع، لذّةً يتهاوى عندها كلُّ ما في الأرض من متع رخيصة وملذّات قصيرة.

هل الأمر بهذه السهولة والبساطة؟

الجواب: لا، لأنّ هناك عوائق، وإغراءات، ومُعطِّلات خارجية، أو (موانع) تقف في طريق (الإمتناع) و(المُمانعة) و(المناعة)، تعرقل البرنامج أو تؤخِّره، وربما تصرفُ عن القرار، وأسوأها العلاقات الإجتماعية الفارغة أو الهابطة التي تستهلك الطاقة العصبية وتستنزف وحدة القوى وتُبعثرها، ثمّ الإنهماك في الشراهة الشهوانية التي تحرف البوصلة من رغبة الوصول إلى (هدف) سامٍ، إلى التقوقع في شرنقة رغبات جزئية أو ثانوية أو نزوات طارئة تخنق الإبداع، وتُضعف القوى الأعلى في تحقيق ما تصبو إليه. ولذلك تقول التجربة: إنّ المطيع الأعمى الذي لا يُحسن معارضة ما يوحى إليه، أو الردّ على المثل السيِّئ الذي يراه، ينجرُّ إلى الأخطاء، والجُنحَ، والجرائم بمنتهى السهولة.. هو صيدٌ سهل!

إنّ فريضة الصوم الواجب في شهر رمضان، والمستحب في أي من أيام السنة الأخرى، هو ممارسة أو إجابة عملية لطرح أعذار قلقة تُعبِّر عن كسل أكثر من تعبيرها عن عجز من قبيل: لا أقدر، لا أستطيع، الظروف أصعب مما أريد، أو نفي أعذار مخادعة على غرار: لم أشأ، لم أرد، ما جدوى ذلك؟ ما نفعه؟ الذين حصلوا عليه ماذا جنوا؟ وعلى ذلك، فإنّ الإفراط في المآكل (وكل الشهوات) يُسبِّب – بحسب بعض الدراسات النفسية – انحداراً أو خمولاً في منطقة الشعور العُليا من النفس، الأمر الذي يفقد معه المتحكمةُ به بطنهُ كلَّ نشاط ومرونة أو إنتاجية معتبرة، علاوة على أنّ النَهم والشراهة يورثان التسمُّم، فلا نستغرب قلّة إنتاج الشرهين الفكريّ أو رداءته، وضعفهم الروحيّ، مثلما لا نجد غرابة في هياج هؤلاء الجنسيّ لترابط الشهوتين (المعويّة) و(الجنسيّة) عندهم مما يُصعِّب ويُعقِّد قدرتهم على التعفُّف، أو الممانعة، وبهذا تجدهم أضعف الناس مناعة وأكثرهم إدماناً! وتلفت بحوث نفسيّة متخصِّصة إلى أنّ طلب الغريزة الجنسية وإن كان ملحّاً، إلّا أنّ في الإمكان التحكُّم بها، وأنّ الامتناع عن ممارسة الجنس لمدّة طويلة لا يُسبِّب ضرراً على الصحّة لا الجسمية ولا الفكرية، بل بحسب نظريّة تحويل القوى، فإنّ الغريزة غير المفرَّط بها تُقوِّي زخم وفاعلية القوى الأخرى، هي طاقة مدخرة يمكن أن ترفد باقي الطاقات، والعكس صحيح أيضاً، فإنّ استنزافها يُضعف من طاقة القوى الأخرى، كما أنّ تصريفها بالطرق السليمة ينعكس على صحّة الجسم العامّة.

وخلاصة ما رشحت به البحوث الميدانية؛ أنّه لكي يحصل الوَلوع أو الشغف على نتائج إيجابية، لابدّ أن يُصوِّب طاقته نحو الخيرات وتحصيل الصفات والشمائل النبيلة، وإن ما من ترك عادة أو إدماناً على عادة هابطة إلّا ويكافأ صاحبه بحيوية في مجال إيجابيّ.

 

مفاهيم الصوم وقيمهُ في قصص القرآن:

يمكن إستلهام مفاهيم الصوم وقيمه الحيّة في القرآن الكريم، ليس من الآيات المصرِّحة بوجوبه أو اعتباره كفّارة من الكفّارات فقط، وإنما من خلال قصص عدّة ورد فيها الصوم – بمعناه العام – وبصفته عاملاً من عوامل المُمانعة وتقوية المناعة، وكونه ركيزة من ركائز الوقاية والتقوى، وباباً للإنعتاق والتحرُّر.

أوّلاً- الامتناع عن الشجرة المحرَّمة:

قال تعالى في تجربة أبوينا آدم (ع) وحواء (ع) في الجنّة (البستان): ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة/ 35).

هذه أوّل تجربة صوم يمرُّ بها الإنسان.. كلُّ البستان مُتاحٌ ومُباحٌ ما عدا شجرةً واحدة ممنوعة.. المنعُ عن الأكل من شجرة (صوم)، (إمساك) و(امتناع) وفي الإثناء (مُمانعة)، ذلك أنّ الكثير الصالح للتناول في البستان يغني عن هذا القليل.. كلّ الأشجار تحت التصرُّف ما خلا واحدة (محرَّمة).

درس الصوم في هذه القصة يمكن استيحاؤه من:

1- عدم الاقتراب من الشجرة المحرَّمة، لأنّ الاقتراب أو الدنوّ منها قد يُغري بالأكل منها، ولذلك جاء النهي عن المحرَّمات على لسان الحديث: "المحرَّمات حمى الله، فمن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه"[2].

إنّنا – مع الفارق بالقياس – كالغنم الذي نفشت في الزرع – في قصة الإحتكام إلى يعقوب وسليمان 8 – ربّما كانت تأكل من البعيد، ثمّ دنت شيئاً فشيئاً إلى القريب، ثمّ اقتربت أكثر فأكثر إلى الأقرب، ثمّ دخلت في (المحرّم الممنوع)!!

تلك هي قصّتنا مع أي مُحرَّم من المحرَّمات سواء أكان (زنا) أو (معاقرة خمر) أو (إدمان على القمار) أو المخدّرات، أو استطابة سرقة مال الغير.. ولسبب واضح كان النهي عن عدم الجلوس على موائد الخمر حتى وإن لم يشارك الشاربين سُكرَهم، لأنّ (الاقتراب) يوقع في (الممنوع) وقس ذلك على مجالس الغيبة، والمحافل المختلطة التي تُستَثارُ فيها الغرائز، والصحبة السيِّئة التي تجرّ صاحبها إلى (الدخان)، ثمّ إلى (النار)، ثمّ إلى (الحريق).

2- (الاقتراب) ظلم! فما بالك بـ(الوقوع) و(الولوغ) و(التورُّط) و(الانغماس) و(الخوض مع الخائضين)؟! وبذلك تكون المعادلة: مقدّمةُ الحرام تقودُ إلى الحرام؛ لأنّها الأرض الزلقة التي لا تستقر عليها قدم.. ومن تطبيقات ذلك الدخول غير المتحرِّج على المواقع الإباحية أو الإجرامية.. فما أن تقترب من واحدة حتى تحرّك إلى الأخرى، وهذه على غيرها، ثمّ لا تجد نفسك بعد حين إلّا وأنت (أعمى) يُقادُ بك من (مبغى) إلى (مبغى)، ومن (بيت دعارة) إلى (بيت دعارة)، ومن مُنحدر خطر إلى منحدر أكثر خطورة! تأكل من الزرع الممنوع والشجرة المحرَّمة وأنت في غفلة للمخاطر والعقوبات المترتِّبة على المناطق المحظورة!

 

ثانياً- الامتناع عن الشرب من النهر (تجربة طالوت مع جنوده):

قال عزَّوجلَّ عن تجربة (طالوت) مع جنوده: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة/ 24(ص)).

وهذه تجربة صوميّة أخرى[3]، هي قصّة الإختبار بالبسيط، في محاولة لاكتشاف الإستعداد للصبر على الصعب.. يخرج (طالوت) ببني إسرائيل لمقاتلة عدوّهم (جالوت)، فيمرّون في الطريق إلى العدو بنهر، والجنود في مسيرتهم للقاء العدو بحاجة إلى التزوُّد بالماء والتغلُّب على العطش الذي يُضعف ويُنهك قوى المقاتلين.. أوحى الله تعالى لطالوت أن يسمح لهم باغتراف غرفة واحدة يتقوّى بها كلُّ جنديّ على عطشه ويصبر على تحمُّل العطش؛ لأنّ من مُتطلِّبات الميدان الصبر على ما هو أشدُّ مضاضة من العطش.

وضع (طالوت) حدّاً فاصلاً بين حقيقة المنتمين لمعسكره من الملتحقين به على سبيل النزهة أو الحصول على الغنائم، بأن اعتبر (الصوم) عن الماء هو المائز بين مَن هو (منه) أي من سنخ رسالته، وبين مَن هو (ليس منه) المندسّ في صفوف معسكره.

التجربة أثبتت أنّ الأكثرية لم تكن مستعدّة لتحمُّل تبعات الحرب ومسؤوليات المواجهة، بدليل أنّهم خالفوا أمر القيادة وشربوا أكثر من غُرفَة، وأنّ الأقلية التي لم تشرب أو شربت غرفة واحدة هي المستعدة للمنازلة والصبر والصمود والمقاومة.

التجربة أثبتت أيضاً أنّ الذين لم يتحمّلوا العطش، نكصوا وتراجعوا بعد اجتياز النهر وأعربوا عن ضعفهم وانهيارهم وعجزهم عن مقاتلة عدو شرس وجيش جرّار، وأعلنوها صراحة: ﴿لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾.. فمَن لم يَصُمْ عن شُربة ماء في الحرّ، كيف يستطيع أن يتحمّل حرّ السيوف إذا احتدمت المعركة؟! وذلك هو معنى (الصبر) وقيمته في الحياة.

التجربة أثبتت كذلك أنّ الذين آمنوا مع (طالوت) الصابرين على مشقّة الطريق وتحمُّل العطش (الصائمين عن الماء)، أقدر على الصبر ومواجهة العدو مهما كانت شراسته وقوّته وعتاده، ومن ثمَّ فهم أهلٌ للإنتصار عليه حتى ولو كانت فئته كثيرة وفئتهم قليلة، لأنّ الله مع (الصابرين) (الصائمين) (المطيعين) الذين اختبرهم في (الميدان الأصغر) فنجحوا في اختبار (الميدان الأكبر).. وإذا جاز لنا أن نستعير حديث النبي (ص) في ترحيبه بإحدى السرايا العائدة من الجهاد: "مرحباً بقوم قضوا ما عليهم من الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر"[4]، فإنّ تجربة الصوم (الامتناع عن شرب الماء) كانت بمثابة الجهاد الأكبر، وإنّ مواجهة جالوت وجنوده كانت الجهاد الأصغر، وهذا أحد أهم تجليات الصوم في معطياته الميدانية والحركية.

 

ثالثاً- الامتناع عن الشرب في أيام معيّنة (تجربة ناقة صالح):

قال تعالى في شرط توزيع الماء قسمةً بين قوم صالح وبين ناقة الله حيث خصّص لكلِّ منهم يوماً للشرب: ﴿قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ * فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (الشعراء/ 155-158).

(الناقةُ) هي اقتراحُ ثمود على صالح (ع) ليثبت بها صحّة نبوّته.. دعا الله تعالى أن يخرجها لهم فأخرجها وفصيلها (ابن الناقة الصغير) من جبل.. وعندما تكون المعجزة اقتراحاً بشرياً واستجابة ربّانية، فالواجب أن يحترم المقترحون اقتراحهم؛ خاصة وأنّه جاء على نحوٍ إعجازيّ خارق ومذهل وغير مسبوق.

وكما ابتلى الله تعالى جنود طالوت مختبراً صبرهم وثباتهم بعدم سحب الماء من النهر، ابتلى ثمود قوم صالح بالماء أيضاً. كانت الناقة ضخمة تحتاج إلى أن تستهلك ماء القرية كلّه.. وفي المقابل، فإنّها تدرُّ عليهم لبناً يكفي القرية كلّها.. جرى توزيع الماء على يومين: يوم لأهل القرية يشربون ويرتوون ويلبّون كافّة احتياجاتهم من الماء، ويوم للناقة وفصيلها يشربان من الماء الذي لم يكن محدوداً، وإنما دعت قسمته أو تقسيمه أن يكون الشرب بالتناوب، يوم للناس ويوم لناقة الله، فماذا حصل في (يوم الصوم).. اليوم الذي تشرب فيه الناقة ولا يشرب الناس؟

الناقة احترمت حدود الله فلم تتعدّاها.. هي لا تشرب ولا فصيلها إلّا في اليوم المعيّن المحدَّد المخصوص لها، بينما ضاقت صدور (ثمود) من القسمة بالتساوي: كيف يساويهم الله (العادل) مع ناقة، ناسين أو متناسين أنّها ناقة لم تكن من جنس النوق أو الحيوانات التي تولد من أب وأُمّ، وإنما هي خلقٌ إعجازيٌّ فذٌّ فريد جاء استجابة لما طلبوه.

راحوا يتململون.. وكَثُر (النقّ) والاحتجاج والشكوى والتذمُّر والاعتراض في يوم الصوم المائيّ.. هذا ليس عدلاً!! ثمّ تَطوَّر التململ إلى مشاورات سرّية في كيفية إيجاد حلّ للمشكلة والتخلُّص من المنافس على الماء.. أخيراً، اتفقت كلمةُ ثمود على عقر الناقة (قطع سيقانها) تمهيداً لقتلها، وهكذا كان.

 

دروس الصوم في القصة:

1- تحدّي الممنوع خاصة إذا كان أمراً أو منعاً أو تحريماً إلهياً، هو انتهاك صارخ لقانون إلهيّ، عقوبته العذاب الدنيوي الأليم عدا العقوبات الأخروية الأشدّ إيلاماً وأبقى، ولذلك يجب التفكير مراراً قبل انتهاك أيّة حُرمة إلهيّة: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (البقرة/ 22(ص)).

2- التقسيم العادل هو بحدّ ذاته حلٌّ للمشكلة، وعلى هذا فليس هناك ثمة مشكلة.. هناك (حسد) و(غيرة) وشعورٌ بالظلم وعدم التقسيم بالسويّة، واعتراض ضمني أو صريح على عدل الله وحكمته، وهذه قراءة سطحية مبتورة وناقصة ومشوّهة للغرض من منع الناس من الشرب في اليوم المخصص للناقة، وعدم تقدير لماوراء الحُكم أو الممنوع من مصالح تربوية عُليا.

3- التحذيرات سبقت إلى أن أي اعتداء على ناقة الله فكأنما هو اعتداء على السماء، ولذلك لم تأتِ العقوبة مفاجأة أو غير متحسَّب لها، لأنّ النبي صالح (ع) قالها عن السماء واضحةً صريحة: ﴿وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾. وعليه، فإنّ تجاهل الإنذار وضربه عرض الجدار يجرُّ على مخالف القانون المخاطر والأضرار، ويكون مستحقاً للعقوبة بما جنت يداه.. هل يجوز – مثلاً – أن يكسر أحدهم قانون (منع التجوُّل) الساري المفعول، والذي اتخذته سلطات بلدٍ ما حفاظاً على أمن المواطنين، من غير أن ينال العقوبة التي يستحق؟ لاسيما وأنّ الحكومة أعلنت وحدَّدت ساعات حظر التجوال، وهدَّدت المخالفين والمنتهكين لقرارها بأقسى العقوبات؟!

4- لم يكن اليوم المخصَّص للناقة لتشرب من الماء يوم عطش بالنسبة لثمود، خاصة وأنّهم أخذوا لهذا اليوم أهبته واكتفوا من الماء على قدر حاجاتهم إليه، فما الذي دفعهم إلى تصفية الناقة تصفية جسدية؟ إنّه أمرٌ خارج عن الشعور بأزمة مائية!

هو الشعور الإنفعالي بالمزاحمة والمنافسة الذي يدعو في حالة استفحاله إلى الإنتقام والتخلُّص من (الغريم) أو ما يُتصوَّر أنّه (خصم) على طريقة إخوة يوسف: ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ...﴾ (يوسف/ (ص)).

(قابيل) قتل (هابيل) لهذا السبب، وإخوة يوسف (ع) ألقوا يوسف في البئر للسبب نفسه، والموظف الخامل الذي يُدبِّر المكائد ليوقع بالموظف النزيه النشيط المقدَّر من قبل مديره ودائرته، يتحرّك بالدوافع نفسها، والمرأة التي تحيك لضرّتها الدسائس حتى تسقطها من عين زوجها، تفعل ذلك شعوراً منها أنّ منافستها تحتل مكانها، وهؤلاء الذين يتصرّفون بهذه الطريقة بحسب توصيف القرآن ليسوا بمؤمنين حقيقة الإيمان ﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾، لأنّ التأمُّل في كل تلك الوقائع والنماذج – وغيرها كثير – ينتهي إلى أنّ الشعور بالمنافسة غالباً ما يكون أو يصدر عن نفس ضيقة ترى العالم مكاناً ضيقاً لا يتسع لإثنين! إنّهم كلاعب كرة القدم الضعيف المهزوز المهزوم الذي يعرقل اندفاعة اللاعب الخصم الماهر ليسقطه أرضاً أو يخرجه من الملعب بسبب إصابته، متوهّماً أنّه بذلك يجلب الفوز لفريقه!!

 

رابعاً- الامتناع عن الصبر (قصة أصحاب السبت):

يقول جلَّ وعلا: ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ (الأعراف/ 163-166).

قريةٌ لصيد الأسماك تقع على مشارف بحر.. سُكّانها من بني إسرائيل.. والسبت عند اليهود – كما هو الجمعة عند المسلمين والأحد عند المسيحيين – يوم مقدّس، أو له مكانة زمنية ومعنوية خاصّة يتعبّد فيه أهل كل ديانة بدينهم، يكون يوم عطلة عن مزاولة الأعمال.

أراد الله تعالى أن يختبر هؤلاء الصيادين بصدق طاعتهم له، والله تعالى يختبر جميع الناس وفي كل مكان وزمان: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا﴾ (الملك/ 2).

أمرهم أن يمتنعوا عن صيد الأسماك في يوم السبت.. أن (يصوموا عن الصيد في يوم واحد فقط من الأسبوع).. ومَن يستشعر منهم رقابة الله تعالى عليه ينتهي ويمتنع ويلتزم، ومَن لا يشعر بها أو لا يقيم لها وزناً، فإنّه يتحايل على القانون بألفِ حيلةٍ وحيلةٍ لكسره واختراقه وانتهاكه، فماذا حصل في يوم الصوم؟

1- الأسماك في البحر لا تغادره، لكنها عندما تشعر أنّ الأجواء المحيطة آمنة تسبح قريبة من سطح الماء بحرِّيّة، على عكس ما لو كانت القوارب التي تمخر الماء، والشباك التي تلقى فيه، تقلقلها فتدفعها للهرب بسبب الاضطرابات المائية الكثيرة.. فكان طبيعياً أن تشعر الأسماك في يوم السبت بحرِّيّة أكبر عندما لا يضايقها الصيادون بمطارداتهم لاصطيادها، فتبدو – إذ ذاك – كثيرة، كثيفة، مغرية بالصيد.

2- صيّادو بني إسرائيل كانوا كلّما مرّوا بالبحر يوم السبت ورأوا تكاثف الأسماك سال لعابهم للصيد الثمين، ولم يستطيعوا منع أنفسهم من التربُّص بها لاصطيادها ولو في يوم الأحد.. فماذا صنعوا؟ كانوا يلقون شباكهم في البحر السبت ويسحبونها الأحد بحجّة أنّهم لم يخالفوا القانون، لأنّ الصيد ممنوعٌ يوم السبت تحديداً لا الأحد.. بهذه الحيلة تصوّروا أنّهم يخدعون الله! ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ (الأنفال/ 30).

3- انقسم صيّادو القرية أو أهلها إلى ثلاثة أصناف: الأغلبية وهم الذين تلاعبوا بيوم الصوم والتحريم بما احتالوا من طُرق وأساليب للصيد التي تبدو في الظاهر أنّها غير مخالفة للقانون أو متحدية للمنوع، إنّهم (الفئة الممارسة للمُنكر) المتعدّية على حدود الله تعالى. وصنف كان يمرّ بهم دون أن يصطاد، ولكن أيضاً دون أن يمنع الذين يصطادون من الصيد المحرَّم إنّهم (الفئة الساكتة)، أو ما يُصطلح عليهم بـ(الحياديين السلبيين). وصنف ثالث وهم القلّة، كانوا ينهون الصيادين عن مخالفة حكم الله وانتهاك حرمة السبت بالصيد الممنوع.. وبحسب تصنيف الناس إزاء الصوم عن الصيد، فنحن أمام:

أ) جماعة تصوم صوماً حقيقياً بامتناعها الكلّي التام عن مخالفة أمر الله: (لا تصطاد) و(لا تحتال على القانون) ولا تسكت عن المخالفين.

ب) جماعة (تفطر) جهاراً بمخالفة القانون والتحايل عليه بشرّ الذرائع والأساليب (ومن بينهم ربما جماعة تعصي الله اليوم وتتوب غداً).

ت) جماعة (تصومُ) في الظاهر بالامتناع عن الصيد، و(تفطر) في الباطن بسكوتها عن المفطرين المتجاهرين بأفكارهم! إنّهم الفئة المتخاذلة التي تنصر الباطل بسكوتها عنه.

4- المجتمع الإنساني – في أي مكان وزمان – شبيه بقرية الصيد الإسرائيلية أو اليهودية، مصنَّف إلى هذه الأصناف الثلاثة لا يتعدّاها، فالذي يختلس أموال الدولة، ويسرق المال العام، ويرتشي، ويتلاعب بالقانون كأنّه قطعة مطّاط، أو عجينة يُشكِّلها كما يشتهي، فيكون مع القانون إذا جرَّ له منفعة، ويخالفه إذا سبَّب له ضرراً أو نقصاً في المكاسب والأرباح، والذي يعقد الصفقات المشبوهة من تحت الطاولة، والذي يبحث عمّا يُسمِّيه بـ(الحيل الشرعية)، هؤلاء كصيادي بني إسرائيل.. أولئك يخالفون القانون ويتلاعبون به في صيد الأسماك، وهؤلاء يتحايلون عليه بصيد الأموال.. أولئك ينتهكون الحكم يوم السبت، وهؤلاء في كلّ أيام الدوام الرسميّ! أولئك يخادعون الله وهؤلاء يخدعون الدولة.

 

خامساً- الامتناع عن التطفيف في الميزان (نموذج أهل مَديَن):

قال عزَّوجلَّ: ﴿كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ * وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ﴾ (الشعراء/ 1(ع)6-184).

أهلُ مَدين تجّار يبيعون ويشترون ولا يراعون شريعة أو قانوناً.. كانت مشكلتهم قبل أن يبعث الله لهم شعيباً (ع) نبياً، إنّهم يتلاعبون بالموازين، يُنقصونها من أجل أن تزداد أرباحهم.. هم في وجه من الوجوه صياديّ بني إسرائيل في القرية حاضرة البحر، يتحايلون أو يتفنّون في بخس الناس أشيائهم، كأن يعيبوا البضاعة حتى ينقص سعرها فيشتروها بثمن بخس ويبيعوها بثمن فاحش، أو يجعلون كفة الميزان التي فيها البضاعة ترجح ليخدعوا المشتري إنّهم أوفوه حقّه، أو أنهم يخلطون الرديء من البضاعة مع الجيِّد ليوهموا المشتري أنّ البضاعة جيدة كلَّها، وهكذا من أفانين الخداع والتلاعب السوقيّ المعروف حتى اليوم، والذي ازداد بخساً بأساليب أخبث وأقذر، وأكثر دناءة وخسّة، فقد تستورد دولة أطناناً من القمح الذي يُسبِّب التسمُّم، أو أسلحة فاسدة تدفع أموالاً طائلة لشرائها، أو تبتاع أدوية نافذة الصلاحية بأسعار تنافسية ليموت آلافُ الناس بتعاطيها، أو يأخذ المقاول عمولة كبيرة لبناء عمارة ويستخدم في بنائها أرخص المواد الإنشائية، ثمّ ما تلبث بعد حين أن تنهار بساكنيها.. أو ينقل بقارب أو عبّارة غير مستوفية لشروط النقل البحري عشرات المهاجرين ليموتوا غرقاً.. وهكذا كان صومُ (أهل مَدين): أن يمتنعوا عن إنقاص المكاييل والموازين، وأن يوفوا الناس حقوقهم كاملة غير منقوصة، سواء أكان ذلك في تصريف البضائع والسلع، أم في الخدمات والمعاملات الأخرى.

نقل شعيب (ع) أوامر السماء بدقّة لأهل مدين، وطالبهم بأسلوب حسن بالأخذ والالتزام بها وحذّرهم نتائج مخالفتها، وعيّن شرطة ومراقبين لمراقبة أعمال وتعاملات السوق.. ولمّا ضاق هامش الربح لأنّ المعاملات كانت تسير وفق الأصول القانونية المرعيّة، ضجّ الذين كانوا يثرون بالأمس ثراءً فاحشاً على حساب الفقراء والمساكين والمحتاجين والمُتحايَل عليهم، ولم يتحمّلوا (صوم الميزان العدل) فقرروا كسره باتهام شعيب (ع) أنّه (ساحر) وليس مبعوثاً سماوياً، وأنّه كاذبٌ بما جاء به، وتحدّوه بأن يُنزل ربّه عليهم العذاب إنْ كان جاءهم بما جاءهم به عن السماء، وهكذا كان عذاب يوم الظُلّة جزاءً وفاقاً لتحايلهم.

ذلك أنّ حكمة الله شاءت أن تكون العقوبةُ من سنخ وجنس العمل.. احتال الله عليهم وكاد لهم كيداً.. فرفع درجات الحرارة في القيظ الملتهب إلى أعلى معدلاتها، وأرسل سحابة كبيرة في السماء لتبدوا كمظلة واقية، فلجأ إليها أهل مدين محتمين من وقدة الحر ولهيب الشمس، فسقطت عليهم ناراً وأحرقتهم، مثلما كانوا قد أحالوا الأسواق إلى نيران تحرق أموال الناس بألاعيبهم الدنيئة وطمعهم وجشعهم الذي لا حدود له.

 

سادساً- الامتناع عن ممارسة الفاحشة (الزنا) (قصة يوسف وزليخا):

قال سبحانه وتعالى متحدِّثاً عن علاقة الجنسين بين الإنفلات والتعفُّف: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ (يوسف/ 23-24).

تُلخصِّ قصة يوسف (ع) مع امرأة العزيز (زليخا) قصة العلاقة غير الشرعية بين الجنسين في كلّ وقت وفي كلّ مكان.. إمرأة متزوِّجة (متحصِّنة) تتحرّش جنسياً بشاب لا تربطها به علاقة اقتران شرعي من زواج دائم أو غيره.. هي متزوِّجة وهو أعزب.. هي على ذمّة رجل حيّ لم يُطلِّقها ولم ينفصل عنها، وهو شاب ضيف عندها تتصوّر أنّه يتحرّك بأذن منها وفي خدمتها.

الصوم في القصة هو (صوم العفّة والتعفُّف).. زليخا تغري يوسف بالمعصية واقتراف جريمة الزنا، لكنه بما تربّى عليه من قيم وأخلاق ومخافة الله، لم يستجب لرغبتها، وإن كانت نفسه بصفته شاباً ربما هَفَتْ أو مالت إليها، لكنه (امتنع) بعد (ممانعة) شديدة مع نفس شابّة تتوق إلى الجنس الآخر، لكنها تتعالى عن ممارسة الفحشاء واقتناص اللذّة من حرام، قال: ﴿مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾.. وسواء أكان (ربّي) في الآية يعني (المربِّي) وهو العزيز زوج زليخا الذي أكرم وفادته وإقامته عنده، حيث لا يصحُّ مقابلة إحسانه بالإساءة إليه من خلال الإعتداء على عِرضه، أو كان (الربّ) هو الله تعالى الذي أحسن إليه بإخراجه من البئر وإيوائه إلى بيت هذا الإنسان الكريم المحسن الذي كان يوصي زوجته بالإحسان إليه، فإنّ يوسف (ع) قرَّر أن يصوم عن الفاحشة لأنّه كان – على خلاف زليخا – يعلم أنّ إغلاق الأبواب بإحكام، والخلوة مع امرأة غير حليلة (أجنبية عليه) لا يجوز له معاشرتها معاشرة الأزواج، لا يغلق الباب المفتوح على السماء، فإذا لم يكن هناك غيرهما في القصر فإنّ الله معهما يسمع ويرى.

وهذا هو درس الصوم في القصة والقصص المشابهة لها: (عَرضٌ) مغرٍ ومثير، وامتناع وإباء عن الإستجابة بتحكيم العقل والدين والضمير. وبذلك يمكن أن يتسع صوم يوسف (ع) وتعفُّفه وممانعته لكلّ حالة إغراء سواء أَصَدَرتْ عن (أُنثى) تريد أن توقع شاباً أو رجلاً في شراكها، أو عن (ذكر) يحاول أن يستزلّ قدم أنثى لترتكب الخطيئة معه، ذلك أنّ المواقع يمكن أن تتبدّل فيغري هذا تلك أو هذه ذاك.. وأياً كان المبادر إلى التحرُّش والاستدراج نحو الفاحشة، فإنّ الهروب إلى الله هو الملجأ، يقول تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ (الطلاق/ 2-3).

والمشهد يتكرر في القصة بإختبار ضاغطٍ آخر، وهو دعوة نسوة المدينة إلى ما دعته إليه زليخا فأبى واستعصم وآثر سجناً يحجز حرِّيّته ويقيدها على أن يمضي مع شهوته المحرَّمة في حرِّيّة الإنفلات الجنسي التي تكبله بأكثر من قيد وقيد: ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ (يوسف/ 33).

إنّ معشر العُزّاب (فتيات وفتياناً) (رجالاً ونساءً) معرَّضون لأكثر من اختبار في هذا الصدد، لاسيما بعد أن فتح الفضاء الالكتروني نوافذه مشرعة على الجنسين؛ بما يرفع الرقابة إلّا رقابة العقل والله، وتدبُّر النتائج السلبية للإنجرار والإنحراف مع الخطيئة.. وليس الأمر مقتصراً على العُزّاب فقط، بل على بعض المتزوِّجين ممن لا يخافون معصية الله في خيانة أزواجهنّ وزوجاتهنّ، مما يعني أنّ (صوم التحصين) أو التعفُّف لا يتعلق أو ينحصر بالمحصنات (المتزوِّجات) والمحصنين (المتزوِّجين)، وإنما هو ملاذُ كلا الجنسين كلما ألحّت الغريزة على الإنفلات من عقالها وتجاوز الحدود الشرعية المرسومة لها.

 

سابعاً- الامتناع عن ممارسة (اللواط) أو (المثلية الجنسية) (قوم لوط نموذجاً):

قال جلَّ جلاله: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ * قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ * قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ * رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ﴾ (الشعراء/ 160-16(ص)).

الصوم في قصة لوط (ع) مع قومه قريبة الشبه من قصة يوسف (ع) مع امرأة العزيز.. هما قصتان في المشكلة الجنسية، تارةً بين الجنسين المختلفين ذكراً وأنثى، وتارة بين الجنس الواحد: ذكر مع ذكر، أو أنثى مع أنثى (المثلية الجنسية).. وإذا كان الحل في أزمة الجنس بين جنسين مختلفين بالطرق الشرعية هو (الزواج)، فإنّ الحلّ في مشكلة المثلية هو دراستها من زاويتين، كما في نصّ الآيات:

أ) مراقبة الله والتوقي من مخالفة شريعته في اقتران الجنسين، في مراعاة الطاعة لله والإئتمار بأمره والإنتهاء عن نهيه.

ب) التحسُّب للخسائر والأضرار الناجمة عن زواج الأمثال بـ(اللواط) أو (السحاق).. فعلاوة على عدم تحقُّق اللذّة المرجوة من اجتماع الجنسين المختلفين والأضرار الصحّية التي يُسبِّبها اللواط والسحاق، فإنّ التناسل الذي هو حاجة إنسانية للنمو والإمتداد في السلالة، كما هو حاجة مجتمعية للرفد بالطاقات التي تعمر بها الحياة، سوف يتأثّر على نحو خطير يهدِّد بمساوئ وتبعات لا حصر لها.

إنّ (الصوم عن القُبح) أو (اللذّة المستهجنة) أو (المعاشرة المحرَّمة)، هو كالصوم عن الخبائث والسموم في الأطعمة والأشربة والعلائق، هو امتناع عن التسافل والتردّي والاتضاع، كما هو امتناع عن الحصول على اللذّة بأيّة طريقة مهما كانت دنيئة أو خسيسة أو خبيثة.

 

ثامناً- الامتناع عن النظرات المحرَّمة:

قال تعالى في أمر يشمل كلا الجنسين: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (النُّور/ 30-31).

إنّ (صوم النظر) بالامتناع والكفّ عن النظر إلى ما حَرَّم الله النظر إليه يتضح أثره من (العطف) التالي للأمر بغض البصر ﴿وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾، ذلك لأنّ عدم غضّ البصر والتملّي من النظر داعية إلى عدم حفظ الفرج الذي يستثار من النظر، ولا فرق في ذلك بين امرأة ورجل، وإنما توسَّع النصّ الإلهي في تفريع وسراية الأمر على المرأة أيضاً، لأنّ دواعي الإثارة في جسدها أكثر، فكان من المتعيِّن أن يُطلب إلى النساء والفتيات، إضافة لغض أبصارهنّ، عدم إبداء زينتهنّ، وإخفاء فتحات صدورهنّ وأذرعهنّ وسيقانهنّ، بل إخفاء خلاخيلهنّ لئلّا يفعل ذلك فعل الإثارة في نفس الرجل فيقدم على التحرُّش أو يذهب إلى ما أبعد منه، وكلّ ذلك صوناً للعفّة وحفاظاً على طهارة المشاعر من الاقتراب من المحرَّم مخافة وحذرَ الوقوع في هاويته.

 

تاسعاً- امتناع الحاج المُحرِم عن الصيد وعن الزينة وبعض المناهي:

قال تعالى في حرمة الصيد أثناء الإحرام (لبس ثوبي الإحرام) بالنسبة للحاج: ﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا﴾ (المائدة/ (ص)6).

وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ (المائدة/ (ص)5).

وقال جلَّ جلاله: ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ (البقرة/ 1(ص)(ع)).

أثناء الإحرام للحج (وضع ثوبي الإحرام في أوقات مخصوصة)، إختبر الله الناس (الحجّاج) بإختبارات صومية (امتناعية) تثبياً للإخلاص والطاعة في نفوسهم، ومن ذلك الامتناع عن صيد البرّ – خلال تلك الفترة القصيرة فقط – حيث لا يحلّ فيها مقاربة النساء جنسياً، ولا يجوز فيها عصيان الله والخروج عن طاعته بالخروج عن طريق الحق، كما يلزم الصوم بمعنى (الامتناع) عن اليمين والحلف والقسم بالله صدقاً كان الحلف أم كذباً.. وهذا يقودنا إلى الإشارة إلى الصوم عن (الحِلف) في كلّ أحواله لقوله تعالى: ﴿لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ﴾ (المائدة/ 8(ص))، وإنما نهى الحديث عن الحلف في كلّ فروعه ومشتقاته، لأنّ (اللغو) في الأيمان الذي لا ينطوي على نيّة، يجعل (الحلّاف) يطلق (الأيمان = جمع يمين) يميناً وشمالاً ومن دون توقير لله تعالى، ولذلك اهتمّ المشرِّع الإسلامي في الحج بتربية الحاج (المؤمن) على اجتناب الحلف أو اليمين ليتربّى فيما بعده على عدم الحلف بالله في توافه الأُمور.

 

عاشراً- الامتناع عن الانقياد لأحكام الهوى:

قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ (الجاثية/ 23).

(الهوى) هو ميل النفس إلى الشهوة، محرَّمة أو غير محرَّمة، وإنما سُمِّي الهوى هوى لأنّه يهوي بصاحبه في الهاوية وهي الحفرة البعيدة القعر، ولذلك ورد قوله تعالى: ﴿وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى﴾ (ص/ 26)، يقول الشاعر وهو يستحضر (الهوى) بمعنى الهاوية؛ هاوية العبودية المُذلّة:

أنا عبدُ الحقِّ لا عبدُ الهوى                 لعنَ اللهُ الهوى فيمنْ لَعنْ

وعلى ذلك، يكون (الصوم عن الهوى) هو الامتناع عن مخالفة الحق بعدما يتبيّن أنّه الحق، وعدم الاعتراض على العدل بعد أن يكون العدل قد استتب، وعدم الاجتهاد في مقابل النص، وعدم الإفتاء بغير علم أو إرضاء للسلطان، والرضا بالقضاء حتى ولو كان على حساب المقضي عليه.

يقول تعالى في تصوير هذه الحالة: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا﴾ (الأحزاب/ 36).

هذا في الإطار العام.. وفي التفصيل، يقول تعالى: ﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ (النور/ 48-52).

ودرس الصوم في الأخذ بأحكام الله وشريعته هو أنّها تميّز بين الحق والباطل، والعدل والظلم، والأخذ بها حتى ولو خالفت مزاجه، ذلك أن الصائم عن هواه حتى ولو جلب له الربح واللذّة والمنفعة، هو المؤمن المُحكِّم الله في قضاياه وشؤونه ومعاملاته وعلائقه ومسيرته في الحياة.. هنا يحدِّثنا الله تعالى عن فئة مسلمة لكنها غير مستعدة للقبول بنتائج حكم الشريعة إذا كانت في غير مصلحتها.. أمّا إذا عرفت أنّ النتيجة موافقة لهواها، أقبلت على الشريعة وقبلت بحكمها.. وهذا هو النفاقُ بعينه؛ لأنّ أسئلة الله تدلّ عليه: هل رفضهم لحكم الشرع ناتج عن مرضهم الفكري والروحي؟ أم لديهم شكوك في عدالة الشرع وحكم الله؟ أم يتصوّرون أنّ الله ورسوله يظلمانهم في الحكم؟ وجواب كل تلك الأسئلة: إنّهم ظالمون لأنفسهم بالإبتعاد عن حكم الله، قال تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ (المائدة/ 50).

وفي المقابل، فإنّ المؤمنين – حقّ الإيمان – (الصائمين عن الهوى)، لا ينظرون إلى انسجام نتائج الحكم مع أهوائهم وموافقته لمصالحهم، وإنما يستجيبون للحكم حَقَّق لهم المصلحة أم وقف في الضدّ والعكس منها، لأنّ (الإيمان) (طاعة،) والامتناع عن المخالفة والتعصُّب صوم عن المعصية، وذلك هو (الفلاح) حقّ الفلاح، و(الفوز) حقّ الفوز، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ (الأحزاب/ 36).

 

حادي عشر- الامتناع عن إلصاق التهمة والجناية بالغير:

قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ﴾ (النساء/ 111-113).

هذا صومٌ من أهم ألوان الصوم الاجتماعي – إذا جاز لنا تسميته كذلك – وهو حماية الآخرين من شرور الإنسان وإلقاء تهمته أو ذنبه أو جريمته على عاتق غيره، حيث هناك أُناس لا يكتفون بنفي التهمة عن أنفسهم، بل يرمونها ويقذفون بها غيرهم، ليرتكبوا جريمة مركبة: ارتكابهم للمخالفة أو الجريمة، ونسبتها إلى غيرهم وغيرهم منها برّاء.. وقد حصل مثلُ هذا على عهد رسول الله (ص) ويحصل في وقتنا أيضاً، حيث سرق مسلم درعاً ولمّا عُرف بالسرقة لم يعترف مخافة الإدانة وإنزال العقوبة، وإنما اتّهم يهودياً ظلماً إنّه هو السارق، جاهلاً أنّ المطلوب من النبي (ص) وأتباعه أن يكونوا إلى جانب الحق ولو كان لمصلحة اليهودي ضدّ المسلم.. وكان النبي (ص) يوشك أن يوقع العقوبة باليهودي عندما عثروا على السرقة في منزله (كان المسلم قد فعل ذلك ليورطه)، لولا أن أعلمه الوحي الحقيقة.

إنّ المرجو من المسلم الذي حَسُنَ إسلامه أن (يدافع عن المظلوم) لا أن يكون (ظالماً) لبريء. وكم من دعاوى باطلة تجري اليوم في المحاكم على أُناس لم تتلطّخ أيديهم بجريمة، ولم تتلوّث بجناية، إلّا أنّ المُتَهِم لهم إمّا أن يُريد أن ينقذ نفسه من التهمة فيلقيها على عاتق غيره، وإمّا أنّه يُريد أن ينتقم ويتشفّى من غريم أو خصم أو منافس فيُلفِّق له التهمة، ويرميه بدائه، ويجرجره إلى المحاكم.. وإلى حين تثبت براءته – هذا إذا ثبتت – يكون المسكين قد احترقت أعصابه قبل أن ينكشف المجرم الحقيقي.

 

ثاني عشر- الامتناع عن الكلام الذي لا خيرَ ولا فائدة فيه:

نموذجه في القرآن (صوم زكريا ومريم 8):

قال تعالى في صوم زكريا (ع) عن الكلام بعدما طلب من الله تعالى أن يرزقه الولد: ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ (مريم/ 10-11).

وقال سبحانه في صوم مريم 3 عن الكلام بعدما ولدت عيسى (ع): ﴿فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾ (مريم/ 26).

إنّه الصوم عن (الكلام) حينما يكون (الصمت) أو (الإشارة) أبلغ منه.. في الحديث عن النبي (ص): "مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليَقُل خيراً أو ليصمت"[5].. وفي الحكاية عن زكريا (ع)، فإنّ الصوم عن الكلام لم يكن يعني (الخَرس) أو (العيّ)، وإنما هو عدم مكالمة الناس لحين تحقق أمرٍ ما.. وأمّا في الحكاية عن مريم 3، فإنّ الصوم المنذور هو أيضاً في عدم تكليم الناس حتى يوحي الله تعالى لعيسى (ع) ليُكلِّم الناس وهو في المهد، وبذلك يكون ردّه أو دفاعه الضمنيّ عن شرف وعفّة أُمّه أبلغ من كل الكلمات المُدافِعة التي يمكن أن تخطر على بال مريم 3.

وما نستفيده من هذا النوع من الصوم كبير وكثير، إذ أنّ (اللغو) و(الثرثرة) و(طق الحنك) والشهية المفتوحة على مصراعيها للكلام عبر وسائل الاتصال الاجتماعي ظنّاً من الكُتّاب والمتحدِّثين أنّ لا رقيب على الكلام ولا ضريبة عليه، والله تعالى يقول: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ (ق/ 18).. و(عتيد) حاضر يُسجِّل كلّ صغيرة وكبيرة، وبذلك تكون مسؤولية الكلمة تماماً كمسؤولية العمل يتحمّل الإنسان القائل أو الكاتب نتائجها وتبعاتها كما يتحمّل تبعة وآثار عمله.

وكم على صفحات (النت) من شتائم وسباب واتهامات وقذوفات وإسقاطات وتسقيطات، وكم عليها من غِيَبْ (جمع غيبة)، ونمائم (جمع نميمة)، وهتك للأعراض والحرمات، والتعدّيات والتجاوزات مما يستدعي صوناً للسان، و(صوماً) فعلياً عن الكلام.. ولا كلّ كلام، بل سفاسفه وتفاهاته وغير المجدي الضار منه.. بيد أنّ المشكلة الأعوص في ذلك كلّه أنّ ما من أحد يعترف أنّه يهذر ويهجر ويثرثر، فضلاً عن أن يعرف أنّه مسؤول أمام الله – إنْ لم يكن أمام القانون – عن كلّ ما يقول ويُغرِّد ويكتب ويراسل.

 

ثالث عشر- الامتناع عن ترديد الشائعات:

قال عزَّوجلَّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (النور/ 11-21).

الصوم عن الشائعات فرعٌ من فروع (الصوم الاجتماعي)؛ لأنّ الكلام المُطلق على عواهنه من غير تثبت ولا تحقيق ولا استناد لدليل علمي وعملي، يحاسب الإنسان عليه، فكيف إذا تلقف الكلام عن لسان الآخرين ودار به في المحافل والمجالس من غير أن يسأل إن كان ما قيل حقاً أم باطلاً؟

(قصة الإفك) النموذج القرآني الصارخ لخطورة الشائعة.. يتحدّث عن الصوم عن التلقّي باللسان وافراغه في الأوساط الاجتماعية من دون أن يطرح الناقل أو المتداوِل للحديث الأسئلة الآتية:

1- مَن الذي قال ذلك، ولماذا قاله؟

2- نحن لا نعرف عن المنقول عنه إلّا خيراً، فهل نُكذِّب تاريخنا معه، أم نصدق تهمة ملفقة له، أم نتأكّد بأنفسنا مدى صحّتها؟

3- الشريعة تُعلِّمنا أن نطالب في حالات المسّ أو الطعن بالعفّة بأربعة شهود، هل طالبنا الراوي أو الناقل أو المروِّج للشائعة بذلك؟

4- ألا يستوقف أحد الذين وصلتهم الرواية الراوي أو الناقل ليقول له: كيف يجوز لك أن تتعرّض لسمعة المؤمنين وشرف الخيرين بهذا (البتهان) الفاجر الفظيع؟

5- ألا يقول له متسائلاً: أليس هذا من (حب إشاعة الفاحشة في المؤمنين) الذي توعّدَ الله تعالى عليه بعذاب أليم في الدنيا والآخرة؟

6- أليس هذا من (خطوات الشيطان) الذي يأمر بالفحشاء والمنكر ويريد أن يوقع العداوة والبغضاء بين المؤمنين، ليُفرِّق صفوفهم، ويُمزِّق نسيج وحدتهم؟

7- أخيراً، هل أنا (الراوي أو الناقل أو المروِّج) في منأى ومنجى عن هذا؟ ألا يمكن أن أتعرّض له وأقع فيه؟ لماذا لا أستر ذلك وأكفّ عنه ليستر الله عليَّ؟ أي على فرض صحّة أن يكون ما لم يحصل قد حصل، أما ينبغي أن نُردِّد مع السيِّد المسيح (ع): "مَن كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر"؟!

 

رابع عشر- الامتناع عن التلاعب بالنصوص:

قال تعالى عن بني إسرائيل (وهم نموذج قابل للتكرار في كل حين): ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ﴾ (البقرة/ (ع)5).

ويقول جلَّ جلاله: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ (المائدة/ 3).

ويقول سبحانه: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ (البقرة/ 5(ص)).

إنّ جريمة التلاعب بالنصوص: حذفاً (إنقاصاً)، أو إضافة (زيادة على ما قاله القائل أو كتبه الكاتب)، أو تحريفاً (قلباً للرسالة أو المراد)، أو تركيباً (تقطيع أوصال الكلام وربط أشلائه بما يوحي بالإساءة إلى القائل أو الكاتب)، أو اجتراءً، بحيث يؤخذ بعض الكلام الذي يُفهم منه الإساءة ويترك التالي له، الذي قد يكون ردّاً على ما قبله أو إيضاحاً له على طريقة (لا إله) من غير (إلّا الله)، أو طريقة (لا تقربوا الصلاة) مقطوعة عن (وأنتم سكارى)!

وتتخذ جريمة التلاعب بالنصوص اليوم عبر الشبكة العنكبوتية أو الفضائيات أشكالاً نابية وخارجة عن كلّ خُلق إنساني أو ديني أو مهني، حيث يتم تركيب صور غير حقيقية بطريقة مُسيئة، أو الزعم أنّها لأشخاص يُراد الطعن بهم أو الانتقاص من شأنهم وكرامتهم، أو نقل صور تاريخية واعتبارها معاصرة وما إلى ذلك من سيِّئات الاستخدام غير المتورِّع للتقنية الحديثة.

وقد يقتطع أحدهم أو بعضهم جزءاً من صحيفة أو كتاب ليوهم أنّ النصّ حقيقي وله مصدر، أو قد يُسوِّق مقولة صدرت عن قائلها لكنه تراجع عنها بعد ذلك، بينما يبقى الذين في نفوسهم وقلوبهم مرض يشيعون ويتداولون القديم لما ينطوي عليه من إساءة لقائله.

بهذا، تتأكّد ضرورة (الصوم) أو الامتناع عن تداول نصوص مجتزأة ومبتسرة غير بريئة، أو صور ملتقطة على نحو مُسيء، لأنّه يندرج تحت (حب إشاعة الفاحشة)، وتحت (البهتان)، وتحت (الإفك)، وتحت تَسقُّط عثرات الآخرين لإيقاعهم بها، بل وتحت كل عنوان لا أخلاقي ولا ديني ولا إنساني.

 

خلاصة دروس الصوم من القصص القرآني:

1- الصوم – بما هو امتناع وممانعة – ليس تناول الممنوع فقط، بل عدم الاقتراب منه تحاشياً للوقوع في الممنوع، أي إنّه تجاوز للمقدّمات من أجل اجتناب النتائج السلبية (قصة آدم وحواء والشجرة نموذجاً).

2- (المنع) الإلهي لبعض المباحات ليس تضييقاً للحرِّيّة، وإنما هو حراسة لمتانة الشخصية في معرفة قدرتها على (الصبر) و(تحدّي الضعف) و(عدم الإسترسال مع الشهوة) و(التخلُّص من أسر العادة).. هو إختبار لصلابة المعدن وسلامة الجوهر (طالوت وجنوده والنهر وصالح وثمود والناقة، نموذجاً).

3- التحايل على المنع وعدم الامتناع يُفرغ الصوم من معناه وقيمته وآثاره.. ولما كان المنع تدريباً للطاعة وتقوية للمناعة، فإنّ اختراق الممنوع في نصب الشباك يوم السبت والصيد الأحد لا يختلف كثيراً من حيث المردودات عن الصيد السبت، وكذلك فعل المسلمون في أوائل تشريع الصيام، حيث حرّم عليهم الاقتراب من زوجاتهم في البداية كجزء من شروط الصوم، فكانوا (يختانون أنفسهم) وخيانتهم لأنفسهم أنّهم كانوا يقاربوهنّ على الرغم من حُكم المنع.

4- الصوم – في معناه الواسع – ليس امتناعاً عن طعام (الشجرة) أو شراب (الماء) أو تحصيل الرزق في أوقات معيّنة (الصيد)، بل هو إطار تربوي للامتناع عن كلّ ما يُفسد الشخصية الإنسانية، وعن كلّ ما يُسيء للعلائق الاجتماعية (أهل مَدين وشعيب والتطفيف في الموازين نموذجاً).

5- الغريزة الجنسية وإن كانت أساسية وضاغطة أو ملحّة على إشباعها، إلّا أنّها تحريك ذهني يوقظ الغريزة، والدليل أنّ الإنسان قد لا يصبر عن (الجوع المعويّ) طويلاً، لكنه يمكن أن يصبر على (الجوع الجنسي) لوقت أطول، ولذلك فـ(التعفُّف) ليس صوماً فوق العادة (يوسف وزليخا ولوط وقومه مثالين).

6- شهوة الكلام أشدُّ من شهوة الطعام، بدليل أنّنا يمكن أن نتكلّم من الصباح إلى المساء من غير أن يكلّ لنا لسان، بل نبقى مستعدين للثرثرة حتى صباح اليوم التالي، ولكنها شهوة سهلة (الكفّ) أو (الامتناع) أو (الكبت) ليكون الكلام في حدوده النافعة لا أن تكون أضراره أكبر من منافعه (صوم زكريا ومريم عن الكلام نموذجين).

7- الإستغراق في الميول الذاتية على الرغم من خروجها عن الصواب، وموافقة الهوى حتى وإن خالف الحق، مصيبة كبرى من مصائبنا، وهو أجدر من صوم (البطن) و(الفرج) و(اللسان). (بلعم بن باعورا عالم بني إسرائيل الذي هوى في مهاوي (الهوى) مستجيباً لدنيا فرعون مثلٌ صارخ لمن يركن إلى الدنيا بعد أن كان عالماً مرموقاً له موقعه العلميّ الرصين).

8- الحاجة إلى الامتناع (الصوم) عن التلاعب بالنصوص تحريفاً عن مرادها، بأي شكل من أشكال التحريف والذي يعدّ جريمة أخلاقية قبل أن تكون قانونية، حاجة أكثر من ماسّة في إشاعة جو الثقة وحُسن الظن والتحرِّي والتحقيق وعدم ارتكاب جريمة القتل أو الاغتيال المعنوي لشخصيات نزيهة يتلاعب الإعلام والفَسَقة أو غير المتورعين ممّن جمّدوا ضمائرهم في كلماتهم ونصوصهم للطعن فيهم والإساءة إليهم (تلاعب بني إسرائيل في كلمات الله في التوراة والقرآن نموذجاً).

 

التحوّلات الفكرية والنفسية والعملية للصوم:

في مضمون الحديث: "لا يكنْ يومُ صومِك كيوم فِطْرِكَ"[6] لفتة حركية تغييرية جديرة بالتأمُّل، وكلمة (يوم) قد يُراد بها اليوم الواحد أو الأيام، أي لا تكن أيام صيامك كأيام فطرك في الاستسلام للعادات نفسها، ولأوقات الاسترخاء نفسها، وللتعاملات الروتينية نفسها، وللأخلاق المبرمجة الباردة نفسها.. ليكن يوم صومك وأيامه (انتقالة) عملية، و(منطعفاً) سلوكياً، وتغييراً في البرنامج الرتيب، لتحظى من عطاءات وبركات الصيام بأكثر من الجوع والعطش، أو تحقيق الامتثال لإرادة الله تعالى في الالتزام والوفاء بالفريضة، وإن كان هذا بحد ذاته ليس قليلاً، أو هو علامة فارقة لأيام الصوم عن غيرها، ولذلك قال تعالى كما في الحديث القدسي: "كلّ عمل ابن آدم له إلّا الصوم، فهو لي وأنا أجزي به"[7]، فلماذا كان الصوم له في حين إنّ كل أعمال الإنسان التقريبية أو العبادية المخلصة هي له؟

تتلخص الإجابة في الآتي:

1- الصوم هو العبادة الوحيدة التي تخلو من (الرِّياء) لأنّ الصائم إذا لم يُخبر غيره أنّه صائم، فلا أحد يعرف بصومه إلّا الله، على خلاف كل العبادات الأخرى التي تتمظهر بمظاهر خارجية تكشف عنها أو تشير إليها.

2- الصوم هو العبادة الوحيدة التي لم تُقدَّم للأصنام والأوثان، فقد يُصلّى إليها، وقد يُحجّ إليها، وقد يُنذَر إليها، ويُنفَقُ من أجلها.. أما أن يصوم عبدُ صنمٍ لصنمه فهذا ما لم يحدِّثنا به تاريخ العبادات.. إنّها عبادة خاصة ومختصّة بالله الواحد الأحد.

3- الصوم متعدِّد الأبعاد، فهو ليس صوم (المعدة) فقط، بل صوم (اللسان) عن اللغو، حيث ورد عن الإمام علي (ع): "صوم القلب خير من صيام اللسان، وصيام اللسان خير من صيام البطن"[8]، ويقول (ع): "صيام القلب عن الفكر في الآثام، أفضل من صيام البطن عن الطعام"[9]، وصوم (الفكر) عن الأفكار الشيطانية المدمِّرة للإنسان والبذاءات والإفتراءات والتقوّلات، وصوم (النظر) عمّا لا يحلّ، وصوم (اليد) عن السرقة والعدوان، وصوم (التعامل) عن الغش والخداع والتمويه والإغراء والتغرير والتزييف والتزوير، وصوم (النفس) عن قبائح الأخلاق وسيِّئات التصرُّفات.. هو صوم حياتيّ شامل، وتبعاً لذلك فهو أقدر العبادات على بناء المناعة (التقوى): ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة/ 183).

تقول السيِّدة فاطمة الزهراء 3: "ما يصنع الصائم بصيامه إذا لم يصن لسانه وسمعه وبصره وجوارحه"[10].

4- آثار الصوم (ذاتية) داخلية في تقوية جهاز المناعة النفسي والروحي لدى الصائم، و(موضوعية) خارجية في الإحساس بآلام الجياع والبؤساء والضعفاء والمستضعفين، بل يمتد أثره ليس إلى الدنيا فقط، بل إلى الآخرة أيضاً: "واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع وعطش يوم القيامة"[11]، كما في الخبر عن رسول الله (ص).

5- الصوم أقدر العبادات عن الكفّ أو الإمساك أو الإمتناع عن الشهوات، ليس المحرَّمة فقط، بل تقنين المحلَّلة أيضاً بحيث تؤخَذ بحساب لا بإستغراق واستهلاك واسترسال. وبكلمة، فإنّ الصوم هو معيار من معايير الأخلاق. يقول الإمام علي (ع) في سبب فرض فريضة الصوم: "فرض الله الصيام ابتلاءً لإخلاص الخَلقْ"[12].

بناءً على ذلك، يمكن أن نستجلي تحولات عدّة للصيام وعلى أكثر من صعيد، ومن ذلك:

 

أوّلاً- من استلاب العادة إلى التحكُّم بالذات (تربية الإرادة):

بسبب ارتباطاتنا الدنيوية وتعلُّقاتنا المادية الكثيرة، نقع – في الغالب – ضحايا لأكثر من عادة مستحكمة، يصعب التخلُّص منها إلّا بقرار عازم حاسم صارم: إنّنا نُريد التغيير وعدم الوقوع أسرى في زنزانات العادة.. دعنا نتعرّف على ما يقوله علماء النفس في الموقف من هذه المشكلة، حتى تكون أيام شهر رمضان نقطة الانطلاق نحو التغيير الحقيقي.

يقول صاحب كتاب (سيطر على نفسك): "وسيادة النفس لا تتم إرتجالاً، ولكنها تحصل بتطبيق سلسلة مترابطة منشقة من الإرشادات، والإنسان – أي إنسان – يظلّ – مهما حظي بالتسهيلات المادية والوسائل اللازمة لبنائه العقلي والخُلقي – زئبقاً رجراجاً، إذا عجز عن تشييد القوّة الكبرى داخل نفسه، أي امتلك أمرها وأخضع أفعالها وأحاسيسها وأخيلتها وجميع ملكاتها، لما يريد تحقيقه من مثل عالٍ درسه وانتهى إلى إقراره، ويصبح توازنه، وعمله عرضة لما يسمّونه (الحتميات الداخلية) و(الأقدار) الخارجة عن إرادته، ويتحوّل مهما كانت مواهبه وكفاءاته، إلى ريشة في مهبّ غرائزه وشهواته وتخيلاته العمياء، يتقلب منها في عواصف لا قرار له ولا نهاية"[13].

ويصل في بحثه إلى المحصلة العملية الآتية: "إنّ كلَّ جهد يُبذل لمراقبة النفس من أجل غرض خاص يأتي فوراً بنتيجتين: الأولى أنّه يسهل تكراره، والثانية أنّه يُقوِّي الإرادة الواعية ويخضعها لقابلية التأثُّر بالتفكير المنطقي"[14].

إنّ الإنسان الذي نصفه بأنّه صاحب إرادة هو الذي يتخذ قراراً عقلياً متأنياً ومدروساً، ثمّ يسعى لتنفيذه، وكلّ محاولة تُبذل بصدق لتغيير عادة ما، نجحت أم لم تنجح، تفتح الطريق إلى تقوية المناعة النفسية، وما يدريك فقد تفتح الخطوة الباب إلى خطوة أوسع منها، ولابدّ في ذلك من (الجهد الواعي) إلى خطورة الإستسلام للعادة، وإلى محاسن وفوائد التخلُّص منها، ومكافأة الذات على أي إنجاز يحصل في هذا المجال.

 

ثانياً- من (تطهير الجسم) إلى (تطهير الأخلاق):

يعمل الصوم على (فلترة) الجسم وتنقيته من سمومه، وهذا معنى واحد من عدّة معانٍ لقوله (ص): "صوموا تصحّوا"[15]، أي أنّ الصوم يُذيب أو يُزيل الكثير من تراكمات أو سخام السنة في (مدخنة الجسم)! إنّه يجري عملية (كنس) و(تنظيف) و(تجريف) للأثقال التي تقعد بالجسم عن نشاطه وحيويته وفاعليته وحركيته، وهذا طبعاً بالنسبة لمن لا يقوم بعملية تعويض سلبي بإجترار أو إلتهام الأطعمة عند الفطور والسحور أكثر مما كان يتناوله في الأيام العادية.

غير أنّ التحوُّل الأهم في عملية الصوم ليس لـ(الرجيم) أو (إنقاص الوزن) أو إزالة السمنة وترشيق الجسد، وإنما لما يستتبع ذلك أو يرافقه من الدخول في (مَطهَرة) أو (حمّام) يزيل عوالق النفس من (التلوُّثات) الأخلاقية التي رسبت في قاع النفس من غير اهتمام في رفعها عن طريق الملكات المحمودة الخيِّرة والخصال الحسنة.. وعلى فرض قلّة المزاحم من الطفيليات، فإنّ (إدخال تحسينات) على النفس ببُعدها الأخلاقي هو مما يزيد في حالة (الصيانة) و(التنمية) والاتساع في الولع بالقيم، والتمسُّك بمكارم الأخلاق.

 

ثالثاً- من (الشُحّ) إلى (الكرم) و(التطوُّع):

(الشُحّ) و(البُخل) و(منع) إفاضة الخير على الغير طبع إنساني سجّله القرآن في صريح آياته، يقول تعالى: ﴿إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلا الْمُصَلِّينَ﴾ (المعارج/ 1(ص)-22)، وقال جلَّ وعلا: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الحشر/ (ص)).

ولو تصفّحت كتاب الصوم لرأيت أنّ جانباً كبيراً منه يتحدّث عن (الغيرية) في شهر الصيام، حيث يفترض أن تتسع دائرة الذات من خلال أكثر من ممارسة سواء أكان ذلك بإفطار الصائمين خاصة الفقراء، أم بالتوسعة على العيال، أم بقضاء حوائج المحتاجين، أم بالإنفاق في سبيل الله في مختلف أشكاله وسبله، أم في (زكاة الفِطرة) التي تُصرَف على المحتاجين في المحلّة أو المنطقة أو المدينة التي يسكنها الصائم، أم بالعيديات (الهدايا) التي يفرح بها الكبار كما يفرح بها الصغار.. كلّ هذا الاهتمام من أجل إخراج الذات من قوقعتها وشرنقتها إلى فضاء إنساني أرحب، لتكون تلك بداية الإتساع من (العطاء) إلى (الكرم) إلى (البذل) إلى (التطوُّع) لا المالي فحسب، بل إلى كل ما فيه خدمة للإنسان أو مصلحة للمجتمع (التكافل الاجتماعيّ)!

 

رابعاً- من (العمل) إلى (الإخلاص في العمل):

نحن نعمل العمل الصالح ونبقى وجلين خائفين من أنّ أعمالنا التي ربّما لا تكون خالصة مخلصة لله، وإنّ بعضها قد يشوبه (المنّ) أو (الرِّياء) أو إرادة غير الله، أو الحضوة بمكسب دنيويّ، فيأتي الصوم – كونه عبادة مُضمَرة أو مستترة – ليُعلِّمنا الإخلاص في العمل، وكيف نجتهد في تنمية أعمالنا لتكون خالصة لوجه الله وطلباً لمرضاته. وقد سبقت الإشارة إلى علّة فرض الصيام وسببه، كما أوضح الإمام علي (ع) ذلك بأنّه "إبتلاء لإخلاص الخلق" أي إختبار لمدى صدقهم في العلاقة مع الله والطاعة لأوامره والامتثال أو الاستجابة لما يُريد.

الصوم كتجربة في الإخلاص يمكن أن يتسع لإخلاصات أخرى كثيرة، بمعنى أن يكون كلّ عمل نتقرّب به إلى الله منطوياً أو متوفراً على شرط السلامة من (حب التظاهر) و(الافتخار) والارتفاع في أعين الناس، أو تصيُّد الدنيويّ بعملٍ أخرويّ!!

 

خامساً- من (الروتين) والرتابة إلى (الإبداع) والتجديد:

أن يكون الصوم شهراً في السنة، فهذا يعني فيما يعنيه، كسراً لحالة الرتابة والروتين والتقليد والتناسخ والاستنساخ.. هو اقتحام لهذه البركة الراكدة أو الساكنة بإلقاء حجر فيها لتحريك مياهها، أو فتح نوافذ بيت مغلق على هواء صحّي، فإذا بالبرامج المعتادة والمألوفة تتغير، وقد تنقلب رأساً على عقب، فيصبح (الفطور) الذي هو في أوّل النهار آخره، وتسقط وجبة أساسية (الغداء) من قائمة الوجبات الثلاث، وتتعطل – أثناء الصوم – عادات أو حرِّيّات الطعام والشراب والجنس، بل يتخذ المظهر العام للشخصية سمات وقورة ومهذّبة غير التي دأب عليها قبل شهر الصيام.

هذا هو الإمام الصادق (ع) يرسم لنا صورة التغيير التي يفترض أن تحصل في هذا (الموسم): "إذا أصبحت صائماً فليصم سمعُك وبصرك من الحرام، وجارحتك (العضو العامل من أعضاء الجسد، كاليد والرجل، أي ما يُجتَرح ويُكتَسب به العمل) وجميع أعضائك من القبيح. دعْ عنك الهذي (الثرثرة والكلام الفارغ)، وأذى الخادم، وليكن عليك وقارُ الصيام، والزم ما استطعت من الصمت والسكوت إلّا عن ذكر الله، ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك، وإياك والمباشرة (مقاربة النساء) والقُبَل، والقهقهة بالضحك (الصوت العالي مما يوصف بالقول انفجر ضاحكاً)، فإنّ الله مقت ذلك"[16].

 

سادساً- من (الإسترخاء) إلى (النشاط والحركة):

يَشيع مفهوم خاطئ في أوساط بعض الصائمين أنّ الصوم موسم التراخي والكسل وتقليص الإنتاج، وتقليل ساعات العمل، وإرجاء بعض أعمال النهار إلى الليل، أو تأخير بعضها إلى ما بعد الشهر الكريم.

إنّنا نعلم جيِّداً أنّ بعض البلدان تعيش – في أجواء الصوم – طقساً حارّاً يدفع بطبيعته إلى الإسترخاء، فكيف إذا أضيف إليه الضعف عن الجوع والعطش، لكننا نتحدّث في الإطار العام – من دون إغفال الإستثناءات – أنّ ما ينساه بعض الصائمين أنّ الإمتلاء من الطعام سبب من أسباب التراخي والاسترخاء والكسل والتقاعس، وأن تُخفِّف المعدة من الطعام يزيد في استنارة الفكر وصفاء الجوارح، وتفتح المشاعر لاستقبال إشعاعات الروح.. وإذا كان الصوم يقعدنا عن مزاولة أعمال فيها إجهاد للجسد، فإنّه لن يقعدنا عن أعمال فيها إنتاج للفكر أو إنعاش للروح أو تغذية للعقل والنفس، أو برامج فيها تواصل اجتماعي وتكافل، ونشاطات إجتماعية أو بنائية أخرى.

على الصائم أن يتذكّر أنّ تقييد حرِّيّة بعض السجناء لم تمنعه من أن يؤلِّف كتاباً أو كُتباً في السجن، أو أن يتدارك ما فاته من فرائض في أيام الحرِّيّة، أو أن يصلح ما فسد في أجواء الراحة والاسترخاء، وأن يتواصل اجتماعياً مع رفاقه في السجن.. فإذا قيّد الصوم حركتنا في بعض مفاصل حياتنا، فإنّه يمكن أن ينعش فينا النشاط في مجالات أخرى.

 

سابعاً- من (التحلُّل) إلى (العفّة أو التعفُّف):

القول بأنّ الصوم عن الطعام والشراب يجب أن يوازيه صوم (السمع) و(البصر) عن الحرام، هو دعوة للصوم الشامل، كما هو دعوة إلى (التخلّي) عن حالات التحلُّل من الضوابط إلى (التحلّي) بمكارم الأخلاق، ومن أهمّها؛ كيف يكون إنسانُ الصوم عفيفاً متعفِّفاً يترفع على استطالات سمعه وبصره ولسانه.

إنّ ما يقال من أنّ درس الصوم في الامتناع عن بعض (الحلال) وبعض (المباحات) هو تمرين لتقوية (الّلا) الرافضة في حياتنا، حتى لا نقول لكل ما يعرضُ علينا (نعم) سواء أكان العرضُ شخصياً صادراً عن شخص، أو معنوياً صادراً عن منظر في شارع، أو مشهد في تلفاز، أو موقع في (النت)، أو تصرُّف جماعيّ استقطابي، ذلك أنّ (العفّة) ليست هي حفظ (الفرج) فقط، بل هي كل تعالٍ وترفُّعٍ وتسامٍ عن (الدونيات) المخلّة بوقار الشخصية وتوازنها واعتدالها وعقلانيتها.. ومن المهم معرفة أن أي تعفُّف في أي جانب يقود إلى تعفُّفات أخرى متلاحقة في جوانب أخرى، أي إنّ خصال الخير يجتذب بعضها بعضاً.

علماء النفس والتربية البشرية والتنمية الانسانية يعلموننا كيف نضع أسئلة في تطوير الذات، من قبيل: إلى أي مدى أتحكّم في غرائزي؟ وإلى أي مدى أسترسل مع الثأر والطيش والإفراط والجمود؟ ما مدى سلطاني على انفعالاتي وحسّاسيتي؟ كيف أنأى بنفسي عمّا يُسيء إليها، أو يضيِّقها، أو يفسد مواهبها؟ والإجابات عندنا لا عندهم!

 

ثامناً- من (العلاقات السائبة) إلى (العلاقات الهادفة):

من العلائق التي يجب أن يُصام عنها، تلك التي تُضعف الإيمان وتُقلِّل درجة الحماسة الروحية، وتوهن المدارك العقلية وتشوِّه السمعة الاجتماعية، أي تلك التي (تضر) و(لا تنفع) أو تضرّ أكثر مما تنفع، لما للصحبة والصداقة والرفقة من تأثير قوي على الشخص والشخصية، ولأمر مّا قال النبي (ص): "المرءُ على دين خليله فلينظر أحدكم ممن يخالل"[17]، ولأمر مّا قال الإمام علي (ع): "سلْ عن الرفيق قبل الطريق"[18]، ولأمر مّا قال القرآن قبلهما مفرقاً بين صحبتين: صالحة وفاسدة: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنْسَانِ خَذُولا﴾ (الفرقان/ 2(ع)-2(ص)).

شهر رمضان محطّة (إفراغ) للزيت المُستهلك المائل إلى السواد إلى (تزوُّد) بزيت أصفى لمواصلة السير، هو فرصة كبرى للمراجعة على صعيد العلاقات الإنسانية لإسقاط الفاسد المؤذي والمسيء منها، والحفاظ على الجيِّد الإيجابي وتطويره، بل واكتساب علائق صالحة أخرى، لسبب غاية في الأهمية: لأنّ "مَن اتخذ أخاً في الله فقد اتخذ بيتاً في الجنّة"[19]، كما في الحديث.

 

تاسعاً- من (قراءة القرآن) إلى (التدبُّر) فيه:

قال تعالى: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ (محمد/ 24).

يُشاع في أوساط الصائمين وغير الصائمين أنّ (شهر رمضان ربيع القرآن) وهو كذلك، وإنّ قراءة آية فيه تعدل ختمة قرآنٍ في غيره، كما في الأثر، لكن الاقتصار على قراءة القرآن وختمه في شهر، وهجرانه في أحد عشر شهراً هو من بعض (الجفاء) في التعامل مع كتاب الله، فضلاً عن أنّ المندوب أو المطلوب ليست القراءة المجردة، وإنما (التأمُّل) و(التدبُّر) و(استجلاء المعاني) و(المقارنة بين الواقع وبين ما يدعو القرآن إليه) واستنطاقه في حلّ ما يعترينا ويعترضنا من مشكلات وأمراض، ولا نغالي إذا ما قلنا أنّ (تدبُّر) آية أو آيات ننتفع بها في حياتنا خير من ختم سورة كاملة أو ختمة قرآن من غير أن يترك ذلك أثره أو بصماته في حركتنا في الحياة.

إنّ آيات القرآن خزائن – أشبه بنوافذ الشبكة العنكبوتية كمثل تقريبي – وإلّا فآيات القرآن أغنى وأكثر بركة ونفعاً، فكلما فتحنا خزانة وجدنا داخلها خزانة، مما يعني عدم التوقف عند سطوح الآيات، بل التفكُّر فيها خاصة فيما يتعلق بـ(السنن التاريخية) التي حكمت الأمم الماضية مثلما تحكمنا نحن أيضاً، والوقوف أيضاً عند الآيات التي تدعو إلى (التفكُّر) و(التعقُّل) و(التعلُّم) و(الاعتبار).

 

عاشراً- من (صلاة النهار) إلى (صلاة الليل):

في خطبته التي استقبل بها شهر رمضان، يقول النبي (ص) كما رُوي عنه: "وظهوركم ثقيلة من أوزاركم (ذنوبكم ومعاصيكم) فخفِّفوا عنها بطول سجودكم، واعلموا أنّ الله تعالى ذكره أقسم بعزّته أن لا يُعذِّب المصلّين والساجدين وأن لا يروِّعهم بالنار يوم يقوم الناس لربّ العالمين"[20].

إنّ ما تتيحه أجواء الشهر الفضيل من فُسَح ومنتجعات روحية، هو القيام للسحور قبيل الفجر، وهو أفضل الأوقات لصلاة الليل ولعلّ الدعوة إلى أهمية التسحُّر ناتجة عن أن ذلك يعطي للقائم في تلك الساعة فرصة التنفُّل والتقرُّب إلى الله بالاستغفار في السحر من خلال صلاة الليل: ﴿وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ (الذاريات/ 18)، عسى أن يتذوّق الصائم حلاوتها في الأسحار الرمضانية ليواظب عليها في الأسحار خارج الموسم، ذلك أنّ صناعة الشخصية الإيمانية وتشكيلها يجري في الليل؛ لتنطلق من خلال وعي وبصيرة وهدى وزاد روحيّ في حركتها في النهار، قال تعالى: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا﴾ (المزمِّل/ 6-(ع))، والناشئة هي التي تُنشئ وتبني وتُعمِّر.

 

حادي عشر- من (الدُّعاء) إلى (الضراعة والإنقطاع):

(الدُّعاء) ما يُدعى به الله تعالى في طلب الحاجات، أو سؤال الله الخير والعافية والمغفرة وحُسن العاقبة، هو توجه (الفقير) إلى (الغني)، والمحدود إلى المطلق، ومَن ليس له الدنيا والآخرة لمن يملك الدنيا والآخرة، و(التضرُّع) الإبتهال بتذلل وخضوع من تضرُّع الظلّ إذا تقلّص، ورفع كفّيه إلى السماء تضرُّعاً: تخشُّعاً وتعبُّداً، وفيه انقطاع أكبر من الدعاء.. هو حالة استشعار لمعاني الفقر الكلي إلى الغنى الكلي، مصحوبة بحالة من الخشوع والمناجاة والبكاء والتوجُّه القلبي.

في خطبته لاستقبال شهر رمضان، يقول النبي (ص): "وارفعوا إليه أيديكم بالدُّعاء في أوقات صلواتكم فإنّها أفضل الساعات ينظر الله عزَّوجلَّ وقتها بالرحمة إلى عباده ويجيبهم إذا ناجوه، ويُلبِّيهم إذا نادوه، ويستجيب لهم إذا دعوه"[21].

ولكي نقرن تحوّلات الشهر المبارك بعضها ببعض، فإنّ الخروج من حالة الدعاء للذات وللأهل بالدعاء للأرحام والأقارب، وإلى جميع المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، هو انتقال من درجة الدعاء الصغرويّ إلى درجة الدعاء الكبرويّ الواسع، فلماذا نُحجِّر (نُضيِّق) واسعاً، ورحمة الله وسعت كلّ شيء، وأبواب لطفه ورحمته ورزقه مفتوحة للسائلين؟

 

الثاني عشر- من (الاستغفار) إلى (التوبة والإنابة):

يقول (ص) في خطبة استقبال شهر رمضان: "أيّها الناس، إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكّوها باستغفاركم"[22].

والاستغفار طلب العفو والصفح والمسامحة والمغفرة، ونحن في العادة لا نحقِّق من درجاته الست التي وردت عن الإمام علي (ع) إلّا القولية (أستغفر الله وأتوب إليه) في شهر استجابة الدعاء لنطلب من الله تعالى الارتفاع إلى درجة أعلى (وانقلني إلى درجة التوبة إليك) أي أتعدّى الاستغفار إلى اجتناب ما يدعو إلى طلب المغفرة من عدم العودة للذنب، وكثرة الرجوع إلى الله في حال تكرر الذنب، وإنّ الله ليفرح بتوبة عبده حتى لا يدخله النار، وقد بسط إليه يدي رحمته في الليل والنهار، فلندخل (فصل التوبة) بعد أن درجنا ودأبنا في (فصل الاستغفار) في الشهر الذي قال عنه (ص): "أيّها الناس، إنّه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة"[23]، فلماذا لا نحطّ الذنوب ونقطِّعها بأكثر من الاستغفار؟ بالإقلاع عن بعض سيِّئات أعمالنا تمهيداً وفي محاولة للكف عن غيرها؟

 

الثالث عشر- من (التاريخ المشرق المشرِّف) إلى (الحاضر):

هذه ليست عودة إلى الوراء، هي اغتنام واغتراف الواقع الراهن من معين الأمس الطاهر، ولعلّ تعدُّد الأحداث والمناسبات في شهر رمضان: واقعة بدر الكبرى، ليلة القدر، وفاة خديجة (رضي الله عنها)، ولادة الإمام الحسن (ع) وغيرها مما يعطي للموسم بُعده التاريخي الذي يمكن أن يُستلهم في صوره الإيجابية المشرقة المشرّفة.

وإذا كان القرآن يعرض لنا قصص الماضين لنتعظ ونتعلّم ونعتبر، فما أجدرنا أن نستجلي تاريخنا الاسلامي في محطاته الكبرى لا لنعيش في كهوف التاريخ، وإنما لنطلّ على ساحات الحاضر ونستشرف المستقبل.

وخلاصة القول عن كلّ هذه التحولات الفكرية والنفسية والروحية والاجتماعية التي ينتجها الموسم الرمضاني، لابدّ أن يكون عنوانها الأبرز: (إنسان ما قبل رمضان هو غير إنسان ما بعد رمضان).

 

لماذا الصوم كفّارة[24] لبعض المخالفات؟

في القرآن الكريم تواجهنا ضرائب أو غرامات يتوجّب على المخالف لحكم إلهي أو تشريع ربّاني رفعها أو القيام بها ليمحو بها ذنبه كجزء من رحمة إلهية واسعة تعاقب المخالفات بحسبها لرفع وطأة الذنب عن كاهل مرتكبه.. وما يهمّنا منها المتعلِّق بالصوم، كما في الموارد الآتية:

1- الصوم.. كفّارة عن عدم الحلق في الحج:

قال تعالى: ﴿وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (البقرة/ 1(ص)6).

2- الصوم.. كفّارة القتل الخطأ (الدية):

قال عزَّوجلَّ: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ (النساء/ (ص)2).

3- الصوم.. كفّارة اليمين (الغموس)[25]:

قال جلَّ جلاله: ﴿لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (المائدة/ 8(ص)).

4- الصوم.. كفّارة صيد المُحرِم:

قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾ (المائدة/ (ص)5).

5- الصوم.. كفّارة العودة بعد (الظِهار)[26]:

قال تبارك وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (المجادلة/ 3-4).

الملاحظ على هذه الآيات الآتي:

1- هي كفّارات ترتيبية، إذا لم يحصل أو يتوفر الأكبر فيمكن الاكتفاء بالأدنى.

2- هي كفّارات على مخالفات خطأً أو عمداً يراد بها تأديب المخالف ﴿لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ﴾ (المائدة/ (ص)5).

3- الكفّارات الكبرى اجتماعية، الغرض منها إصلاح خلل اجتماعي، أو بتعبير أدقّ، سدّ ثغرة اجتماعية كتقديم ذبيحة، أو إطعام عشرة أو ستين مسكيناً، أو فدية مالية. والصغرى الصوم، واللافت في الصوم بصفته كفّارة أنّه يعادل تلك الكفّارات ﴿أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا﴾ (المائدة/ (ص)5).. الغرض من ذلك إصلاح خلل ذاتي، أو إجراء عقابي تأديبي، فكما أنّ إصلاح المجتمع في سدّ بعض احتياجاته مطلوب، فإنّ إصلاح الذات في تأديبها مطلوب هو الآخر، والمعادلة بين الصيام على اعتباره كفّارة وما سواه من كفّارات هو الإصلاح فردياً كان أم اجتماعياً.. وبهذا تتضح قيمة نوعية إضافية للصوم في حقل التأديب والتهذيب، وهي أنّ الإحساس بحاجة الآخرين إلى الطعام والشراب والكساء والمأوى والدواء وغيرها، قد يدفع لتلبيتها بتأمين تلك الحاجات ومع عدم القدرة على ذلك ليعش الصائم إحساسه بهم من خلال إحساسه بلذعة الجوع، وبذلك يتحقق الغرض في كلا الحالين.. وصدق مَن قال: "إنّ مَنْ لم يصُمْ اختيارياً بأمر الله تعالى وبغاية التكريم والاحترام، فإنّه سيُجبر على الصوم بقهر الطبيعة، بالحسرة والإكراه في أيام ابتلائه بأمراض السكري وارتفاع ضغط الشرايين وارتفاع نسبة الدهون في الدم"، وتلك هي مقولة الإمام علي (ع): "كم من أكلةٍ منعت أكلات"[27].

يقول (الكسي سوروفين) في (الصوم طريقة حديثة لعلاج الأمراض): "لقد ثبت طبّياً وصحّياً أنّ الصوم سبيل ناجح في علاج أمراض فقر الدم، وضعف الأمعاء والإلتهابات البسيطة والمزمنة، والدمامل الداخلية والخارجية، والاسكيلوز، والروماتيزم، والنقرس (داء الملوك)، والإستسقاء، وعرق النساء، والخزاز (تناثر الجلد)، وأمراض العين، ومرض السكري، وأمراض الكلية، والكبد، بل ويشمل معالجة خلايا السرطان والسفلس، والسلّ، والطاعون".

هذا وقد أنشئت عيادات طبّية متخصِّصة تقوم على العلاج بـ(الصوم) فقط للشفاء من العديد من الأمراض الآنفة الذكر، وهل بعد قول الله تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا﴾ (الأعراف/ 31)، وقول رسول الله (ص): "صوموا تصحّوا"، وقوله: "إنّ المعدة بيت الداء والحمية خير دواء"[28] من مَصحَّة أو دواء لبيت الداء غير الصوم؟!

 

-        وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين -

 


 

ملاحـق الكتاب

1- نصّ (خطبة النبي (ص) في استقبال شهر رمضان).

2- نصّ (خطبة الإمام علي بن الحسين (ع) في استقبال شهر رمضان).

3- نصّ (خطبة الإمام علي بن الحسين (ع) في وداع شهر رمضان).

 

تنويــه:

هذه النصوص الثلاثة هي أهمّ من الكتاب نفسه وأعلى قيمة من كل مضامينه، لأنّها وحدها وبحدّ ذاتها كتاب قيِّم في مفاهيم الصوم وأبعاده وآثاره.. وإذا كنّا أدرجناها في الملاحق، وحقّها أن تكون في صدر الكتاب، فهذا ما اقتضته الضرورات الفنّية ليس إلّا، فاقتضى التنويه.

 

خطبة الرسول الأكرم (ص)في استقبال شهر رمضان:

عن أميرِ المؤمنين (ع) قال: إنّ رسولَ اللهِ (ص) خطبنا ذاتَ يومٍ فقال:

«أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّهُ قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ شَهْرُ اللهِ بِالْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ. شَهْرٌ هُوَ عِنْدَ اللهِ أَفْضَلُ الشُّهُورِ، وَأَيَّامُهُ أَفْضَلُ الأَيَّامِ، وَلَيَالِيهِ أَفْضَلُ اللَّيَالِي، وَسَاعَاتُهُ أَفْضَلُ السَّاعَاتِ. هُوَ شَهْرٌ دُعِيتُمْ فِيهِ إِلَى ضِيَافَةِ اللهِ، وَجُعِلْتُمْ فِيهِ مِنْ أَهْلِ كَرَامَةِ اللَّهِ. أَنْفَاسُكُمْ فِيهِ تَسْبِيحٌ، وَنَوْمُكُمْ فِيهِ عِبَادَةٌ، وَعَمَلُكُمْ فِيهِ مَقْبُولٌ، وَدُعَاؤُكُمْ فِيهِ مُسْتَجَابٌ، فَاسْأَلُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ بِنِيَّاتٍ صَادِقَةٍ، وَقُلُوبٍ طَاهِرَةٍ، أَنْ يُوَفِّقَكُمْ لِصِيَامِهِ، وَتِلاوَةِ كِتَابِهِ، فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ غُفْرَانَ اللَّهِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيمِ. وَاذْكُرُوا بِجُوعِكُمْ وَعَطَشِكُمْ فِيهِ، جُوعَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَعَطَشَهُ.

وَتَصَدَّقُوا عَلَى فُقَرَائِكُمْ وَمَسَاكِينِكُمْ، وَوَقِّرُوا كِبَارَكُمْ، وَارْحَمُوا صِغَارَكُمْ، وَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ، وَاحْفَظُوا أَلْسِنَتَكُمْ، وَغُضُّوا عَمَّا لا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ أَبْصَارَكُمْ، وَعَمَّا لا يَحِلُّ الاسْتِمَاعُ إِلَيْهِ أَسْمَاعَكُمْ. وَتَحَنَّنُوا عَلَى أَيْتَامِ النَّاسِ يُتَحَنَّنْ عَلَى أَيْتَامِكُمْ، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ مِنْ ذُنُوبِكُمْ، وَارْفَعُوا إِلَيْهِ أَيْدِيَكُمْ بِالدُّعَاءِ فِي أَوْقَاتِ صَلاتِكُمْ، فَإِنَّهَا أَفْضَلُ السَّاعَاتِ، يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا بِالرَّحْمَةِ إِلَى عِبَادِهِ، يُجِيبُهُمْ إِذَا نَاجَوْهُ، وَيُلَبِّيهِمْ إِذَا نَادَوْهُ، وَيُعْطِيهِمْ إِذَا سَأَلُوهُ، وَيَسْتَجِيبُ لَهُمْ إِذَا دَعَوْهُ.  أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ أَنْفُسَكُمْ مَرْهُونَةٌ بِأَعْمَالِكُمْ، فَفُكُّوهَا بِاسْتِغْفَارِكُمْ، وَظُهُورَكُمْ ثَقِيلَةٌ مِنْ أَوْزَارِكُمْ، فَخَفِّفُوا عَنْهَا بِطُولِ سُجُودِكُمْ. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَقْسَمَ بِعِزَّتِهِ أَنْ لا يُعَذِّبَ الْمُصَلِّينَ وَالسَّاجِدِينَ، وَأَنْ لا يُرَوِّعَهُمْ بِالنَّارِ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. أيها الناس! مَنْ فَطَّرَ مِنْكُمْ صَائِماً مُؤْمِناً فِي هَذَا الشَّهْرِ، كَانَ لَهُ بِذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ عِتْقُ نَسَمَةٍ، وَمَغْفِرَةٌ لِمَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ.

قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَلَيْسَ كُلُّنَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ (ص): اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ. أَيُّهَا النَّاسُ! مَنْ حَسَّنَ مِنْكُمْ فِي هَذَا الشَّهْرِ خُلُقَهُ، كَانَ لَهُ جَوَازاً عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ فِيهِ الأَقْدَامُ، وَمَنْ خَفَّفَ فِي هَذَا الشَّهْرِ عَمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، خَفَّفَ اللَّهُ عَلَيْهِ حِسَابَهُ، وَمَنْ كَفَّ فِيهِ شَرَّهُ، كَفَّ اللَّهُ عَنْهُ غَضَبَهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ، وَمَنْ أَكْرَمَ فِيهِ يَتِيماً، أَكْرَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ، وَمَنْ وَصَلَ فِيهِ رَحِمَهُ وَصَلَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ يَوْمَ يَلْقَاهُ، وَمَنْ قَطَعَ فِيهِ رَحِمَهُ قَطَعَ اللَّهُ عَنْهُ رَحْمَتَهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ، وَمَنْ تَطَوَّعَ فِيهِ بِصَلاةٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بَرَاءَةً مِنَ النَّارِ، وَمَنْ أَدَّى فِيهِ فَرْضاً كَانَ لَهُ ثَوَابُ مَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الشُّهُورِ، وَمَنْ أَكْثَرَ فِيهِ مِنَ الصَّلاةِ عَلَيَّ، ثَقَّلَ اللَّهُ مِيزَانَهُ يَوْمَ تَخِفُّ الْمَوَازِينُ، وَمَنْ تَلا فِيهِ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ، كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ.

أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ أَبْوَابَ الْجِنَانِ فِي هَذَا الشَّهْرِ مُفَتَّحَةٌ، فَاسْأَلُوا رَبَّكُمْ أَنْ لا يُغَلِّقَهَا عَنْكُمْ، وَأَبْوَابَ النِّيرَانِ مُغَلَّقَةٌ، فَاسْأَلُوا رَبَّكُمْ أَنْ لا يُفَتِّحَهَا عَلَيْكُمْ، وَالشَّيَاطِينَ مَغْلُولَةٌ، فَاسْأَلُوا رَبَّكُمْ أَنْ لا يُسَلِّطَهَا عَلَيْكُمْ.

قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليُّ بن أبي طالب (ع): فَقُمْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا أَفْضَلُ الأَعْمَالِ فِي هَذَا الشَّهْرِ؟

فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَسَنِ! أَفْضَلُ الأَعْمَالِ فِي هَذَا الشَّهْرِ: الْوَرَعُ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ ثمُّ بكى فقلتُ: يَا رسولَ اللهِ ما يبُكيكَ؟ فقالَ: يَا علي أبكي لما يُستَحَلُ منكَ في هذا الشهرِ؛ كأنّي بِكَ وأنتَ تُصلّي لربِّكَ وَقَدْ انبعثَ أشقى الأوَّلينَ والآخرينَ شقيقُ عاقرِ ناقةِ ثمود فضربَكَ ضربةً على قرنِكَ فخضبَ منها لحيتَك. قالَ أميرُ المؤمنينَ (ع): فقلتُ: يَا رسولَ اللهِ وذلكَ في سلامةٍ من ديني؟ فقالَ (ص): في سلامةٍ من دينِك ثمُّ قالَ: يَا علي مَنْ قَتَلَك فَقَدْ قَتَلَني وَمَنْ أَبْغَضَكَ فَقَدْ أبغضني وَمَنْ سَبّكَ فَقَدْ سَبّني لأنّك مني كنفسي روحُكَ مِنْ رُوحي وطينتُك من طينتي إنّ اللهَ تباركَ وتعالى خَلَقَني وإياكَ، واصطفاني وإياكَ واختارني للنبوةِ واختاركَ للإمامةِ، وَمَنْ أَنكَر إمامَتَكَ فَقَدْ أَنكَرَ نبوتي. يَا علي أنتَ وصيي وأبو ولدي وزوجُ ابنتي وخليفتي على أمتي في حياتي وبعد موتي، أمرُك أمري ونهُيك نهيي، أُقسمُ بالذي بَعثَني بالنبوةِ وجعلني خيرَ البريةِ إنّكَ لحجةُ اللهِ على خلقِهِ وأمينِهِ على سرِّهِ وخليفتِه على عبادِه».

 

دعاء الإمام علي بن الحسين (ع) في استقبال شهر رمضان:

الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِحَمْدِهِ، وَجَعَلَنَا مِنْ أَهْلِهِ، لِنَكُونَ لإحْسَانِهِ مِنَ الشَّاكِرِينَ، وَلِيَجْزِيَنَا عَلَى ذلِكَ جَزَآءَ الْمُحْسِنِينَ. وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي حَبَانَا بِدِينِهِ، وَاخْتَصَّنَا بِمِلَّتِهِ، وَسَبَّلَنَا فِي سُبُلِ إحْسَانِهِ، لِنَسْلُكَهَا بِمَنِّهِ إلَى رِضْوَانِهِ، حَمْدَاً يَتَقَبَّلُهُ مِنَّا، وَيَرْضَى بِهِ عَنَّا. وَالْحَمْدُ لِلّه الَّذِي جَعَلَ مِنْ تِلْكَ السُّبُلِ شَهْرَهُ شَهْرَ رَمَضَانَ، شَهْرَ الصِّيَامِ، وَشَهْرَ الإِسْلاَم، وَشَهْرَ الطَّهُورِ، وَشَهْرَ التَّمْحِيْصِ، وَشَهْرَ الْقِيَامِ، الَّذِي أُنْزِلَ فِيْهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ، وَبَيِّنَات مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقَانِ، فَأَبَانَ فَضِيْلَتَهُ عَلَى سَائِرِ الشُّهُورِ بِمَا جَعَلَ لَهُ مِنَ الْحُرُمَاتِ الْمَوْفُورَةِ وَالْفَضَائِلِ الْمَشْهُورَةِ، فَحَرَّمَ فِيْهِ ما أَحَلَّ فِي غَيْرِهِ إعْظَاماً، وَحَجَرَ فِيْهِ الْمَطَاعِمَ وَالْمَشَارِبَ إكْرَاماً، وَجَعَلَ لَهُ وَقْتاً بَيِّناً لاَ يُجِيزُ جَلَّ وَعَزَّ أَنْ يُقَدَّمَ قَبْلَهُ، وَلا يَقْبَـلُ أَنْ يُؤَخَّرَ عَنْهُ، ثُمَّ فَضَّلَ لَيْلَةً وَاحِدَةً مِنْ لَيَالِيهِ عَلَى لَيَالِي أَلْفِ شَهْر، وَسَمَّاهَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ، تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْر، سَلاَمٌ دَائِمُ الْبَرَكَةِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ بِمَا أَحْكَمَ مِنْ قَضَائِهِ. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَأَلْهِمْنَا مَعْرِفَةَ فَضْلِهِ وَإِجْلاَلَ حُرْمَتِهِ وَالتَّحَفُّظَ مِمَّا حَظَرْتَ فِيهِ، وَأَعِنَّـا عَلَى صِيَامِـهِ بِكَفِّ الْجَـوَارِحِ عَنْ مَعَاصِيْكَ، وَاسْتِعْمَالِهَا فِيهِ بِمَا يُرْضِيْكَ حَتَّى لاَ نُصْغِي بِأَسْمَاعِنَا إلَى لَغْو، وَلا نُسْرِعُ بِأَبْصَارِنَا إلَى لَهْو، وَحَتَّى لاَ نَبْسُطَ أَيْدِيَنَا إلَى مَحْظُور، وَلاَ نَخْطُوَ بِأَقْدَامِنَا إلَى مَحْجُور، وَحَتَّى لاَ تَعِيَ بُطُونُنَا إلاَّ مَا أَحْلَلْتَ، وَلا تَنْطِقَ أَلْسِنَتُنَا إلاَّ بِمَا مَثَّلْتَ وَلا نَتَكَلَّفَ إلاَّ ما يُدْنِي مِنْ ثَوَابِكَ، وَلاَ نَتَعَاطَى إلاّ الَّذِي يَقِيْ مِنْ عِقَابِكَ، ثُمَّ خَلِّصْ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ رِئآءِ الْمُرَائِينَ وَسُمْعَةِ الْمُسْمِعِينَ، لاَ نَشْرِكُ فِيهِ أَحَداً دُونَكَ، وَلا نَبْتَغِيْ فِيهِ مُرَاداً سِوَاكَ. أللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَقِفْنَـا فِيْـهِ عَلَى مَـوَاقِيْتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْس بِحُدُودِهَا الَّتِي حَدَّدْتَ، وَفُرُوضِهَا الَّتِي فَرَضْتَ وَوَظَائِفِهَا الَّتِي وَظَّفْتَ، وَأَوْقَاتِهَا الَّتِي وَقَّتَّ، وَأَنْزِلْنَا فِيهَا مَنْزِلَةَ الْمُصِيْبينَ لِمَنَازِلِهَا الْحَافِظِينَ لاِرْكَانِهَا الْمُؤَدِّينَ لَهَـا فِي أَوْقَاتِهَـا عَلَى مَا سَنَّـهُ عَبْدُكَ وَرَسُـولُكَ صَلَوَاتُـكَ عَلَيْهِ وَآلِـهِ فِي رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَجَمِيْعِ فَوَاضِلِهَا عَلَى أَتَمِّ الطَّهُورِ، وَأَسْبَغِهِ وَأَبْيَنِ الْخُشُوعِ وَأَبْلَغِهِ، وَوَفِّقْنَا فِيهِ لاِنْ نَصِلَ أَرْحَامَنَا بِالبِرِّ وَالصِّلَةِ وَأَنْ نَتَعَاهَدَ جِيرَانَنَا بِالاِفْضَالِ وَالْعَطِيَّةِ وَأَنْ نُخَلِّصَ أَمْوَالَنَا مِنَ التَّبِعَاتِ، وَأَنْ نُطَهِّرَهَا بِإخْرَاجِ الزَّكَوَاتِ، وَأَنْ نُرَاجِعَ مَنْ هَاجَرَنَـا، وَأَنْ نُنْصِفَ مَنْ ظَلَمَنَا، وَأَنْ نُسَـالِمَ مَنْ عَادَانَا، حَاشَا مَنْ عُودِيَ فِيْكَ وَلَكَ، فَإنَّهُ الْعَدُوُّ الَّذِي لاَ نُوالِيهِ، وَالحِزْبُ الَّذِي لاَ نُصَافِيهِ. وَأَنْ نَتَقَرَّبَ إلَيْكَ فِيْهِ مِنَ الأَعْمَالِ الزَّاكِيَةِ بِمَا تُطَهِّرُنا بِهِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَتَعْصِمُنَا فِيهِ مِمَّا نَسْتَأنِفُ مِنَ الْعُيُوبِ، حَتَّى لا يُورِدَ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ مَلاَئِكَتِكَ إلاّ دُونَ مَا نُورِدُ مِنْ أَبْوابِ الطَّاعَةِ لَكَ، وَأَنْوَاعِ القُرْبَةِ إلَيْكَ. أللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ هَذَا الشَّهْرِ، وَبِحَقِّ مَنْ تَعَبَّدَ لَكَ فِيهِ مِنِ ابْتِدَائِهِ إلَى وَقْتِ فَنَائِهِ مِنْ مَلَك قَرَّبْتَهُ أَوْ نَبِيٍّ أَرْسَلْتَهُ أَوْ عَبْد صَالِح اخْتَصَصْتَهُ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَأَهِّلْنَا فِيهِ لِمَا وَعَدْتَ أَوْلِياءَكَ مِنْ كَرَامَتِكَ، وَأَوْجِبْ لَنَا فِيهِ مَا أَوْجَبْتَ لأِهْلِ الْمُبَالَغَةِ فِي طَاعَتِكَ، وَاجْعَلْنَا فِي نَظْمِ مَنِ اسْتَحَقَّ الرَّفِيْعَ الأعْلَى بِرَحْمَتِكَ. أللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَجَنِّبْنَا الإلْحَادَ فِي تَوْحِيدِكَ وَالتَّقْصِيرَ فِي تَمْجِيدِكَ، وَالشَّكَّ فِي دِينِـكَ، وَالْعَمَى عَنْ سَبِيْلِكَ، وَالاغْفَالَ لِحُرْمَتِكَ، وَالانْخِدَاعَ لِعَدُوِّكَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. أللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ وَإذَا كَانَ لَكَ فِيْ كُلِّ لَيْلَة مِنْ لَيَالِيْ شَهْرِنَا هَذَا رِقَابٌ يُعْتِقُهَا عَفْوُكَ أَوْ يَهَبُهَا صَفْحُكَ؛ فَاجْعَلْ رِقَابَنَا مِنْ تِلْكَ الرِّقَابِ، وَاجْعَلْنَا لِشَهْرِنَا مِنْ خَيْرِ أَهْلٍ وَأَصْحَاب. أللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ وَامْحَقْ ذُنُوبَنَا مَعَ امِّحاقِ هِلاَلِهِ وَاسْلَخْ عَنَّا تَبِعَاتِنَا مَعَ انْسِلاَخِ أَيَّامِهِ حَتَّى يَنْقَضِي عَنَّا وَقَدْ صَفَّيْتَنَا فِيهِ مِنَ الْخَطِيئاتِ، وَأَخْلَصْتَنَا فِيهِ مِنَ السَّيِّئاتِ. أللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَإنْ مِلْنَا فِيهِ فَعَدِّلْنا، وَإنْ زِغْنَا فِيهِ فَقَوِّمْنَا، وَإنِ اشْتَمَلَ عَلَيْنَا عَدُوُّكَ الشَّيْطَانُ فَاسْتَنْقِذْنَا مِنْهُ. أللَهُمَّ اشْحَنْهُ بِعِبَادَتِنَا إيَّاكَ، وَزَيِّنْ أَوْقَاتَهُ بِطَاعَتِنَا لَكَ، وَأَعِنَّا فِي نَهَـارِهِ عَلَى صِيَـامِـهِ، وَفِي لَيْلِهِ عَلَى الصَّـلاَةِ وَالتَّضَرُّعِ إلَيْكَ وَالخُشُوعِ لَكَ، وَالذِّلَّةِ بَيْنَ يَدَيْكَ؛ حَتَّى لا يَشْهَدَ نَهَارُهُ عَلَيْنَا بِغَفْلَة، وَلا لَيْلُهُ بِتَفْرِيط. أللَّهُمَّ وَاجْعَلْنَا فِي سَائِرِ الشُّهُورِ وَالأَيَّامِ كَذَلِكَ مَا عَمَّرْتَنَا، وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ، هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُـونَ، وَمِنَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ. أللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، فِي كُلِّ وَقْت وَكُلِّ أَوَان وَعَلَى كُـلِّ حَال عَـدَدَ مَا صَلَّيْتَ عَلَى مَنْ صَلَّيْتَ عَلَيْهِ، وَأَضْعَافَ ذَلِكَ كُلِّهِ بِالأضْعافِ الَّتِي لا يُحْصِيهَا غَيْرُكَ، إنَّكَ فَعَّالٌ لِمَا تُرِيدُ.

 

دعاء الإمام علي بن الحسين (ع)في وداع شهر رمضان:

أللَّهُمَّ يَا مَنْ لا يَرْغَبُ فِي الْجَزَاءِ، وَلاَ يَنْدَمُ عَلَى الْعَطَآءِ، وَيَا مَنْ لاَ يُكَافِئُ عَبْدَهُ عَلَى السَّوآءِ، مِنَّتُكَ ابْتِدَاءٌ، وَعَفْوُكَ تَفَضُّلٌ، وَعُقُوبَتُكَ عَـدْلٌ، وَقَضَاؤُكَ خِيَرَةٌ، إنْ أَعْطَيْتَ لَمْ تَشُبْ عَطَآءَكَ بِمَنٍّ، وَإنْ مَنَعْتَ لَمْ يَكُنْ مَنْعُكَ تَعَدِّيا، تَشْكُرُ مَنْ شَكَرَكَ وَأَنْتَ أَلْهَمْتَهُ شُكْرَكَ، وَتُكَافِئُ مَنْ حَمِدَكَ وَأَنْتَ عَلَّمْتَهُ حَمْدَكَ، تَسْتُرُ عَلَى مَنْ لَوْ شِئْتَ فَضَحْتَهُ، وَتَجُودُ عَلَى مَنْ لَوْ شِئْتَ مَنَعْتَهُ، وَكِلاَهُمَا أَهْلٌ مِنْكَ لِلْفَضِيحَةِ وَالْمَنْعِ، غَيْرَ أَنَّكَ بَنَيْتَ أَفْعَالَكَ عَلَى التَّفَضُّلِ، وَأَجْرَيْتَ قُدْرَتَكَ عَلَى التَّجَاوُزِ، وَتَلَقَّيْتَ مَنْ عَصَاكَ بِالحِلْمِ، وَأمْهَلْتَ مَنْ قَصَدَ لِنَفْسِهِ بِالظُّلْمِ تَسْتَنْظِرُهُمْ بِأناتِكَ إلى الإنَابَةِ، وَتَتْرُكُ مُعَاجَلَتَهُمْ إلَى التَّوْبَةِ لِكَيْلاَ يَهْلِكَ عَلَيْكَ هَالِكُهُمْ، وَلا يَشْقَى بِنِعْمَتِكَ شَقِيُّهُمْ إلاَّ عَنْ طُولِ الإِعْذَارِ إلَيْهِ، وَبَعْدَ تَرَادُفِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ كَرَماً مِنْ عَفْوِكَ يَا كَرِيْمُ، وَعَائِدَةً مِنْ عَطْفِكَ يَا حَلِيمُ. أَنْتَ الَّذِيْ فَتَحْتَ لِعِبَادِكَ بَاباً إلَى عَفْوِكَ وَسَمَّيْتَهُ التَّوْبَـةَ، وَجَعَلْتَ عَلَى ذلِكَ البَابِ دَلِيلاً مِنْ وَحْيِكَ لِئَلاَّ يَضِلُّوا عَنْهُ فَقُلْتَ تَبَارَكَ اسْمُكَ :(تُوبُوا إلَى الله تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّـرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ) فَمَا عُذْرُ مَنْ أَغْفَلَ دُخُولَ ذلِكَ الْمَنْزِلِ بَعْدَ فَتْحِ الْبَابِ وَإقَامَةِ الدَّلِيْلِ، وَأَنْتَ الَّذِي زِدْتَ فِي السَّوْمِ عَلَى نَفْسِكَ لِعِبَادِكَ تُرِيدُ رِبْحَهُمْ فِي مُتَاجَرَتِهِمْ لَكَ، وَفَوْزَهُمْ بِالْوِفَادَةِ عَلَيْكَ وَالزِّيادَةِ مِنْكَ فَقُلْتَ تَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَيْتَ: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزى إلاّ مِثْلَهَا) وَقُلْتَ: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّة أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَة مَائَةُ حَبَّة وَالله يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ) وَقُلْتَ: (مَنْ ذَا الَّذِيْ يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَنَاً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أضْعَافاً كَثِيرَةً) وَمَا أَنْزَلْتَ مِنْ نَظَائِرِهِنَّ فِي الْقُرْآنِ مِنْ تَضَاعِيفِ الْحَسَنَاتِ، وَأَنْتَ الَّذِي دَلَلْتَهُمْ بِقَوْلِكَ مِنْ غَيْبِكَ وَتَرْغِيْبِكَ الَّذِي فِيهِ حَظُّهُمْ عَلَى مَا لَوْ سَتَرْتَهُ عَنْهُمْ لَمْ تُدْرِكْهُ أَبْصَارُهُمْ وَلَمْ تَعِـهِ أَسْمَاعُهُمْ وَلَمْ تَلْحَقْـهُ أَوْهَامُهُمْ فَقُلْتَ: (اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِيْ وَلا تَكْفُرُونِ) وَقُلْتَ: (لَئِنْ شَكَـرْتُمْ لازِيدَنَّكمْ وَلَئِنْ كَفَـرْتُمْ إنَّ عَذابِيْ لَشَدِيدٌ) وَقُلْتَ : (ادْعُونِيْ أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) فَسَمَّيْتَ دُعَاءَكَ عِبَادَةً، وَتَرْكَهُ اسْتِكْبَاراً، وَتَوَعَّدْتَ عَلَى تَرْكِهِ دُخُولَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ، فَذَكَرُوكَ بِمَنِّكَ وَشَكَرُوكَ بِفَضْلِكَ، وَدَعَوْكَ بِأَمْرِكَ، وَتَصَدَّقُوا لَكَ طَلَباً لِمَزِيدِكَ، وَفِيهَا كَانَتْ نَجَاتُهُمْ مِنْ غَضَبِكَ، وَفَوْزُهُمْ بِرِضَاكَ، وَلَوْ دَلَّ مَخْلُوقٌ مَخْلُوقاً مِنْ نَفْسِهِ عَلَى مِثْلِ الَّذِيْ دَلَلْتَ عَلَيْهِ عِبَادَكَ مِنْكَ كَانَ مَوْصُوْفَاً بالإحْسَان وَمَنْعُوتاً بِالامْتِثَال ومحمُوداً بكلِّ لِسَان، فَلَكَ الْحَمْدُ مَا وُجِدَ فِي حَمْدِكَ مَذْهَبٌ، وَمَا بَقِيَ لِلْحَمْدِ لَفْظ تُحْمَدُ بِهِ وَمَعْنىً يَنْصَرفُ إلَيْهِ يَـا مَنْ تَحَمَّدَ إلَى عِبَـادِهِ بِالإِحْسَـانِ وَالْفَضْل، وَغَمَرَهُمْ بِالْمَنِّ وَالطَّوْلِ، مَا أَفْشَى فِيْنَا نِعْمَتَكَ وَأَسْبَغَ عَلَيْنَا مِنَّتَكَ، وَأَخَصَّنَا بِبِرِّكَ؛ هَدْيَتَنَا لِدِيْنِكَ الَّـذِي اصْطَفَيْتَ، وَمِلَّتِـكَ الَّتِي ارْتَضَيْتَ، وَسَبِيلِكَ الَّذِي سَهَّلْتَ، وَبَصَّرْتَنَا الزُّلْفَةَ لَدَيْكَ وَالوُصُولَ إلَى كَـرَامَتِكَ. أللَّهُمَّ وَأَنْتَ جَعَلْتَ مِنْ صَفَـايَـا تِلْكَ الْوَظَائِفِ وَخَصَائِصِ تِلْكَ الْفُرُوضِ شَهْرَ رَمَضَانَ الَّذِي اخْتَصَصْتَهُ مِنْ سَائِرِ الشُّهُورِ، وَتَخَيَّرْتَهُ مِن جَمِيعِ الأزْمِنَةِ وَالدُّهُورِ، وَآثَرْتَهُ عَلَى كُلِّ أَوْقَاتِ السَّنَةِ بِمَا أَنْزَلْتَ فِيهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالنُّورِ، وَضَاعَفْتَ فِيهِ مِنَ الإيْمَانِ، وَفَرَضْتَ فِيْهِ مِنَ الصِّيَامِ، وَرَغَّبْتَ فِيهِ مِنَ القِيَامِ، وَأَجْلَلْتَ فِيهِ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر، ثُمَّ آثَرْتَنَا بِهِ عَلَى سَائِرِ الأُمَمِ وَاصْطَفَيْتَنَا بِفَضْلِهِ دُوْنَ أَهْلِ الْمِلَلِ، فَصُمْنَا بِأَمْرِكَ نَهَارَهُ، وَقُمْنَا بِعَوْنِكَ لَيْلَهُ مُتَعَرِّضِينَ بِصِيَامِهِ وَقِيَامِهِ لِمَا عَرَّضْتَنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِكَ، وَتَسَبَّبْنَا إلَيْـهِ مِنْ مَثُوبَتِكَ، وَأَنْتَ الْمَليءُ بِمَا رُغِبَ فِيهِ إلَيْكَ، الْجَوَادُ بِمـا سُئِلْتَ مِنْ فَضْلِكَ، الْقَـرِيبُ إلَى مَنْ حَـاوَلَ قُرْبَكَ، وَقَدْ أَقَامَ فِينَا هَذَا الشَّهْرُ مَقَامَ حَمْد وَصَحِبَنَا صُحْبَةَ مَبْرُور، وَأَرْبَحَنَا أَفْضَلَ أَرْبَاحِ الْعَالَمِينَ، ثُمَّ قَدْ فَارَقَنَا عِنْدَ تَمَامِ وَقْتِهِ وَانْقِطَاعِ مُدَّتِهِ وَوَفَاءِ عَدَدِهِ، فَنَحْنُ مُوَدِّعُوهُ وِدَاعَ مَنْ عَزَّ فِرَاقُهُ عَلَيْنَا وَغَمَّنَا وَأَوْحَشَنَا انْصِرَافُهُ عَنَّا وَلَزِمَنَا لَهُ الذِّمَامُ الْمَحْفُوظُ، وَالْحُرْمَةُ الْمَرْعِيَّةُ، وَالْحَقُّ الْمَقْضِيُّ، فَنَحْنُ قَائِلُونَ: السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا شَهْرَ اللهِ الأكْبَرَ، وَيَا عِيْدَ أَوْلِيَائِهِ. السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَـا أكْرَمَ مَصْحُـوب مِنَ الأوْقَاتِ، وَيَا خَيْرَ شَهْر فِي الأيَّامِ وَالسَّاعَاتِ. السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْر قَرُبَتْ فِيهِ الآمالُ وَنُشِرَتْ فِيهِ الأَعْمَالُ. السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ قَرِين جَلَّ قَدْرُهُ مَوْجُوداً، وَأَفْجَعَ فَقْدُهُ مَفْقُوداً، وَمَرْجُوٍّ آلَمَ فِرَاقُهُ. السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ أَلِيف آنَسَ مُقْبِلاً فَسَرَّ، وَأَوْحَشَ مُنْقَضِياً فَمَضَّ. السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ مُجَاوِر رَقَّتْ فِيهِ الْقُلُوبُ، وَقَلَّتْ فِيهِ الذُّنُوبُ. أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ نَاصِر أَعَانَ عَلَى الشَّيْطَانِ وَصَاحِب سَهَّلَ سُبُلَ الإحْسَانِ. أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ مَا أكْثَرَ عُتَقَاءَ اللهِ فِيكَ وَمَا أَسْعَدَ مَنْ رَعَى حُرْمَتَكَ بكَ!. أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ مَا كَانَ أَمْحَاكَ لِلذُّنُوبِ، وَأَسْتَرَكَ لأِنْوَاعِ الْعُيُوبِ؛ أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ مَا كَانَ أَطْوَلَكَ عَلَى الْمُجْرِمِينَ، وَأَهْيَبَكَ فِي صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ! أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْر لا تُنَافِسُهُ الأيَّامُ. أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْر هُوَ مِنْ كُلِّ أَمْر سَلاَمٌ. أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ غَيْرَ كَرِيهِ الْمُصَاحَبَةِ وَلاَ ذَمِيمِ الْمُلاَبَسَةِ. أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ كَمَا وَفَدْتَ عَلَيْنَا بِالْبَرَكَاتِ، وَغَسَلْتَ عَنَّا دَنَسَ الْخَطِيئاتِ. السَّلاَمُ عَلَيْكَ غَيْرَ مُوَدَّع بَرَماً وَلاَ مَتْرُوك صِيَامُهُ سَأَماً. أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ مَطْلُوبِ قَبْلَ وَقْتِهِ وَمَحْزُون عَلَيْهِ قَبْلَ فَوْتِهِ. أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ كَمْ مِنْ سُوء صُرِفَ بِكَ عَنَّا وَكَمْ مِنْ خَيْر أُفِيضَ بِكَ عَلَيْنَا. أَلسَّلاَمُ عَلَيْـكَ وَعَلَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر. أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ ما كَانَ أَحْرَصَنَا بِالأمْسِ عَلَيْكَ وَأَشَدَّ شَوْقَنَا غَدَاً إلَيْكَ. أَلسَلاَمُ عَلَيْكَ وَعَلَى فَضْلِكَ الَّذِي حُرِمْنَاهُ ، وَعَلَى مَاضٍ مِنْ بَرَكَاتِكَ سُلِبْنَاهُ. أَللَّهُمَّ إنَّا أَهْلُ هَذَا الشَّهْرِ الِّذِي شَرَّفْتَنَا بِهِ وَوَفّقتَنَا بِمَنِّكَ لَهُ حِينَ جَهِلَ الاَشْقِيَاءُ وَقْتَهُ وَحُرِمُوا لِشَقَائِهِم فَضْلَهُ، أَنْتَ وَلِيُّ مَا اثَرْتَنَا بِهِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ، وَهَدَيْتَنَا مِنْ سُنَّتِهِ، وَقَدْ تَوَلَّيْنَا بِتَوْفِيقِكَ صِيَامَهُ وَقِيَامَهُ عَلى تَقْصِير، وَأَدَّيْنَا فِيهِ قَلِيلاً مِنْ كَثِيـر. اللَّهُمَّ فَلَكَ الْحمدُ إقْـرَاراً بِـالإسَاءَةَ وَاعْتِرَافاً بِالإضَاعَةِ، وَلَك مِنْ قُلُوبِنَا عَقْدُ النَّدَمِ، وَمِنْ أَلْسِنَتِنَا صِدْقُ الاعْتِذَارِ، فَأَجِرْنَا عَلَى مَا أَصَابَنَا فِيهِ مِنَ التَّفْرِيطِ أَجْرَاً نَسْتَدْركُ بِهِ الْفَضْلَ الْمَرْغُوبَ فِيهِ، وَنَعْتَاضُ بِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الذُّخْرِ الْمَحْرُوصِ عَلَيْهِ، وَأَوْجِبْ لَنَا عُذْرَكَ عَلَى مَا قَصَّرْنَا فِيهِ مِنْ حَقِّكَ، وَابْلُغْ بِأَعْمَارِنَا مَا بَيْنَ أَيْديْنَا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ الْمُقْبِلِ، فَإذَا بَلَّغْتَنَاهُ فَأَعِنَّا عَلَى تَنَاوُلِ مَا أَنْتَ أَهْلُهُ مِنَ الْعِبَادَةِ، وَأَدِّنَا إلَى الْقِيَامِ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الطَّاعَةِ، وَأجْرِ لنا مِنْ صَالِحِ العَمَلِ مَا يَكون دَرَكاً لِحَقِّكَ فِي الشَّهْرَيْنِ مِنْ شُهُورِ الدَّهْرِ. أللَّهُمَّ وَمَا أَلْمَمْنَا بِهِ فِي شَهْرِنَا هَذَا مِنْ لَمَم أَوْ إثْم، أَوْ وَاقَعْنَا فِيهِ مِنْ ذَنْبِ وَاكْتَسَبْنَا فِيهِ مِنْ خَطِيئَة عَلَى تَعَمُّد مِنَّا أَوِ انْتَهَكْنَا بِهِ حُرْمَةً مِنْ غَيْرِنَا، فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ وَاسْتُرْنَا بِسِتْرِكَ، وَاعْفُ عَنَّا بِعَفْوِكَ، وَلاَ تَنْصِبْنَا فِيهِ لاِعْيُنِ الشَّامِتِينَ، وَلاَ تَبْسُطْ عَلَيْنَا فِيهِ أَلْسُنَ الطَّاغِينَ، وَاسْتَعْمِلْنَا بِمَا يَكُونُ حِطَّةً وَكَفَّارَةً لِمَا أَنْكَرْتَ مِنَّا فِيهِ بِرَأْفَتِكَ الَّتِي لاَ تَنْفَدُ، وَفَضْلِكَ الَّذِي لا يَنْقُصُ. أللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ وَاجْبُرْ مُصِيبَتنَا بِشَهْرِنَا وَبَارِكْ فِي يَوْمِ عِيْدِنَا وَفِطْرِنَا، وَاجْعَلْهُ مِنْ خَيْرِ يَوْم مَرَّ عَلَيْنَا، أَجْلَبِهِ لِعَفْو، وَأَمْحَاهُ لِذَنْبِ، وَاغْفِرْ لَنا ما خَفِيَ مِنْ ذُنُوبِنَا وَمَا عَلَنَ. أللَّهُمَّ اسلَخْنَا بِانْسِلاَخِ هَذَا الشَّهْرِ مِنْ خَطَايَانَا وَأَخْرِجْنَا بُخُرُوجِهِ مِنْ سَيِّئاتِنَا وَاجْعَلْنَا مِنْ أَسْعَدِ أَهْلِهِ بِهِ وَأَجْزَلِهِمْ قِسَمَاً فِيـهِ وَأَوْفَـرِهِمْ حَظّاً مِنْـهُ. أللّهُمَّ وَمَنْ رَعَى حَقّ هَذَا الشَّهْرِ حَقَّ رِعَايَتِهِ وَحَفِظَ حُرْمَتَهُ حَقَّ حِفْظِهَا وَقَامَ بِحُدُودِهِ حَقَّ قِيَامِهَا، وَأتَّقَى ذُنُوبَهُ حَقَّ تُقَاتِهَا أَوْ تَقَرَّبَ إلَيْكَ بِقُرْبَة أَوْجَبَتْ رِضَاكَ لَهُ وَعَطَفَتْ رَحْمَتَكَ عَلَيْهِ، فَهَبْ لَنَا مِثْلَهُ مِنْ وُجْدِكَ وَأَعْطِنَا أَضْعَافَهُ مِنْ فَضْلِكَ فَإنَّ فَضْلَكَ، لا يَغِيْضُ وَإنَّ خَـزَائِنَكَ لا تَنْقُصُ، بَـلْ تَفِيضُ وَإنَّ مَعَـادِنَ إحْسَانِكَ لا تَفْنَى، وَإنَّ عَطَاءَكَ لَلْعَطَآءُ الْمُهَنَّا، أللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ وَاكْتُبْ لَنَا مِثْلَ أجُورِ مَنْ صَامَهُ أَوْ تَعَبَّدَ لَكَ فِيْهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. أللَّهُمَّ إنَّا نَتُوبُ إلَيْكَ فِي يَوْمِ فِطْرِنَا الّذِي جَعَلْتَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ عِيداً وَسُـرُوراً. وَلأِهْلِ مِلَّتِكَ مَجْمَعاً وَمُحْتشداً مِنْ كُلِّ ذَنْب أَذْنَبْنَاهُ، أَوْ سُوْء أَسْلَفْنَاهُ، أَوْ خَاطِرِ شَرٍّ أَضْمَرْنَاهُ، تَوْبَةَ مَنْ لاَ يَنْطَوِيْ عَلَى رُجُوع إلَى ذَنْب وَلا يَعُودُ بَعْدَهَا فِي خَطِيئَة، تَوْبَةً نَصوحاً خَلَصَتْ مِنَ الشَّكِّ وَالارْتِيَابِ، فَتَقَبَّلْهَا مِنَّا وَارْضَ عَنَّا وَثَبِّتنَا عَلَيْهَا. أللَّهُمَّ ارْزُقْنَا خَوْفَ عِقَابِ الْوَعِيدِ، وَشَوْقَ ثَوَابِ الْمَوْعُودِ حَتّى نَجِدَ لَذَّةَ مَا نَدْعُوكَ بِهِ، وكَأْبَةَ مَا نَسْتَجِيْرُكَ مِنْهُ، وَاجْعَلْنَا عِنْدَكَ مِنَ التَّوَّابِيْنَ الَّذِينَ أَوْجَبْتَ لَهُمْ مَحَبَّتَكَ، وَقَبِلْتَ مِنْهُمْ مُرَاجَعَةَ طَاعَتِكَ، يَا أَعْدَلَ الْعَادِلِينَ. أللَّهُمَّ تَجَاوَزْ عَنْ آبآئِنَا وَأُمَّهَاتِنَا وَأَهْلِ دِيْنِنَا جَمِيعاً مَنْ سَلَفَ مِنْهُمْ وَمَنْ غَبَرَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. أللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد نَبِيِّنَا وَآلِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى مَلائِكَتِكَ الْمُقَرَّبِينَ. وَصَلِّ عَلَيْهِ وَآلِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى أَنْبِيَائِكَ الْمُرْسَلِينَ، وَصَلِّ عَلَيْهِ وَآلِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، وَأَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، صَلاَةً تَبْلُغُنَا بَرَكَتُهَا، وَيَنَالُنَا نَفْعُهَا، وَيُسْتَجَابُ لَنَا دُعَاؤُنَا، إنَّكَ أكْرَمُ مَنْ رُغِبَ إلَيْهِ وَأكْفَى مَنْ تُوُكِّلَ عَلَيْهِ وَأَعْطَى مَنْ سُئِلَ مِنْ فَضْلِهِ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ.

 

 


[1] - عرض وتلخيص: عبداللطيف شرارة، ص15.

[2] - رواه البخاري ومسلم.

[3] - نُحبُّ أن نُنوِّه هنا إلى أنّنا نتعامل مع الصوم في القرآن من خلال حالات (المنع) و(الامتناع) أيّاً كان شكلها.

[4] - فروع الكافي، ج5، كتاب الجهاد، باب وجوب الجهاد، ص3.

[5] - صحيح البخاري، ج5، ص2240، ح5672.

[6] - جامع أحاديث الشيعة، ج9، ص243.

[7] - رواه البخاري في صحيحه، ج2، ص226.

[8] - غرر الحكم/ 5874.

[9] - غرر الحكم/ 589.

[10] - ميزان الحكمة، باب الصوم.

[11] - وسائل الشيعة، ج10، ص113-114.

[12] - نهج البلاغة، قصار الحكم، 252.

[13] - السلسلة السيكولوجية، ج1، كتاب (سيطر على نفسك)، ص5-6.

[14] - المصدر نفسه، ص9.

[15] - مستدرك الوسائل، ج7، ب1، ص502، ح8744.

[16] - بحار الأنوار، 96/ 292.

[17] - أمالي الطوسي، 132/2.

[18] - نهج البلاغة، ج3، ص56.

[19] - ميزان الحكمة، محمد الري شهري، مادة (الأخوة).

[20] - وسائل الشيعة، ج10، ص313-314.

[21] - وسائل الشيعة، ج10،ص313-314.

[22] - وسائل الشيعة، ج10، ص113-114.

[23] - وسائل الشيعة، ج10، ص113-114.

[24] - كفّارة: ما يمحو به الآثم المذنب إثمه وذنبه به من (صدقة) أو (صوم) أو (إطعام مساكين) أو نحوهما، وسُمِّيت بذلك لأنها تُكفِّر الذنوب، أي تسترها.

[25] - وسميت باليمين الكاذبة بـ(الغموس) لأنّها تغمس صاحبها بالإثم.

[26] - الظّهار: قول الزوج لزوجته أنتِ عليَّ كظهر أُمّي إذا فعلتِ كذا، يريدُ بذلك منع مقاربتها أو معاشرتها جنسياً.

[27] - المستدرك، ج7، ص367.

[28] - بحار الأنوار، ج65، ص123.

ارسال التعليق

Top