رمت رأسها المثقل بالندم على سريرها، وأغمضت عينيها التي ترجمت ندمها على شكل دموع تجمّعت فيهما وبَدت كسد يوشك على الفيضان. تنهّدت بعمق، واستغرقت في بكاء صامت، لا شيء تفعله سوى البكاء، البكاء ولا شيء غيره، لكن ماذا يفيد البكاء؟ أنا التي أوصلت نفسي إلى هنا. الظروف لا تصنع إنساناً مهما كانت جيدة أو سيئة.
بدأت ذاكرتها تسترجع ما لم تمر به غيرها من الفتيات، أو على الأقل، ليس الكثير منهن. تذكرت أول يوم لها هنا، كانت امرأة مبتسمة تستقبلها، لم تكن ابتسامتها تنم عن رحابة صدر، أخافتها هذه الإبتسامة، وجعلت دموعها تسيل بسرعة على خديها الناعمين. كانت هذه الإبتسامة لترويضها فقط، كأنها أسد فَرّ من قفصه وجاب في الشوارع لينشر شرّه.
كانت تبكي بحرارة، ولأول مرة في حياتها وهي تغطي وجهها بيديها الصغيرتين، أبعدتهما عن وجهها بسرعة وكأنها تخاف على وجهها من نجاسة ما. "سنعمل على إصلاح كل شيء، لا تخافي، أنت في أيدٍ أمينة كل همها هو إصلاحكنّ"، قالت المشرفة النفسية. إصلاحنا؟ هذا يعني أني أصبحت معطوبة، وكل شيء معطوب لا يقبل حتى ولو أصلح، سيظل معطوباً بأعين الكثير. أخذوا منها بعض البيانات وأخبروها بشروط وقوانين الدار. هي ليست كبقية الفتيات، كلا.. لم تكن مثلهن ولن تكون في يوم من الأيام كغيرها، كانت بمثابة بستاني في مزرعة الحياة، تزرع البسمة والفرحة في كل مكان تذهب إليه، ماؤها ابتسامتها، وأسمدتها هي الكلمات الطيبة.
لم تكمل السابعة عشرة بعد، ستكملها بعد أشهر معدودة. لكنها تحمل هماً لم تحمله أمُ سهرت على طفلها المريض، ولم يحمله أب يسهر ليوفر لقمة العيش الكريمة لأطفاله، ولم يحمله مدرِّس يصحح دفاتر طلّابه في ساعات الليل الأخيرة.
إنّه همٌّ من نوع مختلف، همّ لا نهاية له، فالأُم تصبِّر نفسها متوهمة إنه سيشفى ويلعب مرة أخرى كما كان. والأب سيعود في المساء إلى المنزل ليرى أطفاله بأحسن حال فتزول عنه هموم العمل، والمدرِّس سيرى طلّابه متفوقين في شتّى المحافل يشار إليهم بالبنان، فيفخر بنفسه على هذا الإنجاز العظيم. أوَليس جميع الحكّام والقادة وكبار المسؤولين والموظفين في جميع الدوائر من تربية مثل هذا المدرِّس؟
عادت إلى غرفتها من جديد، غرفتها التي خلت إلا من سرير صغير وضع في زاويتها. ثيابها القليلة تكدست فوق بعضها البعض بطريقة منظمة، بدت وكأنها تصرخ في وجه مَن يراها بأن تسكن هذه الغرفة. كانت فتاة مثالية، وترتيبها يدل على ذلك. ما الذي أوصلها إلى هنا؟ ماذا تفعل في هذا المكان؟ ألم تكن يوماً تلك الفتاة المثالية، تلك التي يسمع اسمها يومياً في الإذاعة عند الصباح؟
دفنت رأسها في وسادتها حتى كادت تختنق، تذكرت ذلك الشاب، شاب أحبته بكل صدق وإخلاص، كان ينتظرها في بداية ونهاية كل يوم دراسي في موقف الحافلة، ويرمقها بنظرات إعجاب تخجلها. ولكنها لم تحن يوماً رأسها، أليست تلك الفتاة القوية؟ فلماذا تحني رأسها خجلاً من شاب عادي ينظر إليها بإعجاب؟ حينها، بدأت تبحث عنه كلما نزلت من الحافلة أو ركبتها من دون أن ينتبه إليها. افتقدته مرة لثلاثة أيام متواصلة لم يظهر فيها. كان تفكيرها مشغولاً به: أين ذهب؟ لماذا لم يأت؟ ربما لم يعد يحبني؟ كانت هذه التساؤلات تطرق قلبها دائماً، قلبها الذي لم يعرف من الحب إلا ما قرأته في الروايات فقط.
بعد انقطاعه، عاد ليظهر ولكن كان شكله هزيلاً، كأنه لم يذق الطعام والنوم منذ أيام. ماذا دهاه؟ نظرت إليه مُطولاً حتى انتبه إلى نظراتها، فابتسم لها ابتسامة تَعبة، بادلتها هي بابتسامة سريعة تعبِّر عن فرح شديد لم يغفل عنه الشاب واستدارت لتَركب الحافلة.
اعتادته واعتادها، تطورت علاقتها من مجرد نظرة وابتسامة إلى تحية صباحية ومسائية، ثم إلى حوارت بسيطة في موضوعات عديدة. شدتها ثقافته، لكنها صُدمت به حين طلب منها أن يقابلها في أي مكان ليتكلّما مُطولاً، من دون أن يسبب أي حرج لها.
رفضت رفضاً شديداً، قاطعته أياماً عدّة إلى أن فوجئت به يتصل على هاتفها النقّال وهو يبكي لتَصفح عنه، عزّز هذا غرورها فأبَت وهددته أن تبلغ والدها إذا عاود الاتصال.
لم ينقطع عن الحضور إلى موقف الحافلات أبداً، كان ينتبه إلى عينيها اللتين تبحثان عنه إذا وصلت إلى الموقف، أصبح الحزن من ملامحه الأساسية التي أفرحتها وعززت قوتها. فصفحت عنه بابتسامة لم تَدرِ ما كان تأثيرها فيه.
بعدها، حاول مراراً دعوتها لتخرج معه، إلى أن جاءها من نقطة ضعفها، قوتها كانت ضعفها، فهي تفعل أي شيء لتثبت قوتها واستقلاليتها.
وافقت على أن تحضر لدقائق فقط، تبعتها دقائق ثم ساعات، ازداد حبها له، أخبرت صديقتها الجديدة بالأمر، فنصحتها بألّا تضيعه من يدها بصدّها له كي لا يهجرها ويبحث عن غيرها. وعندما أدرك الشاب أنها وقعت في شباكه، سرق في غفلة منها أعز ما تملك واختفى بعدها. لم تعر أن شيئاً ما يضطرب في أحشائها، حتى فقدت الوعي يوماً في أحد المتنزهات بينما كانت تلعب لعبة خطرة. قطع سيل ذكرياتها صوت طرق على الباب، تبعه صوت المفتاح وهو يتحرك في قفل الباب، تبعه دخول المشرفة بابتسامة عريضة، سألتها ما إذا كانت تحتاج شيئاً وخرجت بهدوء كما دخلت.
ازداد بكاؤها حين تذكرت المستشفى الذي نُقلت إليه بعد أن فقدت وعيها، كانت تستلقي على السرير، عندما دخل والدها من الباب، حاولت أن تبتسم لتقول: "أنا بخير". لكن، قبل أن تبتسم، كان والدها قد غادر الغرفة بعد أن ضربها على وجهها، خنقتها دموعها، لماذا يضربني؟ دخلت أمُها وهي تبكي. ما بالهم؟ صرخت أُمها في وجهها: مَن هو النذل؟ مَن هو؟ ألهذا ربيناك وتعبنا عليك؟ تلعثمت ولم تدر ما تقولن، سألت بهدوء غامض: ماذا حدث؟ لِمَ أنا هنا؟ جاءها جواب أمُها كالصاعقة التي أحرقتها: "لماذا؟ تسألين لماذا؟ لقد سقط الجنين الذي حملته في بطنك من الكلب ابن الشارع".
حامل؟ أنا؟ عاد ذلك اليوم المشؤوم إلى ذاكرتها، لقد اعتدى عليها. نعم، لم تدر أنها حامل. بكت بكاء مُرَّاً. تم تسليمها إلى دار الرعاية الاجتماعية للفتيات من قِبَل والدها الذي لم تَره إلى اليوم.
حُكم عليها بستة أشهر في هذا السجن، مرت منها خمسة طوال، وبقي واحد أحسَّت بأنه لن يمر أبداً.
اليوم هو اليوم المنتظر، ستنتهي الأشهر الستة اليوم، أتَى والدها لتَسلّمها، قبَّلته على رأسه وهي تبكي وتتأسف له، حتى تقطعت قلوب المشرفات.
كان والدها بارداً جداً، ركبت السيارة متوجهة إلى منزلها، كانت صامتة طوال الطريق، لم تكن تعرف ماذا ستواجه الآن. عندما وصلت إلى المنزل أمسكها والدها من ذراعها بقوة أرعبتها، ومشي بسرعة إلى أن أوصلها إلى غرفة خارجية لها بابان، أحدهما إلى داخل المنزل والآخر إلى خارجه دفعها إلى تلك الغرفة، وقال لها بصوت غاضب: "هنا ستعيشين بقية أيامك السوداء، لن تَري أُمك أو أياً من إخوتك، ستحضر لك الخادمة الطعام هنا، لا تفكري في أن تطرقي الباب لتطلبي شيئاً".
لم تعرف ما تقول، هل ستمضي هنا بقية أيام حياتها؟ وأُمها، هل ستحرم من حضنها الدافئ أيضاً؟ صرخت بصوت يخنقه البكاء: "والله تَغيّرت، لست أنا مَن كنت هنا قبل ستة أشهر، لقد عرفت ربي، لا تحرموني من وجودي إلى جانبكم. لن أخرج من المنزل أبداً، لن أكمل تعليمي، لكن دعوني بقربكم. أرجوك يا والدي، أرجوك".
انهارت على الأرض بسرعة، لكن دموعها لم تحرك شيئاً في قلب والدها، الذي استدار وأقفل الباب بالمفتاح. سمعت صوت بكاء في الخارج، إنّه صوت أُمها، ألصقت أذنها بالباب لتسمعها، كانت تبكي وتتوسل والدها أن يجعلها تراها ولو لدقائق. نادت أُمها ببكاء مرير قطع قلب والدتها، فهرعت إلى الباب تتلمسه وكأنها تلمس ابنتها: "لا تبكي يا صغيرتي، أنا هنا لا تبكي".
سمعت صوت والدها وهو يأمر أُمها بالإبتعاد عن الباب. "أَوَتَحرمني من سماع صوتها أيضاً يا أبي"؟ صرخت قائلة: "دعها أرجوك".
كانت أُمها تصرخ أيضاً. ولكن لا فائدة، لقد تجمّد قلب الأب. بقيت لأيام في تلك الغرفة، كانت تلصق أذنها بالجدار حين تسمع أي صوت قادم من داخل المنزل، بعد شهر من الزمان، كانت صامتة شاحبة، تهذي بكلام غير مفهوم. حتى ظنّ الجميع أنها جنت، دخلت والدتها غرفتها ذات مساء في غياب الوالد، ابتعدت عنها، وبكت بكاء ممزوجاً بأنين. اقتربت منها أُمها وهي تبكي، دعتها إلى حضنها، فارتمت في حضن أُمها التي أخذت تطعمها من طعام صنعته بيديها لها، وكانت الأُم تبكي بكاء مُراً. خرجت من الغرفة بسرعة بعد أن قبّلتها وحضنتها وهي تخبرها بأن عذابها هذا سوف ينتهي. وفعلاً انتهي عذابها على يد أُمها، التي سمَّمت الطعام لتنفذ ابنتها.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق