القرآن هو أصل الدِّين وأساسه، نزل على قلب النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) من لدن حكيم عليم تبياناً لكلّ شيء وتفصيلاً. إنّه كلام الله الأزلي بألفاظه ومعانيه (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصّلت/ 42). فلا تضارب في أقوال الله ولا تعارض (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا) (النساء/ 82). وليس من الممكن أبداً الإتيان بمثله (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) (الإسراء/ 88). هذه هي عقيدة المسلم في كتاب ربّه وهذا هو لسان حال كلّ مؤمن في مشارق الأرض ومغاربها. القرآن في نظر المسلم هو قيمة مطلقة، بل هو القيمة المطلقة التي لا تعلوها قيمة أُخرى. فهو الأساس والمصدر الوحيد للحقيقة. إنّ قراءة القرآن عبادة، وتدبُّره عبادة، ودراسته وتدريسه وتدارسه عبادة والصلاة به عبادة... كلّه عبادة في عبادة. فكان المسلم يقبل على كلّ عبادة من هذه العبادات بنهم شديد وحماسة بالغة. فإذا رأى تعارضاً بين الآيات رفض التسليم بهذا التعارض بل رفض الخوض فيه. فإذا كان على شيء من الذكاء خفَّ لإزالته. إنّه يتّهم نفسه بل يتّهم عقله ولا يتّهم قرآنه ويبدي من العناية والاهتمام في هذا السبيل ما لا يبديه في أي سبيل آخر بتقوى لا مثيل لها تارة، وبحذلقة وتمحُّل تارة، وبابتكار أبواب جديدة في الفصاحة والبلاغة والبيان ما أنزل الله بها من سلطان تارات.
يا ربّ، لقد أنزلت القرآن على رسولك من أجل تغيير الإنسان في ظاهره وباطنه إلى الأفضل، وتركيز حركته في الحياة في الداخل والخارج على خطّ الاستقامة في اتجاه توحيدك، باعتبار أنّ ذلك هو الذي يُؤصّل إنسانيته التي عمّقت فيها الفطرة، التي توحي بالقيم الروحية الإنسانية في علاقته بربّه وبنفسه وبالناس والحياة من حوله، وذلك من خلال التعاليم المفصّلة المتنوّعة التي وزّعتها على مختلف أوضاع الإنسان في أقواله وأفعاله وعلاقاته، وأودعت ذلك في كتابك في خطوطه العامّة والخاصّة، لإصلاح ظاهره في ممارسته العملية في دائرة التقوى، ولتركيز ظاهره في أفكاره المنفتحة على الحقّ، وفي دوافعه المنطلقة من الخير، وفي تطلّعاته المرتكزة على الخطّ المستقيم.
اللّهُمّ اجعل القرآن ينبوع طهر يغسل قلوبنا من أمراضها، بما قد تختزنه بفعل المؤثّرات المنحرفة من اللّؤم والحقد والحسد والبغضاء وغيرها، حتى نغتسل به في كلّ صباح ومساء، في وعيٍ للآية، وفي انفتاحٍ على الموعظة، وطهّر ـ يا ربّ ـ بالقرآن في إيحاءاته الفكرية والروحية كلّ واقعنا العملي من الذنوب الخفية والظاهرة، حتى لا يبقى علينا ذنب يرهق طهارتنا الإنسانية، لأنّ الذنوب ليست حالة طارئةً في رياح النفس، بل قد تكون حالةً متجذّرةً في الأعماق، من خلال الأوحال المتراكمة الكامنة في النفس.. يا ربّ، واجعل القرآن عنصر وحدة، يوحّد القلوب على المحبّة، ويجمع الناس على البرّ والتقوى، ويفتح لهم أبواب التعاون على رعاية كلّ أُمورهم بالخير والحقّ، فلا تبقى أُمورهم الحيوية منتشرةً في كلّ موقع، موزّعةً بين كلّ أُفق، بل تجتمع على مواقع رضاك في وحي آياتك. وهيّئ لنا الحصول على محبّتك التي تروي أعماقنا، فنرتوي بها ـ في وحي القرآن ـ في ظمأ الأجواء الملتهبة بالحرارة في موقف العرض عليك يوم القيامة: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (المطففين/ 6)، فلا نحسّ بالعطش، ولا نسقط تحت تأثير حرارته، بل تتحوّل محبّتك ورحمتك برداً وسلاماً على عبادك الصّالحين. وابتعد بنا ـ يا ربّ ـ من خلال وعينا للقرآن في آياته التربوية، وتعاليمه الأخلاقية، وتطلّعاته الروحية، عن كلّ الطبائع والسجايا السيِّئة المذمومة، حتى تكون أخلاقنا صورةً لأخلاقك، وتنطلق طبائعنا في الخطّ الذي يتحرّك في مواقع رضاك.. فبحقّ القرآن معجزة تربوية قلّ نظيرها.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق