◄لا يخلو بيت من خلافات بين أفراده، حتى في أشكالها الحميدة التي هي من باب الدفع الذي لا تنمو الحياة إلا به. وعلى رأس هذا البيت قطباه: الأب والأُم. وهما بإعتبارهما بشراً، ولكل واحد منهما شخصيته وثقافته التي قدم منها وشكّلت عاداته وخلفياته، من حق كل منهما أن يعبر عن نفسه وإن أفرز هذا التعبير إختلافات قد تصل إلى حدِّ المشاجرات والمشاحنات. قد يمضي الحال مقبولاً لو كنّا نتكلّم عن مجرد رجل وإمرأة، لكن حين يرتبط الأمر بوظيفة إجتماعية، بإعتبارهما عاملين في مؤسسة أسرية، فإنّ الوضع يحتاج إلى وقفة. فوجود أي مشكلة بينهما يشعر الأبناء بالخطر والقلق والتوتر، ويقلق من إحساسهم بالإطمئنان.
- المنع أو الحجب
من الغريب أنّ الخلاف الصامت، الذي يحاول الوالدان إخفاءه ظاهرياً عن الأبناء، أشدُّ تأثيراً عليهم من الخلاف الصاخب. فقد عزت بعض الدراسات العلمية الحديثة أحد أسباب الربو في سنوات الطفولة الأُولى إلى الخلاف المكتوب بين الأبوين، الذي يستشعره الطفل، وإن كان خافياً.
وعلى الجانب الآخر، فالطفل الذي ينشأ في كنف والدين يبدو أنّهما غاية في الإتفاق – أو هكذا يمثلان أمامه – ينقص تربيته جانب كبير يحتاجه لمواجهة الحياة الحقيقية بمكوناتها. فالطفل لابدّ أن يعرف أنّ هناك غضباً يحتاج للتنفيس أو التعبير عنه. وأنّ هناك إنفعالات ثائرة تحتاج إلى التعبير، بشكل لا يتجاوز الحدود.
وبما أنّ منع الخلافات مناف للطبيعة البشرية، والحياة بما تحمله من إحتكاكات يومية لا تخلو من إختلافات في وجهات النظر، تجعل من الصعب – إن لم يكن من المستحيل – منعها، يجب إيجاد أسلوب للتفاهم، لا يقلل فقط من أثر تلك الخلافات على الأبناء، بل يتجاوزه إلى تدريبهم على فن إدارة الخلافات في حياتهم بشكل عام.
إنّ الحل يكمن في أن يحيا الوالدان الحياة على طبيعتها دون أن يكبتا نفسيهما أو يضيعا حقوقهما أو حقوق أطفالهما، ويجب أن نتعلّم كلنا فنون إدارة تفاصيل الحياة، فكما أنّ الطفل بحاجة لتماسك العلاقة بين والديه وإلى إنسجامهما في مواجهة مسؤوليات الحياة، فهو بحاجة أيضاً إلى حنكة والديه في إدارة الخلافات الأسرية بينهما، بما يعني موازنة ضبط الأمر وبين إشعاره بالأمان والإستقرار والتماسك.
فالطفل يتعلّم، مما يشهده من الإدارة الذكيّة لخلافات والديه، أنّ مشاعر الغضب مسموح بها ما لم ترتبط بفعل ضار، كما أنّه يتعلّم أنّ الإختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية.
- ضوابط إدارة الخلافات
على الوالدين أن يتعلّما مع أطفالهما ضوابط إدارة الخلافات الزوجية، بما يعطي الجميع المثل لتنظيم إنفعالاتهم، وهذه الضوابط هي:
أوّلاً: لابدّ من تجنُّب الإهانات تماماً، باللفظ أو الفعل أو الإشارة، فتلك الإهانات تصيب الحالة العاطفية للطرف المهان بنوع من الشروخ يصعب إصلاحها، فضلاً عمّا يصل للطفل من مشاعر تدمر إطمئنانه لزمن بعيد. كما يستمر إحساس الطرف المهان بالعار والخجل مما لا يمكن إزالة آثاره لوقت طويل.
ثانياً: لابدّ من السيطرة على الإنفعالات في موقف الغضب كي لا تفلت، مع تأجيل المناقشة في الأُمور التي يجب ألا يسمعها الأطفال إلى الوقت والمكان المناسبين.
ثالثاً: تأجيل المناقشات أحياناً لا يلغي ضرورة تجنّب إصدار الهمهمات والغمغمات الساخطة، لأنّها تثير شكوك الطفل وقلقه وتوقعه في كوارث.
رابعاً: لابدّ من إفهام الطفل أنّ الخلاف مسألة عرضية وطبيعية وتذوب بسرعة، والأصل هو الحب والعلاقة القوية بين الوالدين، وأنّهما يحبان بعضهما، ويحترم كل منهما الآخر ويخشى عليه من كل سوء، وأن كل مشكلة لها حل.
خامساً: ينبغي ألا يسمع الطفل أصوات الصراخ والغضب – إن كان لابدّ منها – من خلف الباب المغلق، بل يفضل أن تكون المناقشة في وجود الطفل، أو على الأقل بلا مؤثرات صوتية خلف الأبواب المغلقة.
سادساً: بدلاً من الصراخ الأعمى حبذا لو استطاع أحد الوالدين المبادرة بتغيير جو الخلاف بإقتراح تغيير الحالة، كالخروج في نزهة، أو ممارسة لعبة، أو تناول أكلة تهدئ وتلطف الأجواء، أو إنهاء الخلاف سريعاً للتقليل من شعور الطفل بألم الخلاف.
سابعاً: لا داعي لأن يلعب أحد الوالدين دور الإنسان المغلوب على أمره، لكي لا يمتلئ الطفل قلقاً وضيقاً نحو واحد من إثنين يراهما أعزّ الناس عليه، ويتحوّل إلى مستغل لهذه الحالة لمناصرة أحد الأطراف للحصول على مغانم خاصة به.
ثامناً: يجب ألا يتحوّل الآباء لمفسِّرين لسلوكهم بإستمرار، ويتحوّل الأبناء إلى قضاة، بل يفضل تقليل الخلافات قدر المستطاع.
ولا شك أنّ المرونة مطلوبة لحياة أكثر إشراقاً، وصاحب مبادرة الحل وعلاج الخلاف ليس الطرف الخاسر بأي حال، بل هو صاحب الفضل!►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق