◄يعطي الأطباء، منذ عدّة سنوات، أهميّة خاصة لإضطرابات السلوك الغذائي لدى المراهق، في حين يبقى أطفال مابين 6 و21 سنة بعيدين عن مثل هذا الإهتمام، مع العلم بأنّ هذه المرحلة من الحياة (أي مرحلة الكمون حسب التحليل النفسي) لا توفِّرها الخصوصيات الغذائية المتزايدة الأهميّة وبشكل ثابت في المجتمعات المعاصرة.
لذا، سنحاول إلقاء بعض الضوء على هذه المرحلة (6 – 12 سنة): لقد تبيّن أنّ هناك، خلال السنوات الأولى من الحياة، مابين 1 و2 في المائة من الأطفال – الفتية يعانون ما قد يُسمّى (إضطرابات السلوك الغذائي): 70 في المائة من هذه الإضطرابات تستمر حتى العمر المدرسي. وفي العمر المدرسي، نسبة إنتشار هذه الحالات غير معروفة، كل ما هو معروف أنّ 16 في المائة من الأطفال الفرنسيين مثلاً، هم بدينون وأنّ فقد الشهية العصبي يصيب كإضطراب فتاة من كل مائة أنثى.
وكما قيل، الجميع يعرفون أنّ المراهقين، فتيات أو فتياناً، قد يعانون فقد الشهية العصبي، لكن قلة هم مَن يعرفون أنّ الأطفال الصغار قد يعانون، هم أيضاً، هذا الإضطراب. في مجتمعنا، حين لا نحب صورة جسدنا، تقوم الفتيات بعمليات حمية، في حين يمارس الصبيان الرياضة بشكل مفرط، وهذه الحمية تقود عدداً قليلاً جداً من الفتيات بإتجاه النحافة فلا يتوقفن، من ثمّ، عند ذلك، والرياضة قد تقود عدداً أقل من الصبيان إلى الحمية فلا يتوقفون، من ثمّ، عند ذلك: (نسبة الذكور/ الإناث = ذكر على 3 إناث".
- أهميّة مرحلة البلوغ (10 – 12 سنة) من حيث الإصابة بإضطراب سلوكي غذائي معين:
تفصل مرحلة البلوغ بين الطفولة والمراهقة، وهي في غاية الأهميّة نظراً للإنتكاسات السلبية التي قد تتركها عند الراشد. فالبلوغ هو ولادة جديدة ويُعايش غالباً بصعوبة زائدة نظراً لتحول الجسم خلال بضعة أشهر، حيث يكون التحول غير معكوس، غير قابل للضبط ويترافق بشكل متواتر مع زيادة في الوزن، مع تزايد سريع على مستوى الفخذين بالمقارنة مع النصف الأعلى من الجسم أو مع ظهور مشكلات على مستوى الجلد كحب الشباب، في حين لم يحقق الجسم، بعد، الأبعاد التي تميِّزه في سن الرشد. وبالتالي، يصبح النظر في المرآة أحياناً بمنزلة عقاب للفرد خلال هذه الفترة. وكما قيل، قد يُشكِّل البلوغ عامل خطر بالنسبة لنشوء إضطراب الغذاء.
لكنّ الوضعية ليست على هذه الدرجة المرتفعة من المأساوية، كما قد يُعتقد. فالصعوبة تكمن في تكيُّف الفرد مع جسده الجديد وفي معرفةكيف يحمله كما يحمل كساء، لأن مركز الثقل قد تغير مكانه. فمع الثديين مثلاً، تحس الفتاة البالغة بأنّها أثقل وزناً، لذا ستجد لذة في الإعتناء بجسدها وبتقييمه إن توقفت عن إعتبار نفسها زائرة عليه.
ليس أفضل من الأمثلة لتوضيح المقصود: سمير (6 سنوات) وُلِدَ مزاجياً، ولا يأ:ل إلا حين يرغب بذلك، سالم (11 سنة) يُتخَم بالبطاطا المقلية التي يشتريها في الخفاء من مطاعم الأكل السريع، سعاد تقارن فخذيها مع أفخاذ رفيقاتها، ماري تتسلى بإلتهام البسكويت وهي تنتظر عودة أهلها، لكن وزنها لا يزداد لأنّها تتحكّم بنفسها، بعد نوبة من الشره العصبي، فتمتنع عن الأكل خلال وجبتين متتاليتين أو تتعمد التقيؤ الذاتي، ميلاد (11 سنة) يذهب إلى مطاعم الأكل السريع، بعد المدرسة، فيلتهم سندويشاً مزدوجاً من الهبمرجر مع كمّية كبيرة من البطاطا المقلية وقنينة كبيرة من المشروبات الغازية فيزداد وزنه لأنّه لا يقوم بسلوكيات تعويضية، الأمر الذي يقود لإستشارة الإختصاصي بخصوص نوبات الشره العصبي التي يتعرّض لها بعد إخبار الشقيقة والدتهم بأمره وتأكّد هذه الأُم أنّ الإضصطراب قابل للعلاج والشفاء.
لا يزال تحديد إضطراب السلوك الغذائي بين هذه السلوكيات الغذائية المختلفة، عند الطفل، صعباً، فالشره العصبي، كإضطراب، هو حالة نادرة قبل الثالث عشرة من العمر، ونسبة فقد الشهية العصبي هي أكثر ندرة في مرحلة البلوغ من تلك الموجودة في مرحلة المراهقة، حيث السيطرة واضحة للإناث (إصابة ذكر على 9 فتيات). ومع ذلك، هذا الإضطراب موجود قبل سن البلوغ، حيث 20 – 30 في المائة من الحالات تخص الذكور.
ثمّ إنّ الدفعات الغذائية القهرية، الملاحظة خصوصاً عند أطفال هذه المرحلة (مابين 6 و12 سنة)، تبدو تحت أشكال متنوعة حيث الحدود بين ما هو سوي وما هو مرضي ليست واضحة. كُثُر هم الأطفال المتروكون على هواهم (يعود الأهل إلى المنزل منهكين فلا يطبخون أو نادراً ما يقومون بالطبخ، البرّاد تحت تصرف الطفل، مصروف الجيب واف وجهاز لديه...)، يأكلون البسكويت أو الشوكولا أو المقالي.. في كل وقت. أحيان، لا تتجاوز كمّية الغذاء التي يتناولونها حدّاً معيّناً، فلا تنعكس سلباً على وزن الطفل. وفي أحيان أخرى، تكون عملية التغذية فوضوية جداّ مع نتائج غاية في السلبية، وتتمثل خصوصاً بإزدياد وزن الطفل ومن ثمّ تعرّضه للبدانة أو للقيام بسلوكيات إلغائية (كعمليات التقيؤ الذاتي، الصيام، الإمتناع عن الأكفل وقعتين متتاليتين... إلخ) قد تُعرِّضه، وإن بشكل أكثر ندرة، لما يُسمّى إضطراب (فقد الشهية).
ينبغي على الخلط، هنا، بين ما يُسمّى (الجوع الشديد) الملاحظ عند بعض الأطفال الذين (لا يشبعون) كما تقول بعض الأُمّهات، وبين ما يُسمّى الدفعة الغذائية القهرية (المرضية الطابع): كمّية الغذاء (مهما بدت كبيرة) هي ضعيفة نسبياً في الحالة الأُولى، مهمة وقد تذهب إلى حدود الغثيان، النفور وطفح الكيل في الحالة الثانية، اللذة موجودة في الأولى، غائبة في الثانية، إمكان التحكُّم موجود في الأولى، غائب في الثانية، عمليات القيء موجودة فقط في الحالة الثانية.
- ظاهرة قلة الأكل.. عامل خطر يؤدِّي لإضطراب غذائي غير محددبيّنت دراسات حديثة متابعة لأطفال قليلي الأكل منذ الأشهر الأولى من الحياة أنّ هذا السلوك (قلة الأكل) هو عامل خطر يمهِّد لإصابة الطفل، في ما بعد بإضطراب السلوك الغذائي، وبشكل مواز يبدي أطفال المجتمع الحالي، منذ صغرهم، إنشغالاً ظاهراً بمظهرهم الخارجي ويعتبرون الجسد الفتي، ذا العضل، الجميل والرشيق (النحيف) مثالاً لهم، وذلك منذ السنة الثالثة أو الرابعة من عمرهم. هذا، ويبدي بعض الأطفال خشيتهم من السمنة، منذ الخامسة من عمرهم، ولا يحبون اللعب مع رفاقهم البدينين الذين يصفونهم بالكسل، بالبشاعة، بالكذب وبالغباء.
ثمّ إنّ بعض الفتيات يملن، منذ السنة العاشرة، لإعتبار بطنهنّ شديد الضخامة (البدانة)، ولدى الأطفال إنشغالات البال نفسها بالنسبة للوزن، للشكل ولمظهر الجسم الملاحظة عند الراشدين. تشكِّل كلمات (حمية، سعرات حرارية، نحافة وشكل فيزيقي) جزءاً من قاموسهم. وهم، بذلك، يتأثّرون بالبيئة المحيطة بهم بوسائل الإعلام.
خلاصة القول: لا تتوافر إضطرابات السلوك الغذائي في أطفال مابين 6 و12 سنة. وللأطباء هنا دور وقائي جوهري: عليهم السهر على عدم وصف عمليات حمية متطرِّفة، على تفسير مخاطر التقييد الغذائي على نماء الطفل للأهل وللأطفال، عدم تقييم النحافة بشكل متطرِّف، بل العمل على تعديل طلباتهم في هذا المجال. وفي كل الحالات، عليهم تشجيع العائلات للمحافظة على وجبات سارّة تتسم بالمنادمة (أي المشاركة في المرح ولذة تناول الطعام مع الآخرين)، عليهم، أيضاً، تشجيعهم على ممارسة التمارين الفيزيقية بشكل معتدل وتجنب كل إفراط، ومن المفضل تعويدهم على ممارسة نشاطات الإسترخاء.
لابدّ، قبل إنهاء حديثنا في هذا الإطار، من التنويه إلى واقع إزدياد نسبة إنتشار البدانة، وبشكل ملموس، عند أطفال هذه المرحلة (مابين 6 و12 سنة) خلال السنوات الأخيرة، وإلى ازدياد عدد البرامج المعدة للأطفال، وبشكل مواز عدد الساعات التي يقضونها أمام التلفزيون (يشاهد الأطفال المعاصرة التلفزيون أكثر من 4 ساعات في اليوم). غني عن القول، هنا، إنّ من شأن كل ذلك رفع مخاطر السمنة (البدانة) التي كشفت دراسات عدّة عن إرتباطها بشكل دال وإيجابي على عدد ساعات مشاهدة التلفزيون.
يضاف إلى ذلك، نمو الدعاية المركّزة على الأطعمة ذات النوعية الفقيرة بالضروريات الغذائية والموجهة للأطفال بشكل كبير: ألا تعزِّز هذه الرسائل كمّية إستهلاكها؟ وألعاب الفيديو تشتمل، هي الأخرى، على نشاط يساهم في خفض الوقت المخصص للنشاط الفيزيقي. من شأن مختلف الدعايات والبرامج هذه تنمية عادات غذائية مؤذية، وأحياناً نهائية، عند الطفل.
بإختصار نقول: للتلفزيون (والمقصود هنا الشاشة وألعاب الفيديو على حد سواء) تأثير مهم على نمو السمننة عند الطفل المعاصر، إن بفعل الوقت الذي يقضيه أمام الشاشة (بخاصة إن ترافق حضوره لها مع قضمه لمأكولات فقيرة غذائياً)، أو خصوصاً بفعل نوعية البرامنج المعدة له في ظل ضياع الأهل بالنسبة لدورهم وقدرتهم على تحديد الوقت الذي يقضيه أمام هذه الشاشة... إلخ.
من المنطقي، بالتالي، أن يساهم تنظيم هذه البرامج والدعايات في تحسين الرسائل الموجهة للأطفال وفي تجنّب نمو مثل هذه العادات الغذائية المؤذية، وأحياناً النهائية.
من المفضّل أيضاً، أن يمارس الأهل ضبطاً أكبر على المستويين: النوعي والكمي، للبرامج التي يشاهدها أطفالهم، وكذلك القول بالنسبة للمسؤولين الذين تقع عليهم مسؤولية ضبط البرامج الموجّهة إليهم.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق