• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

فن التحدث وآدابه

فن التحدث وآدابه
أُثِر عن الكاتب الفرنسي الناقد لابرويار La Bruyere قوله: "إنّ السرور الأكثر لطفاً هو أن تخلق السرور عند الآخرين"... (LE Plaisir le plus delicat est de faire celui d’autrui) ورد هذا القول عندما تكلم الأديب الفرنسي عن المحادثة بين الناس. ولا يشمل فن التحدُّث معرفة ماذا وكيف تتحدث، بل تكمن موهبة التحدُّث في فن الصمت والاستماع إلى الآخر، بحيث أنك تقيِّم كلام محدِّثك فتخلُص إلى أن تشعر بسرورٍ في نفسك ومن غيرك. مثل هذا الفن يفترض إمكانية ضبط النفس واحترام الآخرين والاستخدام الصحيح للغة المعبِّرة. وإذا ما تمّ التمرُّس بكل هذه الأمور فلا يجوز الاستطراد في الحديث دون أن تُعطي المخاطب فرصة الكلام. فالمحادثة تقوم على مبدأ الأخذ والعطاء، ولا يجوز التكلم بصوتٍ عالٍ، أو بنزقٍ وعصبيةٍ، أو أن تتحدَّث والطعام في فمك أو وأنت تمضغ علكة، ولكي يكون حديثك معبِّراً وصادقاً يجب أن تشعر بما تقول، فإذا كان هذا التجانس صادقاً وقعت كلماتك في النفوس موقعاً حسناً وأثّرت في أفراد مجتمعك ومحيطك التأثير الذي تبغيه.   1- الصوت: إنّ جمال الصوت ساحر خلّاب يستطيع أن يمحو الكثير من التكلُّف. فإذا كان من الصعب تحديد هذا الجمال فيمكننا أن نعرف ما يهدمه: الفظاظة والتكلُّف والتصنُّع في الحديث. أينما كنت، استخدم لهجتك التي تعوّدتها... ولا تستخدم لهجة أي بلدٍ آخر. أو إذا تكلمت فشدِّد على بعض المقاطع من الكلمات وخفِّف في بعضها الآخر... من هنا نجد أن هناك بعض التعابير التي يمكن أن يتقبّلها المستمع وبعض التعابير تكون مستبعدة. وسنقترح بعضاً من هذه التعابير:   لا تقل قل صباح الخير سيداتي ساداتي صباح الخير سادتي صباح الخير سيدتي الأميرة صباح الخير سيدتي إلى اللقاء سيداتي إلى اللقاء سيدتي (لكل واحدة منهنّ) أورفوار إلى اللقاء سيدتي كيف حال سيدتك؟ كيف حال السيدة كريم. أو كيف حال ليلى؟ (إذا كان الجو ودياً) قل صباح الخير إلى الذي عندك انقل تحيتي إلى زوجتك السيد كريم وسيدته السيد كريم وزوجته أنا وزوجي زوجي وأنا باي مامي مع السلامة أمي متى نأكل؟ في أية ساعة نتناول الغداء أو... ماذا نأكل؟ ماذا يوجد كي نأكل؟ فستان كامل بذلة هل تعرفني؟ هل تتذكرني؟ الموسيقى الكبرى الموسيقى الكلاسيكية اقترب لتناول المقبلات اقترب وتناول شيئاً نتشرَّف صباح الخير سيدي أو صباح الخير سيدتي أهلاً وسهلاً نتشرَّف بمعرفتك أعتذر أعذرني أتسمح اسمح لي أقرأ على الجريدة أقرأ في الجريدة إنّه غاضب بي إنه غاضب مني لذيذ أو ما ألذه (عن شخص) إنّه جذاب، كم هو جذاب... عظيم إنّه يقول الحقيقة تحفة إنّه ثمين وجميل للغاية بشرفي (بقصد التأكيد على أمر) صدقني   لا تقسم بالإيمان والأنبياء والرسل، بل تعوّد أن تكون صادقاً مع نفسك فيصدّقك الناس دون الاستعانة بالقسم.   2- التسامح والتساهل: هناك أيضاً تعابير يمكن التساهل فيها وتعابير أخرى من غير الممكن أن نتسامح فيها، لذا يجب ضبط الكلمات ومعانيها كي تأتي التعابير واضحة ومعبرة، لأن كل مخالف للأصول يجعل صاحبه غير مسؤول... والأمثلة كثيرة على ذلك في كل اللغات العربية والاجنبية.   3- صلات وألفاظ مترابطة: يأتي الكلام غير ملائم وغير مباشر وغير منطقي إن لم يكن فكرك مركّزاً على موضوع الحديث أو شارد الذهن. فآداب المحادثة تفرض عليك إعطاء محدثك الانتباه الكافي، خصوصاً إذا كنت تتحدَّث إلى أشخاصٍ تقابلهم للمرة الأولى أو كنت تخاطب شخصيات سياسية وحزبية أو رجال دين. كما أن بعض الألفاظ المستخدمة تؤثر في الأحاديث سلباً وإيجاباً، فبعضها لا يُنفِّر أُذن السامع في حين أنّ بعضها الآخر يستسيغُه ذوقُه وبذلك تكبر في نظره. وممّا لا شك فيه أنّ التعابير المستخدمة في كل مناسبة لها أهميتها: ففي مناسبات الحزن مثلاً لا نستعمل إلا كلمات المؤاساة (رحمه الله، لكم من بعده طول البقاء...) وفي المناسبات السعيدة نستعمل كلمات التهنئة (حياة سعيدة، مولود جديد: الله يمنحه العمر الطويل...) وأي كلامٍ غير متوافق مع المناسبة يكون منافياً للذوق واللياقة وحُسن الآداب... لا يجوز مثلاً أن تسرد النكات في المناسبات المحزنة أو أن تتحدث عن الكوارث والأمراض في المناسبات السعيدة، ومن غير اللائق أن تسأل المريض عن مرضه، أو الأم الثكلى عن سبب وفاة ابنها، أو الزوجين المطلّقين عن سبب طلاقهما، ومن غير اللائق التحدُّث إلى الجارة الجديدة عن مشاكلك مع زوجكِ، ولا التفاخر بالأصل أو بمنجزات الأعمال، كما لا يجوز أن تلقي النكات بصوتٍ عال خصوصاً إذا كانت الزيارة رسمية. ليس من اللائق مقاطعة المحدِّث، ولا أن تكذبه إذا شعرت أنّه على خطأ، بل يمكنك القول "اعتقد أنّ الأمر كذا وكذا" أو "حسب رأيي أنّ الأمر كذا وكذا" ولا يجوز أن تقول: "إن ما تقوله غير صحيح" أو "هذا كذب وافتراء". إذا كان أحدهم يروي قصة أو واقعة وأنت تعرفها فلا تقاطعه لتسبقه في الحديث وتعلن الخاتمة. إذا استخدم أحدهم كلمات وتعابير غير صحيحة، فلا تصحِّح ما يقوله بطريقةٍ مباشرة بل حاول أن تستعمل الكلمات نفسها بشكلها الصحيح في خلال حديثك معه، وعندها يدرك هو الخطأ بنفسه دون أن تحرجه أو تجرح شعوره. إنّ أشد ما يزعج ويضايق الإنسان هو همسك الخافت مع جارٍ لك في أثناء زيارة رسمية أو حفلة عامّة، فتصغي إلى ذلك الثرثار الذي يعزلك عن جمهور الجفلة أو الزيارة فيضرُ بك كثيراً تجاه الآخرين، وربما يكون هو معروفاً بهذه المواقف... وتخيّل انطباع الناس عنك إذا تخلَّل همسكما الضحك. وهذا ينطبق على الناس الذين يرطنون لغة اجنبية يجهلها من يصحبك أو يحادثك، فتكون بذلك قد أسأت إلى سلوكك الحسن وسقطت في نظر المستمعين. لا يجوز طرح أسئلة شخصية، كأن تسأل أحدهم عن دخله الشهري أو عن إيجار بيته، أو ثمن سلعة اشتراها... هنا يجب أن يتهرَّب صاحب "الذوق السليم" بطريقةٍ لبقة دون أن يظهر لمحدثه أنّه يخفي الحقيقة مثلاً: ما ثمن القميص الذي ترتديه؟ بإمكانك الإجابة: أكثر من عشرة آلاف ل. ل. أو أقل من مئة ألف... وكذلك بالنسبة إلى السؤال عن السن ولا بأس من قول الحقيقة.   4- الحديث المناسب، سبيلك إلى النجاح: تختلف طرق المحادثة بين البشر وفقاً لاختلاف نفسياتهم وشخصياتهم، وقد قيل "كلامنا يدل على نفسيتنا". ولكل نوع من المحادثة قواعده، فحديث اجتماع أصحاب المهنة نفسها يغر حديث الثنائي عن الحب وغير حديث "الصالونات". المحادثة فن من فنون المجتمع، وتبادل الحديث يؤدي إلى السعادة أو إلى الانزعاج في الاستقبالات والزيارات والولائم. فهي تتطلب رقة وتسامحاً وضبطاً للنفس، كما تتطلب عفوية وإخلاصاً: فالمحادثة هي توازن صعب بين قصد عادي لا شخصي وحيوية اللهجة التي تؤدي إلى ما هو طبيعي. لذا نجد أنّ التحدّث هذا يختلف باختلاف طباع الناس وشخصية كل فرد. وهنا يجب علينا أن نعرف أنّ الناس مصنّفون حسب علماء النفس إلى: أ- الشخص العدواني Agressif: وهو الذي يتحدّث وكأنّه يُعطي الأوامر في معسكرٍ للجيش. كلماته جافة وجازمة. ب- الشخص المخادع: يقدِّم لك كلاماً معسولاً منمّقاً لكن معانيه مبطنة، فهو يدور حول الضحية كالحية. وهو الذي يقول فيه الشاعر: يُعطيك من طرف اللسان حلاوة **** ويروغ منك كما يروغ الثعلبُ ج- الشخص المتسامح: وهو الذي يجاريك في الحديث مهما كان نوعه واتجاهه لكسب ثقتك. لكنه لا ينفِّذ إلا الرأي الصواب الذي اقتنع به. د- الشخص الصامت: يبتعد عن الاشتراك في الأحاديث، فهو يحيِّر المستمعين والمتحدثين بصمته... هـ- الشخص المقنَّع: يتحدّث للتضليل، فلا تعرف المقصود من حديثه مما يجعلك في حيرةٍ تعجز فيها عن الإجابة. فن الاستماع = صمت + انتباه. لا يجوز التظاهر بأنك تستمع إلى محدِّثك، بل ينبغي ارتباط السمع بفن الانتباه إلى ما يقوله، فهنا تكمن النقطة الأساسية في الحديث اللبق الناجح، إذ إنّ الانتباه يعني الموافقة على ما أورده المحدِّث. وخلاصة القول إنّ كل نجاح يرتبط بمعرفة الإنسان لنفسه بعد كل سلوك، على أن يسعى إلى تحسين هذا السلوك بعد كل خطأ. التحدّث في خلال حفلة غداء: على ربِّ البيت أن يلعب دور رئيس الفرقة الموسيقية (المايسترو) في توافق الأصوات وتناغمها، فهو يسعى إلى وضع المحادثة بشكلٍ عام على أرضيةٍ عامة كي يستطيع كل مدعو المشاركة فيها، وإذا كان هناك أشخاص مميّزون فعليه إعلام المدعوين بذلك. يبرز أحياناً بين المدعوين محدِّثٌ لامع فيشكل ذلك ضربة حظٍّ لرب البيت، فهو يعمل للمحافظة على نمطٍ معين من الحديث يديره ويوزّعه، يستقبله وينوِّعه. وفي أوضاعٍ أخرى، يتوجّه كل مدعو إلى جاره بالحديث يميناً أو يساراً دون إهمال احدهما على حساب الآخر. وفي حال كانت الطاولة كبيرة جدّاً فلا يجوز التحدث من طرفٍ إلى خر، ولا يجوز أن تقطع حديثاً يدور بين اثنين. قد تصبح المحادثة حيوية وحادّة دون أن يكون القصد عدوانياً فلا يجوز معارضة الذي سبقك في الحديث ولو كان رأيك مخالفاً لرأيه، بل يجب إظهار ذلك بلطف مع الابتعاد عن الكلمات النابية مثل: هذا خطأ، أو هذا كذب، أو إنك تتكلّم ضد الحقيقة.. إلخ. فهناك أساليب للمعارضة على المائدة، كما أنّ هناك حدوداً للمخالفة المنهجية، وللضحك والغضب والمزاج والأحاديث الفكرية حدود لا يجوز تجاوزها أيضاً. على الصغير أو الفتى ترك الحديث لمن هو أكبر منه، أو لمن هم أكثر منه علماً. في حفلة "كوكتيل"، إذ انضم شخص إلى مجموعتك فقدِّمه أوّلاً إلى محدثيك وعرّفه باختصار على الأشخاص وأجواء الحديث الذي يجري. لا تنضم إلى مجموعة أو ثلّة يجري بين أعضائها حديث حاد، وإنّما انتظر قليلاً كي يُفسح لك في المجال. على ربة البيت أن يكون بإمكانها الانتقال من ثلةٍ إلى أخرى كي تحمل الأشخاص "المنعزلين" على المشاركة في الأحاديث. إذا كنت ضجراً بحديث شخصٍ أثقل عليك، فلا تلتفت يميناً أو شمالاً بل انتظر قليلاً، ثمّ أوضح بكل عزم إلى محدثك أنّه عليك التحدُّث إلى شخص آخر وأنك تأسف لتركه الآن. تجنّب الحديث إلى شخصٍ يضع نظارات سوداء على عينيه، لأنّ عليك أن تعرف كيف يتجه نظره والعكس صحيح. بشكلٍ عام يفترض أن يكون رب البيت ملمّاً بالعديد من المواضيع العامة ليسعى إلى أن تتناولها الأحاديث في الحفلة العامة، فمن غير الممكن أن يكون مدركاً لكل اتجاهات وميول الحاضرين، مثل الحياة الثقافية في البلد أو في العالم، أو موضوع الأسفار والرحلات إلى بلدان العالم... إلخ. قد يساعد على تنويع الحديث الأشخاص الذين يتكلمون عن حياتهم المهنية شرط ألا يتورطوا في تفسيراتٍ معقدة غير مفهومة من قبل الجميع. فالذوق السليم يقضي بألا تأتي في الأحاديث على ذكر مشاكل علاقاتك وثروتك ومشاكل مسؤولياتك المهنية... إلخ. إذا وقعت في زلّةٍ أو خطإٍ واضح فيجب أن تكون عندك الجرأة والشجاعة للانتقال إلى موضوع آخر بدل أن تبحث عن طريقة لإصلاح الخطأ، وإذا كان الأمر أو الخطأ جليّاً فاعتذر عنه ثمّ حاول أن تظهر وكأن ذلك صدر عنك عفوياً عن غير قصد وبدون سوء نية. إذا أهانت الزلة بعض الأشخاص الموجويدن فيجب أن يعتذر صاحبها فوراً، ثمّ يقوم رب البيت أو أحد المدعوين قائلاً: "أنا أعرف السيّد.. لم يكن يقصد جرح شعورك، فنيّته سليمة..." ثمّ يعمد إلى تغيير الموضوع وتسير المناقشات والأحاديث بشكلٍ طبيعي.   5- المجاملة والثناء: قيل: "أحِبَّ من ينصحك وليس من يمدحك". فالمجاملة عبر بعض المديح الخفيف تشكل جزءاً من الحياة الاجتماعية وهي أمرٌ طبيعي في فن التحدُّث. شرط ألا تصبح متكررة مملّة. فجامل سيدة منزل استقبلتك بترحابٍ على مائدتها، وقُل مثلاً: "إنّ منزلكِ رائع الترتيب بحيث يوحي بأجواءٍ حلوة". "يا له من كنار حسن الصوت". ويستطيع رجل أن يثني على قامة امرأة أو جمالها كأن يقول مثلاً: "لقد كنتِ جميلة جدّاً حتى أنني لم أعرفكِ". - لا تجعل الثناء مبتذلاً لأنّه يحقرك أنت. - لا ترفض مجاملة، بل اقبلها بكل بساطة، وقابل بمثلها إذا استطعت إلى ذلك فوراً. - لا تكن مغفَّلاً تجاه المجاملات، فإذا شعرت أن محدِّثك "يزيدها" قليلاً: فقم بحركة مكرٍ توجهها إليه وأنت تَشكره، كأن تقول له مثلاً: "أتمنى كثيراً أن أكون كما تعتقد...".   المصدر: كتاب آداب السلوك

ارسال التعليق

Top