يقول الله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيراً}. أرسل الله رسوله رحمةً للعالمين، وأراد للنّاس أن يعيشوا هذه الرّحمة المتجسِّدة في شخص النبيّ -صلى الله عليه وآله وسلم -، ليجدوا فيه رحمة العقل، لأنَّ كلَّ ما يصدر عن عقل النبيّ -صلى الله عليه وآله وسلم - يمثّل الرّحمة للنّاس في كلّ ما يحتاجون إلى التَّفكير فيه، مما يخطِّطون له في شؤون حياتهم العامّة والخاصّة، لأنَّ الفكر قد يكون رحمةً وقد يكون نقمة، فالنّاس الّذين يفكّرون بالشرّ وبتدمير الإنسان وبالحرب الظّالمة، فإنّ فكرهم يمثّل فكر نقمة، لأنّه يخطّط لتدمير الحياة بدلاً من أن يخطّط لبنائها، ولهلاك الإنسان بدلاً من أن يخطِّط لحياته.
رسول الرَّحمة
وهكذا أراد الله تعالى للناس أن يروا في رسول الله الرّحمة في قلبه، لأنَّ القلب هو مركز الإحساس والشعور، فقد يعيش الإنسان الإحساس بالحقد والعداوة والبغضاء، كالكثيرين من الناس الذين لا ينفتحون على إنسانيّتهم بالانفتاح على إنسانيّة الناس من حولهم، فيحملون الحقد والعداوة والبغضاء لهم، فتكون أحاسيسهم ومشاعرهم نقمةً على الناس، لأنها توزِّع المشاعر التي تفصل الناس بعضهم عن بعض، وتؤدّي إلى الكثير من التقاطع ومن الأوضاع السّلبيَّة، بينما الإنسان الّذي يعيش الإحساس بالحبّ، ينفتح على النّاس كافّة، لأنَّ الإنسان الذي ينبض قلبه بالحبّ للنّاس، هو الّذي لا يشعر بوجود حاجزٍ بينه وبين الآخرين، لأنّه يحبّ الذي يتّفق معه في الرأي من أجل أن يتعاون معه في ما اتّفقا عليه، ويحبّ مَن يختلف معه بالانفتاح عليه والتَّحاور معه في الأمور الّتي يختلف فيه معه، لأنَّ الحوار يؤدّي إلى الوحدة أو التّقارب في الموقف.
فالإنسان المؤمن هو الَّذي يعيش مسؤوليّة هداية النّاس من حوله، والله تعالى كما أراد للإنسان أن يهتدي، أراد له أن يهدي {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}.
لذلك، فالحبّ هو الّذي يجمع النّاس على الخير والحوار، وعلى تجربة الوصول إلى الحقيقة، وهكذا كان النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - رحمةً في طاقاته، فطاقاته هي طاقات الحقّ وطاقات العدل وطاقات الخير، وقد حدّثنا الله تعالى عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في الصّفة البارزة من شخصيّته في قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، فالله يعظِّم رسوله بتعظيم خُلُقه، وهذا يعني أنَّ عظمة أخلاق النبي وصلت إلى حدّ بحيث إنَّ الله يعظِّم أخلاقه، فهذه مرتبة عظيمة جداً، وهي توحي لنا أنّ كلّ أخلاق النبيّ في كلّ تنوّعاتها قد بلغت القمّة في مراقي العظمة، في صدقه وأمانته وعفته، وفي عطائه وكرمه وإقباله على الناس في رعايته لهم وفي رأفته بهم ورحمته لهم، فهو الّذي يمثّل العظمة الّتي هي قمّة الأخلاق.
أخلاق الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم-
ويفصِّل الله سبحانه وتعالى لنا أخلاق رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم - في بعض ما كان يعيشه مع الناس: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله}، يعني أنّ الله رحمهم بما أعطاك من هذا اللّين ومن هذه الرقّة، {لِنتَ لَهُمْ}، أي كان قلبك ليّناً، ولين القلب يعني رقّته، ورقة القلب تجعلك تنفتح على الآخرين في مآسيهم وآلامهم ومشاكلهم، لأنَّ القلب الرقيق هو الّذي ينفعل ويتأثّر بما يعيشه النّاس في مآسيهم وآلامهم ومشاكلهم، كذلك لين اللّسان الذي يجعل الإنسان لا يتكلّم مع أعدائه وأصدقائه إلا بالكلام اللّين. والرسول -صلى الله عليه وآله وسلم - لم يكن غليظاً في لسانه ولا قاسياً في كلماته، لأنّه -صلى الله عليه وآله وسلم - من خلال ما أفاض الله عليه من رحمته، يعرف أنَّ الكلمة الرقيقة الحلوة الهيّنة الليّنة تنفذ إلى القلب لتفتحه على ما يريد أن يجذبه إليه، {وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}، بينما الكلمة الغليظة الخشنة القاسية تغلق القلب، وهذا ما نعيشه في كثيرٍ من حياتنا العامَّة.
ولذلك، كان النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - في خلقه العظيم ليّن القلب، وكان إلى جانب ذلك رقيق اللّسان، وهذا هو سرّ اجتماع النّاس حوله، وسرّ انجذاب النّاس إليه وقبولهم دعوته، وهذا ما ينبغي لكلِّ العاملين في خطِّ الدّعوة إلى الله تعالى أو في خطّ القضايا العامّة للنّاس أن يقتدوه، بأن ينفتحوا على النّاس بالكلمات الطيّبة الليّنة الهيّنة.
وإنّ الكلمة الطيّبة جُعِلت عطاءً من الإنسان للإنسان كما هي الصَّدقة: «الكلمة الطيّبة صدقة» ، فكما المال الّذي تقدِّمه للآخرين قربة إلى الله يكون صدقة، كذلك هي الكلمة الطيّبة؛ الكلمة التي تقولها لزوجتك، أو تقولها الزوجة لزوجها، أو تقولها لأولادك، أو يقولها الأولاد لأبيهم، أو لأمّهم، أو لجارك، أو لكلّ النّاس الّذين ترتبط معهم بمعاملاتك وبعلاقاتك وأوضاعك، إنها صدقة تتصدَّق بها عليهم.
الانفتاح على الإنسان كلّه
وهكذا القلب المفتوح على النّاس، وأنا أتساءل: لراد ماذا تغلق قلبك على النّاس وقد جعله الله مفتوحاً، وجعل نبضاته وخفقاته في اللّيل والنّهار دلالةً على استمرار الحياة، لأنّه إذا توقَّف القلب تتوقَّف الحياة؟ فالقلب ينبض، والله تعالى أراد له أن ينبض ليحمل رسالةً من داخله إلى القلب الآخر، وأن يحاول فتح قلب الآخر عليه، لأنه إذا فتح قلب الإنسان الآخر عليه، فإنّ هذا الإنسان سوف يفتح له عالماً كبيراً جدّاً، لأنّ القلب إذا انفتح على إنسان، انفتح هذا الإنسان بكلِّ ما لديه عليك.
لذلك، عندما تغلق قلبك على النّاس فأنت مَن سيخسر، لأنّك سوف تخسر كلَّ عطاء هذا الإنسان، بكلِّ ما يملكه من طاقة وكلّ ما يحيط بحياته.
هناك مَن يقول: أنا أغلق قلبي على فلان لأنه غير متديّن أو لأنه فاسق، ولكنّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عندما أرسله الله بالرّسالة، إنما أرسل إلى قومٍ مشركين، وقد أراد أن يهديهم إلى الإيمان، ففتح قلبه عليهم ليفتحوا قلوبهم على التّوحيد، وليرجعوا إلى فطرتهم.
تصوّر نفسك الآن أنّك صاحب مصلحة، ويأتيك شخص فيراك عابساً، أو يسمع منك كلاماً فظّاً، فهل يبقى من يشتري منك بعد هذا؟ بينما إذا كنت مبتسماً، وكانت كلمتك حلوة وطيّبة، وكان قلبك مفتوحاً له، فالناس كلّها تقبل عليك.
إنّ الإنسان يستعبده الإحسان، فلذلك القلب المفتوح يجعل تجارتك مفتوحة، ويجعل حياتك مفتوحة، ويجعل قلوب أهلك مفتوحة. هناك بعض الناس يدخل إلى البيت وهو عابس، فتكون كلمته مع شتيمته، أو كلمته مع ضربته، والبعض يظنّ أنه إذا تكلّم بكلام خشن، فإنَّ ذلك يعطيه الهيبة، بالعكس، هناك فرق بين الهيبة والخوف، إنَّ الذي يخاف منك لا يهابك، وإنما يلعنك في نفسه، والهيبة أن يقبل عليك وهو يشعر بقيمتك، ويتواضع لك ويحبّك.
ولذا: «من أراد عزّاً بلا عشيرة، وغنى بلا مال، وهيبة بلا سلطان، فلينتقل من ذلِّ معصية الله إلى عزِّ طاعته» ، هناك من النّاس مَنْ لا يملك مالاً ولا زعامة، ولكنَّه رجل مؤمن وطيّب ويعمل الخير، يحبّ النّاس ويحبّونه ويثقون به، بينما قد لا يثقون بالّذي يملك السّلاح ويملك المال ويملك السّلطة.
لنقتدِ بالرّسول - صلى الله عليه وآله وسلم -
دعونا نتعلّم من رسول الله المحبَّة، ونعرض عن تعلّم الحقد، لأنَّ هناك الكثير من الناس ومن المشايخ والسياسيّين والكثير من الأحزاب يعلّموننا الحقد، حتى إن هناك الكثير من آبائنا ممّن كانت عندهم مشاكل مع الناس سابقاً، كأن يكون جدّه اختلف مع جدّهم، فيقول الأب لابنه: لا أريدك أن تتكلّم مع أبناء فلان، أو لا أريدك أن تتزوج من ابنة فلان، على الرغم من مرور الزمن على هذه المشاكل، أليس هذا موجوداً في القرى والعائلات بشكلٍ كبير؟!
فيبقى أن القلب المفتوح هو الذي يحبّه الله تعالى. وهناك كلمة للإمام الصّادق (عليه السلام) يقول فيها: «هل الدّين إلا الحبّ» ، فأصل الدّين هو هذا القلب المفتوح الذي يحبّ الله تعالى فيحبّ الناس من خلال محبّته لله تعالى، ولنقتد برسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وهذا لا يكون فقط بأن تذهبوا إلى المدينة لزيارته -صلى الله عليه وآله وسلم-، بل بأن تقفوا أمامه وتفكّروا كيف كان قلبه ممتلئاً بحبّ الله وبحبّ النّاس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق