◄إنّ الصوم يسهم في صناعة الفرد، كما يسهم في صناعة المجتمع.. فالمجتمع الصائم، والذي تربّى على ثقافة الصيام، ومارس هذه العبادة، هو لا كأيِّ مجتمع.. هو مجتمع بالغ، مسؤول، متقدّم، واعٍ، تتجلّى فيه كلّ مظاهر الكمال والجمال، كذا الفرد الصائم، فردٌ لا كأيِّ آخر، بل يتميّز بالقوّة، والعزم، والصلابة، والمسؤولية، والالتزام، والإطاعة، والانقياد... إلخ. ومن هنا تجدر متابعة هذا البحث بالتفصيل:
للصوم آثار مهمّة وبالغة على المستوى الفردي على النحو التالي:
أ) الصبر، والتحرر من القيود والهوى، والإخلاص، وبعث العقول... إلخ، هي لا شكّ من مؤثرات الصيام على الأفراد؛ ولكن بشرط أن يتحقّق الصيام بمعناه الحقيقي، وبشكله الجوهري، من الإمساك عن المفطرات، مضافاً إلى التورع عن المحرمات، إلى الانشغال عن كلّ ما سوى الله تعالى.
ب) يقوي العزيمة والإرادة في الإنسان، ويجعله أشدُّ عزماً في الإقدام على المهمات الكبرى والمواقف الحساسة والصلبة، وكذلك يجعله أشدُّ إصراراً وثباتاً في مواجهة التحدّيات والتهديدات والإغراءات والشهوات والأهواء، فإنّ عبداً يمكث الساعات الطويلة – وقد يكون الفصل صيفاً – صابراً عن الاستفادة من ملذات الحياة المتوفرة أمامه مع وجود الكثير من المغريات والفتن ووساوس الشيطان، إنّما هو تهذيب للنفس عن الخوض فيما حرَّمه الله سبحانه وتربية للذات في طاعة الله والالتزام بأوامره، ولا شكّ أنّه بالمصابرة مع نفسه على هذه الحال شهراً كاملاً يصبح الصبر لديه طبعاً راسخاً وخلقاً أصيلاً ومَلكة الصبر هي أُمّ المَلكات الأخلاقية فلا يقوى على المثابرة والكفاح في الحياة إلّا صابر، ولا يغالب الأيّام إلّا صابر، ولا يصل إلى الحقائق العلمية إلّا صابر، ولا يستطيع كشف أسرار الوجود بالبحث والتفكير إلّا صابر، ولا يجود بماله ونفسه إلّا صابر.. عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع): «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد».
ت) يجعله أكثر تبصُّراً في الأُمور: إنّ تقوية جنبة الولاية الإلهيّة، الحاصلة من خلال الانقياد المتواصل والطاعة لأوامر المولى الحقّ، والعزوف عن الهوى، والشهوة واتّباع الأنا، كلّ ذلك يجعل الإنسان بصيراً في رؤية وفهم الأُمور، لأنّه في كثير من الأحيان يُشكِّل الفسوق والعصيان واتباع الهوى غشاوةً وحجاباً على وجه الحقيقة، فلا يرى المرء الأُمور على حقائقها حتى ينزع عن نفسه رداء الفسوق والعصيان واتباع الأهواء، قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ) (البقرة/ 11-13)، فإنّ هؤلاء المنافقين الذين هذا حالهم، إنّما بلغوا هذه الدرجة من فهم الحقائق والوقائع على النحو المقلوب والمعكوس لتماديهم في غيّهم ونفاقهم، ولشدّة عصيانهم.
قال تعالى في وصف هؤلاء: (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) (البقرة/ 15-16).
ولا يقتصر الأمر في الصيام الحقيقي، بما يعنيه من متابعة الحقّ ومخالفة الهوى، على إدراك الحقائق والواقعيات على ما هي عليه، بل يعتبر الصوم الذي هذا وصفه عاملاً أساسياً في الحكم على الأُمور ومتابعتها ومعالجة المشاكل ومقاومة التحدّيات على النحو المطلوب واللائق، فإنّ الكثير من الناس، بل أكثرهم، يعلمون الحقّ ولا يتبعونه، انصياعاً منهم لدعوات أهوائهم، وانسياقاً منهم وراء شهواتهم ولذّاتهم، لذا فإنّ الموقف الوحيد الذي يتّخذه أصحاب الأهواء، وأهل النفاق، في مواجهة الفرائض الإلهيّة والتشريعات هو التفلت من كلّ التزام والتحرّر من كلّ قيد ووثاق، إلّا إذا كان التحدّي يستهدف دنياهم المنحطة، ومتاعهم الغرور فعندها ينبرون لمواجهتها بكلّ عزم وقوّة.
قال تعالى حول ظاهرة عدم اتباع الحق، رغم معرفته: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (النمل/ 14)، فإنّ عدم اتّباعهم الحقّ ليس ناشئاً عن الجهل، إذ هم موقنون بالحقّ والحقيقة؛ لكن منشؤه أمر آخر نفسي داخلي، وهو الظلم والعلوّ، فإنّهم كانوا يرون أنّ العلو في الأرض والرئاسة لا تتيسّر لهم بالانقياد لتعاليم الدِّين الجديد واتّباعه، وإنّما بالبقاء على جاهليتهم السوداء، وسلوكياتهم المنحرفة وعقائدهم المشوهة.
قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) (البقرة/ 87).
يلاحظ هنا أنّ الآية ذكرت الدافع للاستكبار، وهو كون رسالات الأنبياء لا تتلاءم مع ما تهوى الأنفُس.
وقال: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ) (البقرة/ 89-90).
والواضح من الآية أنّ الجهل لم يكن المانع من الإيمان هنا؛ ولكن البغي.
ث) يجعله أكثر انقياداً لله تعالى، وإطاعة للتكليف، فالامتناع عمّا نهى الله تعالى عنه في شهر الصيام، يجعل الإنسان أقدر على الامتناع عمّا نهى الله تعالى عنه في سائر الأيّام والشهور، إذ المنهيّ عنه في شهر رمضان هو أُمور قد أحلّت لنا في سائر الأزمنة، فيكون امتثالنا لأمر المولى وكفّنا عمّا نهى الله عنه في هذا الشهر، مزوّداً لنا بمزيد من القدرة والقوّة على امتثال سائر التكاليف والأوامر والنواهي.
ويمكن تلخيص هذه الفكرة بالعبارة التالية: مَن كان قادراً بعون المولى الحقّ على إطاعة الأوامر والنواهي الصادرة إليه في شهر رمضان، هو أقدر على امتثال أوامر الحقّ جلّ وعلا في سائر الأيّام والشهور.
ج) يفكّ النفس من أسر الذنوب والمعاصي، هذا بلحاظ أنّ الصوم يفك رقبة الصائم من الرقية والعبودية للهوى والشهوة، اللذين هما الأساس في اقتراف المعاصي، فتحرره منهما يعينه على التحرر من الذنوب عامّة.
ولهذا نجد التأكيد الشديد في الروايات على الاستغفار في شهر رمضان، لكون الشهر الفضيل من الفرص الإلهيّة التي ينبغي اغتنامها، والاستفادة منها في التوبة من الذنوب والرجوع إلى ساحة الحبيب، فإنّه شهر لا كسائر الشهور وفيه ليلة القدر وفيه يبسط الله رحمته على العباد ويتجاوز ويعتق، ولا ينبغي للعبد الآبق أن يُضيِّع فرصة كهذه.. ولكون الاستغفار من الأعمال المفيدة جدّاً في الإقلاع عن الذنب والتورُّع عنه وفي الرجوع والأوبة إلى الكريم المطلق، قال رسول الله (ص): «أيُّها الناس! إنّ أنفُسكم مرهونة بأعمالكم ففكوها باستغفاركم».
وهنا يتعيّن ذكر كلمة للمحدث الشيخ عباس القمّي (رحمه الله) يتحدّث فيها عن فضل الاستغفار في شهر رمضان، وعتق الرقاب فيه، فيقول عقيب خطبة الرسول (ص): «وإيّاك وأن تكون في ليلتك من النائمين وفي نهارك من الغافلين عن ذكر ربّك، ففي الحيدث أنّ الله عزّوجلّ يعتق في آخر كلّ يوم من أيّام شهر رمضان عند الإفطار ألفَ ألفَ رقبة من النار، فإذا كانت ليلة الجمعة ونهارها أعتق الله من النار في كلّ ساعة ألفَ ألفَ رقبة ممّن قد استوجب العذاب ويعتق في الليلة الأخيرة من الشهر ونهارها بعدد جميع مَن أعتق في الشهر كلّه، فإيّاك يا أيّها العزيز وأن ينقضي عنك شهر رمضان وقد بقي عليك ذنب من الذنوب، وإيّاك أن تعد من المذنبين المحرومين من الاستغفار والدُّعاء، فعن الصادق (ع) أنّه مَن لم يُغفر له في شهر رمضان لم يُغفر له إلى قابل إلّا أن يشهد عرفة».
ح) يساعد على حل المشكلات والصعاب، قال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة/ 45)، وقد فُسِّر الصبر في الروايات بالصوم، فعن عبدالله بن طلحة، عن أبي عبدالله (ع) في قوله تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)، قال: الصبر هو الصوم، وعن سليمان الفرا، عن أبي الحسن (ع) في قول الله: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)، قال: الصبر الصوم إذا نزلت بالرجل الشدّة أو النازلة فليصم، قال: الله يقول: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) الصبر الصوم.
ولعلّ ذلك من جهة أنّ الصوم قوامه وحقيقته وجوهره الصبر، بل الغاية منه صنعُ الشخصية القوية الصابرة، والصبر يعدّ أقوى سلاح في مواجهة المصائب والتحدّيات.
خ) يجعله أكثر إقبالاً على العبادة: فالصوم حيث يؤدِّي إلى إطفاء نار الشهوة، فهو يحدث في النفس حالة السكينة والطمأنينة، إذ النفس إنّما يحصل لها الصفاء الروحي والطهارة المعنوية عندما تتخلّص من أسر الهوى وقيود الشهوة، وبالقدر الذي تصبح فيه النفس خالية منهما تصبح النفس أكثر إشراقاً وسطوعاً ونوراً – اللّهُمّ إلّا الشهوة التي يتوقّف عليها حفظ النوع من التكاثر والتناكح والتناسل عن طريق الشرع الحنيف، فإنّها ممّا ندب إليه الدِّين الحنيف – ، قال الإمام الباقر (ع): «الصيام والحجّ تسكين القلوب».
ولا شكّ أنّ السكينة والطمأنينة تحققان في النفس روحية الخضوع والخشوع اللذين هما امران مطلوبان في العبادات كلّها، وأهمّها الصلاة، فالصائم الذي يتحلّى بروحية الخشوع سيكون أكثر إقبالاً على الصلاة والعبادات عامّة، لأنّه سوف يشعربلذّة التوجّه إلى الله تعالى، يقول الإمام زين العابدين (ع): «إلهيّ مَن ذا الذي ذاق حلاوة محبّتك فرام منك بدلاً ومَن ذا الذي أنِسَ بقربك فابتغى عنك حِوَلاً».
هذه جملة من مؤثرات الصيام على المستوى الفردي؛ ولكن كما تقدّم، شريطة أي يتحقّق الصائم بجوهر الصيام من التورع عمّا حرّم الله لا أن يتلبَّس بظاهره فقط.►
المصدر: كتاب رحلةٌ في أعماق الصوم.. بيان آداب الصوم المعنوية والاجتماعية
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق