لو تأمل كلّ واحد منّا في دوافعه الداخلية، وميوله النفسية، للاحظ أنّ الدافع الأساسي للكثير منها هو الرغبة في الكمال، ولن نجد إنساناً يرغب في النقص في وجوده، ولهذا يسعى جاهداً وبحسب وسعه لإزالة كلّ النقائص والعيوب عن نفسه، ليبلغ كماله المنشود، وقبل إزالتها يحاول إخفاءها عن الآخرين.
وإذا وقع هذا الدافع الفطري في مساره السليم فسيؤدي إلى رقيّه وتكامله المادي والمعنوي، ولكن لو وقع في مسار منحرف نتيجةً لبعض العوامل والظروف، فإنّه سيؤدي إلى الكثير من العواقب السيئة كالاستعلاء والتكبّر والرياء والتهالك على السمعة والظهور.. إذن فالرغبة في الكمال عامل فطري قويّ كامن في عمق الروح الإنسانية.
كمال الإنسان في إطاعة العقل:
إنّ عملية النموّ والتكامل في النباتات تحصل بصورة حتمية، وتخضع لتوفر العوامل الظروف الخارجية الملائمة، فلا تنمو الشجرة بإرادتها، ولا تثمر الثمرة التي تختارها، ذلك لأنّ النبات لا يملك الشعور الإرادة. أما الحيوانات فيمكن أن يكون لها نصيب من الإرادة والاختيار في تكاملها، ولكنها إرادة منبثقة من الغرائز الحيوانية التي يتحدّد عملها ونشاطها في حدود تلبية الحاجات الطبيعية المحدودة. أمّا الإنسان فبالإضافة إلى ما يملكه من الخصائص النباتية والحيوانية إلّا أنّه يختص بميزتين روحيتين: فهو من جهة لا تتحدّد رغباته الفطرية بحدود الحاجات الطبيعية، من جهة أخرى يملك قوة العقل، حيث يمكنه من خلالها أن يوسّع في معارفه إلى ما لا نهاية، وبسبب هاتين الميّزتين تتجاوز إرادته حدود الطبيعة الضيّقة، وتتجه بإتجاه اللانهاية. وكما أنّ الكمال المختصّة بالنبات إنما تنشأ بواسطة القوى النباتية المعيّنة، والكمالات الحيوانية إنما تحصل من إرادتها المنبثقة من الغرائز والإدراكات الحسيّة، فكذلك الكمالات المختصّة بالإنسان التي تتمثّل في الواقع بكمالاته الروحية، إنما يتوصّل إليها من خلال إرادته الشعورية وعلى ضوء توجيهات العقل وإرشاداته، العقل الذي يتعرّف على مختلف الاتجاهات والمستويات المطلوبة، وحينما تتصادم وتتزاحم فإنّه يختار الأفضل منها. وعليه، فإنّ إنسانية الفعل إنما تتحقّق بالإرادة المنبثقة من الميول والرغبات التي يختص بها الإنسان، وعلى ضوء هداية العقل وتوجيهه، وأما الفعل الذي يصدر من دافع حيواني محض، فهو عمل حيواني، كما أنّ الحركة التي تنشأ من القوى الميكانيكية البحتة للبدن، هي حركة فيزيائية.
الأحكام العملية للعقل تحتاج إلى الأسس النظرية:
إنّ الفعل الاختياري هو وسيلة الإنسان التي يتوصّل من خلالها إلى الهدف المنشود، وبالتالي يخضع في قيمته لدرجة الهدف الذي ينشده، ولمدى تأثيره في تكامل الروح، كما أنّ الفعل الاختياري لو أدّى إلى فقدان كمال روحي فستكون له قيمة سلبيّة معكوسة. إذن فالعقل إنما يمكنه الحكم على الأفعال الاختياريّة وتقويمها، فيما لو كان مطّلعاً على كمالات الإنسان ومستوياتها، وكان عالماً بواقع الإنسان، وبأبعاد حياته، والكمال الذي يمكن له بلوغه. ومن هنا فالتوصّل إلى النظام الخلقي والقيمي الحاكم على الأفعال الاختيارية لا يتمّ إلا برؤية صحيحة شاملة للكون والحياة، وعلاج مسائلها ومواضيعها، وإذا لم يعالج هذه المسائل، فلا يمكنه الحكم اليقيني بقيمة الأفعال، كما أنّه لو لم يعرف الهدف، فلا يمكنه أن يحدّد المسار الذي يؤدي إلى هذا الهدف، إذن فهذه المعارف النظرية التي تشكّل المسائل الرئيسية للرؤية الكونية، هي في واقعها الأساس للنظام الخلقي والأحكام العملية للعقل. إذن، يمكن أن نثبت ضرورة السعي والبحث عن الدين، ففي الإنسان يوجد نزوع فطري إلى كماله، ويستهدف من خلال ممارسته لبعض الأفعال التوصّل إلى كماله الحقيقي، ومن أجل التعرّف على الممارسات التي توصله إلى هدفه المنشود، لابدّ أن يعرف أوّلاً كماله النهائي، ومعرفته إنما تتمّ فيما لو تعرّف على حقيقة وجوده، وبدايته ونهايته، ثمّ عليه أن يحدّد العلاقة الإيجابية أو السلبيّة بين أفعاله المختلفة والمراحل والمستويات المختلفة لكماله، حتى يتمكّن من الوصول إلى المسار الصحيح المؤدّي إلى كماله الإنساني، وإذا لم يتوصّل إلى هذه المعارف النظرية فلا يمكنه أن يتقبّل نظاماً عملياً صحيحاً. إذن، فمن الضروري البحث والسعي لمعرفة الدين الحقّ، وإذا فإنّه لا يمكنه التوصّل إلى الكمال الإنساني، والأفعال التي تنبثق من مثل هذه القيم والمعارف لن تكون أفعالاً إنسانية، وأولئك الذين عرفوه ولكن كفروا به وانحرفوا عنه عناداً وخضعوا تماماً لنزواتهم ورغباتهم الحيوانية، والملذّات المادية العابرة، لم يرتقوا إلى مستوى الإنسانية في واقعهم كما يقول القرآن الكريم: (يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ) (محمّد/ 12)، وبما أنّهم أضاعوا الاستعدادات الإنسانية فسوف يكون جزاؤهم رهيباً وعسيراً، لما أضاعوه من طاقات ومواهب إنسانية زاخرة (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الحجر/ 3).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق