• ٥ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٣ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

روح التسامح

أسرة البلاغ

روح التسامح

                                    مقدمة

 طبيعة الإنسان:

يمتاز الإنسان بعدد من الصِّفات التي يشترك فيها مع سائر أبناء جنسه، وعلى مدى أو مقدار التعرّف على هذه الخصائص والمزايا يمكن استخلاص الموقف المناسب في التعامل معه.

وإذا كانت الخصال الإيجابية في الإنسان مهمّة في معرفة أي الأساليب أنجح في استقطابه، فإنّ معرفة الخصال الذميمة أو السلبية للإنسان تمكننا من تفادي شروره، أو تحاشي الاصطدام به، أو تقليص الأضرار التي يمكن أن يُسبِّبها لنا مادياً أو معنوياً.

القرآن الكريم رسم للإنسان صورتين: إيجابية وأخرى سلبية، أو قل إنّها صورة واحدة ذات وجهين، ولأنّنا نبحث عن (روح التسامح)، فإن وقفة متأمِّلة لسمات الشخصية الإنسانية في القرآن، تجعلنا أكثر قُرْباً من هذا الذي نريد أن (نسامحه) كما نريد منه أن (يُسامحنا).

الصفات غير الحميدة للإنسان، هي:

1- كثير النسيان: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ) (طه/ 115).

2- ناكر للجميل: (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ) (يونس/ 12).

3- موجود ضعيف: (وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا) (النساء/ 28).

4- ظالم: (إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (إبراهيم/ 34).

5- بخيل: (وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا) (الإسراء/ 100).

6- عجول: (وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا) الإسراء/ 11).

7- كائن كثير الجَدَل: (وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا) (الكهف/ 54).

8- جهول، أي كثير الجهل: (إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا) (الأحزاب/ 72).

9- قليل الصبر والتحمل: (إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا) (المعارج/ 19).

10-                    مغرور: (يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) (الإنفطار/ 6).

هذه هي نقاط ضعف الإنسان التي يمكن أن يجد لها علاجات من خلال إيمانه بالله تعالى، ونشأته في أحضان الدين، فهذه النسخة من الإنسان يمكن أن نطلق عليها بـ(المسودّة) أو (المادة الخام)، وكما يمكن أن تنقّح المسودّة، وأن تتشكّل المادة الخام إلى ما هو صالح ونافع ومفيد، فكذلك هو الإنسان.

إنّ معرفتك بنقاط ضعف صديق أو قريب يجعلك تشفق عليه مرّة، وتحول أن تقوِّي نقاط ضعفه مرّة، وأن تغضّ الطرف عن أخطائه بسبب من تقديرك لتلك النقاط مرة أخرى، وفي جميع الأحوال فأنت تراعي إنساناً مثلك يحمل ما تحمل من نقاط ضعف، فتجد له العذر والمبرِّر عسى أن يتمكّن من تجاوز نقاط ضعفه وإصلاح نقاط خلله.

وهناك فرق بين أن تعاتب إنساناً يمتلك مقوّمات قوّة في شخصيّته منطلقاً من تقديرك لتلك المقوّمات العلمية أو العملية أو الأخلاقية، وبين أن تنتقد إنساناً عادياً لا يمتلك شيئاً من تلك المقوّمات، إلى أنّك تؤاخذ كل شخص بحسب ما أوتيَ من مواهب وقدرات مزايا ومعرفة، وفي الأعمّ الأغلب فإنّ أكثر الناس هم ممّن لم يصقلوا مواهبهم ولم يطوِّروا قدراتهم الذاتية، فهم (كثيرو النسيان) وهم (ناكرو الجميل) وهم (ضُعفاء) و(ظالمون) و(بخلاء) و(عجولون) و(كثيرو الجدل) و(جُهلاء) و(قليلو الصبر) و(مغرورون).

ولعلّ أكثر الناس مسامحة لغيرهم هم (الأبوان)؛ لأنّهم أكثر الناس معرفة بنقاط ضعف أبنائهم، وأشدّهم حبّاً لهم، فهم مستعدّون للتسامح والمسامحة مراراً وتكراراً، حتى ليمكن القول أنّ باب العفو عندهم مفتوح طوال الوقت، وهذا من بعض رحمة الله التي جعلها في نفوس الوالدين حتى يتمكّنا من إصلاح شأن الأبناء، وأن يعيشا معهم أطول فترة ممكنة، وأن يحافظا على بناء العلاقة معهم في أشد الظروف وأحرج الأوقات.

هذا النموذج من التسامح (الأبوي) المُصغّر أو الأوّلي، يمكن أن تتّسع دائرته أكثر ليشمل (الأصدقاء) و(المربِّين) من معلِّمين ودعاة إلى الله تعالى ومُرشدين وقادة. والقدرة على اكتساب (التسامح الأبويّ) ليكون تسامحاً أخويّاً، أو تسامحاً إنسانياً تنبع من عوامل ثلاثة:

1- (كلّنا خطّاؤون)، وما دمنا نقف على قدم سواء في ارتكاب الخطأ، أي ليس فينا مَلاك أو معصوم، فإنّ التسامح ممكن ومبرّر ومشروع.

2- (كلّنا ضعفاء)، أي أنّ الصفات التي نعتَنا بها القرآن موجودة في كلٍّ منّا بنسبة أو بأخرى، والضعيف عادة يُقدِّر ضعف الضعيف الآخر؛ لأنّه يحمل نفس إحساساته ومشاعره، وكذلك فالتسامح بين الضعفاء أمر ممكن ومطلوب أيضاً.

3- (كلّنا نطمع بعفو الآخر وصفحه)، ولو لم يكن هذا ممكناً أيضاً لانتفت حالات (العتاب) و(المصالحة) و(ترطيب الأجواء) و(عودة المياه إلى مجاريها) و(رأب الصّدع) و(فتح صفحة جديدة).

 

 ما هو التّسامح؟

(سمح) يعني: لانَ وسهل، وكلمة تسامح في اللّغة مأخوذة من (تفاعل)، أي أنّها حركة باتِّجاهين: مسامحتك للآخر، ومسامحة الآخر لك، مثل (تقاسم) و(تشاطر) و(تحابب) و(تعارف) وتناصف). والسماح أيضاً من السماحة، وبالتالي فالتسامح يعني قبول اختلاف الآخرين.

 

هل يمكن أن يكون التسامح من طرف واحد؟

نعم. وعندها نُسمِّيه بـ(السّماح) أو (المسامحة)، فيوسف (ع) سامحَ أخوته الذين أخطأوا بحقِّه مرتين: مرة حين ألقوه في غيابة البئر، ومرة حين اتّهموه بالسرقة، وقد لاحظ نقطة ضعفهم وهي (الجهل)، ولذلك قال لهم: (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) (يوسف/ 92).

ويدور الزمن دورة واسعة، ليتكرر المشهد بين المخطئين والخاطئين من قريش بحقِّ النبي محمد (ص)، فإذا هو يُسامحهم كما سامحَ يوسف (ع) إخوته، ولا ندري إن كان محمّد جنوب أفريقيا من التمييز العنصري (نيلسون مانديلا) قد اطّلع على هذه الشواهد من خلال مطالعاته أو قراراته للتأريخ أو أنّه استلهمها من روح الدين الذي يدعو إلى التسامح، حين دعا مضطهدي السود في جنوب أفريقيا إلى الاعتراف بأخطائهم ليكون ذلك سبباً في العفو عنهم؟!

 

هل يمكن اعتبار المسامحة أو التّسامح ضعفاً؟

أبداً، وكلا، فالتّسامح أو المسامحة مؤشِّرة قوّة، لأنّها تعني: (العفو عند المقدرة)، وامتلاك المسامح لـ(قلب كبير) ومنحه المخطئ فرصة أخرى ليُصحِّح خطأه ويُفكِّر عنه ذنبه، كما تعني أنّ حرص المسامح على (ترميم) العلاقة أكثر من رغبته في هدمها أو المشي على أطلالها.. إنّها رغبة في التعايش السلمي والإيجابي.. التسامح قوّة وليس ضعفاً.

 

هل يمكن اعتبار التسامح عجزاً عن إيذاء الآخر الذي آذانا؟

إنّ الذي يصفح الذي صفعه، والذي يجرح مشاعر الذي جرح مشاعره، والذي يُحصي على الآخر أخطاءه وعثراته وزلاته ليفضحه بها تماما؟ً كما فعل ذلك من قبل صاحب تلك الأخطاء، والذي يكيل الصاع صاعين، ويحيل (الهفوة) إلى جريمة لا تُغتفر، هو الإنسان العاجز في مفهوم العجز من وجهة نظر أخلاقية.. هو لا يجيد لغة ثانية ولا يُحسن أن يكتب على الرمل.. هو على أيّة حال ضعيف.

حينما قال (هابيل) لـ(قابيل): (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ) (المائدة/ 28)، لم يكن عاجزاً عن مواجهة (الإنفعال) بـ(الإنفعال) و(السِّكين) بـ(السكِّين)، أو ربّما بالساطور أو السيف، وربّما حاول أن يثني أخاه عن ارتكاب فعلته النكراء بالدفاع عن نفسه أيضاً، لكنّه كان أمام خيارين:

الأوّل: أن يواجه الغضب المتصاعد كألسنة اللّهب بأن يصب الزيت عليه ليستل هو الآخر سكِّيناً ويتقاتل مع أخيه على أمر لا يستوجب المقاتلة، ولا يستدعي إراقة الدّم، وبالتالي يكون قد عامل أخاهُ بعقليّة النفي التي رفضها في حواره معه.

الثاني: أو أن يحكِّم عقله ويتحكّم بأعصابه ليكون الأقوى في معرفة الانفعالات الهائجة حتى وإن كان هو الضحية أو الذي سيغادر المسرح ليترك القاتل (بطلاً) في نظر (القابيليين) و(مُجرماً) في نظر المتعاطفين إنسانيّاً مع قضيّة هابيل التي تُمثِّل البراءة المُعتدى عليها على طول التأريخ.

يقول (غاندي) صاحب مبدأ (اللاعُنف): "التّسامح من سمات الأقوياء"!!

إنّ الشاعر الذي قال عن إخوته وبني عمومته:

فإن أكلوا لحمي وفرتُ لحومَهم **** وإن هدموا مَجْدي بَنيتُ لهُم مَجْدا

يُعبِّر عن حالتين أو مدرستين: مدرسة (التسامح) المتعالية، ومدرسة (الإنتقام) المتسافلة.. عن قابيل المُنتقِم القاتل، وعن هابيل المُتّزن العاقل.

 

ماذا يمكن أن نكسب بالتسامح؟

الكثير.

إنّنا، إذا امتلكنا روح التسامح، أشعنا جوّاً من الصفاء والمودة بيننا وبين الآخرين، ولسنا بحاجة إلى استعراض ما تُسبِّبه العداوة والبغضاء والشنآن بين الناس من خسائر لا يمكن احصاؤها.

إنّنا، قد نقلب الطاولة للذين كانوا يناصبوننا العداء، فإذا هم أولياء أو أقرب إلينا ممّا كنّا نتصوّر، وسيبيّن كيف أنّ ردّ الإساءة بالإحسان، قد قلبَ موازين القوى، وغيّر الكثير ممّا كان يعتبر حالات صعبة، أو مستحيلة التحوّل والإنقلاب.

إنّنا، بتسامحنا، نرتفع، ونرتقي، ونتسامى إلى الحالة (اليوسفيّة) أو (المحمديّة) التي تعضُّ على الجراح، وتتعالى على موقف (التشفِّي)، وتنطلق لتتخلّق بأخلاق الله: العفو، الغفور، اللطيف، الرؤوف، الرحمن، الرحيم.

إنّ من يستطيع أن يُسامح يصلح أن يكون قائداً ربّانيّاً، نبيّاً، أو وليّاً، أو مُعلِّماً، أو أباً صالحاً، أو مُصْلَحاً مؤثِّراً، أو حاكِماً رحيماً.

قُل لي: هل تستطيع أن تُسامح؟ وهل فعلتها مرّة أو مراراً، أقُل لك مَن أنتَ!

إنّ العفو والصفح والمسامحة من شِيَم النبلاء وأخلاق الكبار، وكبار القوم – عادةً – في مواقفهم لا في أعمارهم. يقول الشاعر:

ولا أحملُ الحِقْدَ القديمَ عليهم **** فإن رئيس القَوْمِ لا يَحمِلُ الحِقدا

ويتّضح لنا أنّ التسامح سببٌ مهمّ من أسباب الصحّة النفسية.. إنّه يُعزِّز أواصر الأخوّة والتلاحم الأسري، والتعايش السلمي بين الساسة والمواطنين وأشقّاء الأديان.

يقول (جيرالد مامبولكس) في كتابه (التسامح أقوى علاج على الإطلاق): "قوّة الحبّ والتسامح في حياتنا يمكن أن تصنع المُعجزات"! وصدقَ فيما قال.

 

التسامح من وجهة نظر نفسية

أدرك علماء النفس حديثاً أهمية الرضا عن النفس وعن الحياة، وأهمية هذا الرضا في علاج الكثير من الإضطرابات النفسية. ففي دراستين نشرتهما مجلة (دراسات السعادة) تبيّن أن هناك علاقة وثيقة بين التسامح والعفو من جهة، وبين السعادة والرضا من جهة أخرى.

وأكّدت الدراسة أنّ الذي تعوّد على التسامح يكتسب مناعة مع مرور الزمن فلا يحدث له أي توتر نفسي، أو ارتفاع في السكري أو ضغط الدم، واتّضح من خلال الدراسة كذلك أنّ العفو والتسامح يجنِّبا صاحبهما الكثير من الأحلام المزعجة والقلق والتوتر الذي يُسبِّبه التفكير المستمر في الرد على مَن أساء إليه أو الإنتقام منه.

ويقول العلماء: لأن تنسى موقفاً مزعجاً حدث لك، هو أفضل بكثير من أن يضيع الوقت وتصرف طاقة كبيرة من دماغك على التفكير والبحث عن طرق الانتقام، وفي هذا السياق تأتي الحكمة التي تقول: "إذا ما أظلّ رأسك همُّ، فقصِّر البحث فيه لكي لا يطول"!

كما وجد علماء البرمجة اللّغوية العصبيّة أن أفضل منهج لتربية الطفل السوي هو التسامح معه، فكل تسامح هو رسالةٌ إيجابية يتلقّاها الطفل، وبتكرارها يعوِّد نفسه على ممارسة التسامح أيضاً وهو ما يُبعد عنه روح الانتقام المدمِّرة التي يعاني منها معظم الشباب في عالمنا الإسلامي المعاصر.

إنّ الشخصية المتسامحة – في الفهم النفسي لها – تتّسم بمجاهدة شديدة للنفس والهوى، وهذا من صفات القوّة والرِّفعة والتمكّن الكامل من زمام النفس، وما خضوعها للتسامح إلا دليلٌ على سموِّها ورقّتها في مقابلة الإساءة، بالإحسان والشر بالخير.

ويضيف علماء الصحّة النفسية – من خلال دراساتهم الميدانيّة – أنّ للتسامح مفعولاً إيجابياً على الصحة النفسية للإنسان، فالتسامح يُعتبر من أقوى أساليب العلاج لما يُسمّى بالأمراض (النّفسجسميّة) التي هي أمراض عضويّة تعود لأسباب نفسيّة.

وبحسب النظرية المعرفية، فإنّ مستوى صحّة الإنسان النفسية وسعادته وتوافقه مع نفسه ومع المجتمع، يتوقّف على طبيعة ما يحمله من أفكار وما يتبنّاه من قناعات، فإذا تبنّى الإنسان أفكاراً لا عقلانيّة، أدّى ذلك إلى إصابته بالمرض والإضطراب، والعكس صحيح.

وآية التسامح في قوله تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (فصلت/ 34)، تشمل هذا المبدأ، ولذلك فبمجرد تبنِّي الفرد لقيمة هذه الفكرة الإيجابية: عدم استواء السيِّئة والحسنة، سيكون قادراً على ممارسة سلوك التسامح[1].

أمّا المدرسة الإنسانية في العلاج النفسي، فترى أنّ الإنسان خيِّر بالفطرة نبيل بطبيعته الإنسانية، الأمر الذي يدعونا إلى أن نتفاءل بأن في داخل الإنسان – أيّ إنسان، حتى العدوّ – خيِّراً ما، وما علينا حتى نُخرجه من القوّة إلى الفعل إلا أن نُبدي اهتماماً وتقديراً بكرامته أكثر، وعندها سوف يُخرج ما بداخله من كنوز وخير هو أشبه بالمعادن النفسية في باطن الأرض.

وأثبتت الدراسات النفسية العديدة أنّنا – من خلال سلوك التسامح – نستطيع معالجة الكثير من المشكلات السلوكية والإضطرابات النفسية، ومنها: التغلّب على المخاوف المرضية، وقهر الإكتئاب، وتعلّم مهارات التكيف الفعّال لمواجهة الضغوط النفسية، وإعادة التأهيل النفسي لحالات الإدمان، ودحض الأفكار اللاعقلائيّة، وإحلال العقلائية محلّها، ورفع دافعية التعليم، والإنجاز، وتحسين صورة الذات التي تُعتبر الأساس في ممارسة السلوكيات الإيجابية والتخلص من السلوكيات السلبية، وتعلّم مهارات التواصل مع الآخرين، وإدارة الذات، ومقاومة الكثير من الأمراض (النفسجسمية)؛ كالسكّري، وضغط الدم، والجلطات، والعقم، وغيرها.

كما لاحظت دراسات علم النفس الإجتماعي وأنماط الشخصية، أنّ التسامح من ملامح الشخصية السوية التي تملك نظرة إيجابية للحياة، أمّا الشخصيات التي تُعاني من اضطراب كـ(الشخصية السيكوباتيّة)، فهي لا تعرف الحبّ والرحمة والتسامح، ولذلك ترى صاحبها نصّاباً، محتالاً، مخادعاً، لا يحترم القوانين والأعراف والتقاليد، وليس لديه ولاء إلا لملذّاته.

ومثلها أيضاً (الشخصية البارانوية)، وهي شخصية (الشكّاك المتعالي)، حيث أن محور هذه الشخصية هو الشك في كل الناس، وسوء الظنّ بهم، وتوقّع العداء والإيذاء منهم، فكلّ الناس في نظره أشرار متآمرون، وهو كنظيره صاحب الشخصية السيكوباتيّة، لا يعرف الحب والرحمة والتسامح؛ لأنّه في طفولته المُبكِّرة لم يتلقّ الحبّ من مصادره الأساسية (الوالدين)، لذلك لم يتعلّم قانون الحب والتسامح، وهو اكتسابيّ ولا شكّ.

والشخص الباروني دائمُ الإتِّهام لغيره، مثاله القرآني (قابيل).. ومهما حاول الطرف الآخر إثبات براءته، فلن ينجح في ثنيه عن الإنتقام، بل يزيد في شكِّه وسوء ظنِّه، حتى أن حالات التودّد والتقرّب من الآخرين تجاهه تُقلقه وتُزيد من شكوكه.

من ذلك كلّه، نخلص إلى أنّ من أهم صفات الشخصيات المضطربة، والتي تُعاني من القلق المُزمن، هو أنّها لا تعرف التسامح، ولم تُجرِّب لذّة العفو ونسيان الإساءة، وهذا ما يُفسِّر لنا قوله تعالى: (وإن تَعْفُو أقْرَبُ لِلتَّقْوى) (البقرة/ 237)، تفسيراً عمليّاً، وسريريّاً، وميدانيّاً.

يقول الشاعر:

إذا ضاقَ صَدْرُ المَرْءِ لم يَصفُ عَيْشُهُ **** وما يَسْتَطِيبُ العيشَ إلاّ المُسامحُ!

 

(العفوّ) (الغفور):

العفو، لغةً: المحو، وترك عقوبة المُستحقّ، وعفوتُ عنه: قصدتُ إزالة ذنبه، قال تعالى: (ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة/ 52)، و(العفو) أبلغ من (المغفرة)؛ لأنّ المغفرة ستر، والعفو تجاوزٌ ومحو، (الصّفح) أبلغ من الكل؛ لأنّه محو وإبداء صفحة جميلة. قال سبحانه: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (الحجر/ 85).

و(العفوّ) فاعل العفو، وعفا عنه عفواً: تجاوزَ عن ذنبه بالصّفح والمغفرة، وهو من أسماء الله الحُسنى، ورد خمس مرّات في القرآن الكريم، جاء في أربع مرّات مصحوباً مع اسمه (الغفور)، كما في قوله عزّ وجلّ: (إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) (الحج/ 60)، فهو – تعالى – ساترٌ، متجاوزٌ، ماحٍ.

وقد ورد في (الموسوعة الإسلامية الميسّرة) ج8، التعريف بهذا الإسم على النحو الآتي:

الله سبحانه هو الذي يمحو الذنوب جميعاً، ويتجاوز عن السّيِّئات بلطف كرمه، وجميل إحسانه، وفائق رحمته. وفي الحديث: "اتّقِ حيثما كنت، وأتبع السيِّئة الحسنة تمحُها، وخالق الناس بخلق حسن".

وهذا توجيه تربوي وأخلاقي من الرسول الكريم (ص)لنمحو سيِّئات المسيئين إلينا، ونصفح، ونعفو عنهم، وعلى العبد المؤمن أن يتخلّق بأخلاق هذا الإسم الجليل، فيعفو عمّن ظلمه، ويُحسِن إلى مَن أساء إليه، وهذا من مكارم الأخلاق.

قال (القشيري): "العفو، هو الذي يمحو الذنوب ويزيلها بريح المغفرة"!

والعفو خلقٌ عالٍ، حضّ الله عزّ وجلّ عليه رسوله وعباده، فقال سبحانه: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) (آل عمران/ 159). كما أمره بالعفو عن أهل الكتاب، بقوله جلّ جلاله: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) (المائدة/ 13).

وجاء في الحديث عن رسول الله (ص): "اللّهمّ إنّك عفوٌّ كريمٌ تُحبّ العفو، فاعفُ عنِّي".

فالعفوُّ والغفور اللّذان يشيران إلى صيغة المبالغة، أي أنّ العفو هو كثير العفو، والغفور هو الكثير الغفران، يُعلِّمان أتباع القرآن وتلامذة المدرسة الإسلاميّة كيف يكون التجاوز عن الذنب، وكيف يُترك العقاب، حتى ورد أن الله سبحانه وتعالى يغفر الذنوب كلها جميعاً بما فيها الشِّرك الذي إذا تابَ منه العبد ووحّد الله سبحانه غفر الله تعالى له. يقول سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) (الزمر/ 53).

وعلى ضوء ما تقدّم، فإنّ التخلّق بأخلاق الله يعني اتّخاذه المثل الأعلى، فكما تريد من الله تعالى أن يعفو عنك، ويُكفِّر عن سيِّئاتك، ويغفر لك ذنوبك كلّها، فإنّك لكي تستطيع الحصول على ذلك وتأمينه وضمانه، لابدّ أن تعفو عمّن ظلمك، وتصفح أو تحسن إلى مَن أساء إليك.

في المأثور من الدعاء، ترجمة جميلة لهذا المعنى.. أنظر وتدبّر:

"اللّهمّ إنّك أنزلتَ في كتابكَ أن نعفُوَ عمّن ظلمنا، وقد ظلمنا أنفسنا فاعفُ عنّا، فإنّك أولى بذلك منّا..

وأمرتنا أن لا نردّ سائلاً عن أبوابنا، وقد جئتكَ سائلاً فلا تردّني إلا بقضاء حاجتي...

وأمرتنا بالإحسان إلى ما ملكت أيماننا، ونحنُ أرقّاؤكَ فاعتق رقابنا من النار..

يا مَن يقبل اليسير، ويعفو عن الكثير، إقبل منِّي اليسير، واعفُ عنِّي الكثير، إنّك أنتَ الرحيم الغفور"!

يقول تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) (النور/ 22).

فكن على يقين أن مسامحتك الآخر: أخاً أو صديقاً أو قريباً أو زميلاً أو زوجاً، أو حتى غريباً، لن تكون بلا ثمن، فثمنها الكبير أنّ الله تعالى يُسامحك ويعفو عنك ويغفر لك أضعاف ما غفرت لصاحبك.

لقد بشّر الله تعالى العافين عن الناس بالجنّة، فقال: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران/ 134). وهل بعد الجنّة خير، أو ثمن أعلى؟

والإسلام إذ يوصي بالعفو، فإنّه يُقرِّر أنّ من حقّ المظلوم أن يعاقب على السيِّئة بمثلها، بشرط الإصلاح، إلا أنّ العفو أكرم وأقرب إلى مرتبة الإحسان.

قال تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى/ 40)، أي مَن محاها ولم يُعاقب عليها، ومَن يفعل ذلك غير المُسامِح ذي النفس الكبيرة، وقديماً قيل: (المُسامِح كريم)!

وللعفو عند المقدرة أثر كبير في النفوس، ولا أدلّ على ذلك من عفو رسول الله (ص) على أهل مكّة عند فتحها، إذ قال لهم بعد أن لقيَ ما لقيَ منهم من الأذى والعنت والإعراض والجحود: "إذهَبُوا فأنتُم الطُّلقاء"!

 

 قانون دفع السيِّئة بالحسنة:

قال تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) (المؤمنون/ 96).

وقال سبحانه: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت/ 34-35).

تشير التفاسير في معنى الآيتين إلى أنّ من أبرز السّبل المؤثِّرة في مكافحة الأعداء الأشدّاء والمعاندين، والتعامل مع أصعب الناس، هو ردّ السيِّئة بالحسنة؛ لأنّ ذلك يوقظ مشاعرهم، فيحاسبون أنفسهم على ما اقترفوه من أعمال سيِّئة، ويعودون للصواب غالباً.

ويتجلّى هذا المنهج واضحاً في سيرة الرسول الأكرم (ص) وأئمة الهدى (ع)، حيث كانوا يردّون سيِّئات الجُناة بالإحسان إليهم والإنعام عليهم، فيكسبون ودّهم، ويُفجِّرون في نفوسهم ووجدانهم الإستجابة للحقِّ والرفض للباطل. كانت لغة أحدهم مع المعتدي أو المسيء: يا هذا إن كنتَ جائعاً أشبعناك، وإن كنتَ فقيراً أغنياك، وإن كنتَ مَديناً قضينا عنكَ دينك، فنحنّ لا نردّ الإساءة بمثلها أو بأسوأ منها، بل على العكس نُقابل الإساءة بالإحسان.

وهكذا كانت سيرة المسلمين الذين تأسّوا بهذه المواقف المشرِّفة، فكان رد السيِّئة بالحسنة مبدأً أساسياً لاقتلاع السيِّئات، وتحويل العدو إلى وليّ حميم.

إنّ ردّاً كهذا على المسيء أو الساب أو الشاتم أو المتجنِّي: "إن كنتُ كما تقول غفرَ اللهُ لي، وإن كنتُ لستُ كما تقول غفرَ الله لك".

ليس يُردع العدو عن التمادي في اساءته، فقط، بل يُشعره بالخجل والندم، إلا السفيه، فلا شك أن هذا الأمر خاص بالحالات التي لا يسيء فيها العدو استغلال طيبة ونُبل وسماحة الطرف الآخر، فيرى إحسانه إليه أو عفوه عنه ضعفاً منه، فيزداد جرأة على الظلم والعدوان.

كما أنّ هذا المبدأ لا يُبرِّر مسالمة أعداء الله والتسليم لهم، فهم العدو الذي لا نصافي، ولكنّه مبدأ يفعل فعله ويُحقِّق آثاره في الوسط الإسلامي بين الأخوة المُتخاصمين، والأزواج المُتنازعين، والساسة المُختلفين. والقول: "إذا قدرت على عدوِّك، فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه". لا يشمل الأعداء التاريخيين للأُمّة، الذين شنّوا عليها الحروب وقطعوا عليها الدروب، وتركوا في نفوسها من جروح التواطئ والتآمر الندوب.

وفي الحكمة الصينيّة: "نستطيع مسامحة المُذنب، ولكن ليس قليل الحياء"!

إنّ كلمة (عدوّ) في الروايات والأحاديث الداعية إلى العفو والصّفح والمغفرة، هو الإنسان الذي تُخاصمه ممّن هو قريب إليك، تماماً كما في القول: "أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكن بغيضك يوماً ما، وابغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما"، وتماماً مثل: "اقلع الشرّ من صدرِ غيرك بقلعه من صدرِك".

فـ(البغيض) هناك و(الشِّرِّير) هنا، ليس هو الطاغية المُتفرعن، أو الكتابي الذي يُحرِّف الكتاب ويُناصب أهل الإسلام العداء ليلاً ونهاراً، وإنما هو الأخ أو القريب أو الشريك، أي المراد به الخصم لا العدو والمُستفحل العداوة.

في الأمثال الجورجيّة: "إيّاك أن تُسامح الثعلب على سرقة دجاجاتك؛ لأنّه سوف يسرق خِرافَك"!

ولقد أفاد بعض المفسِّرين على هامش آية ادفع السيِّئة بالحسنة، أنّه في الوقت الذي لا يملك فيه أعداؤكم سوى سلاح الافتراء، والاستهزاء، والسخرية، والكلام البذيء، وأنواع الضغوط والظلم، يجب أن يكون سلاحكم – أنتم المسلمون الأبرار والدعاة الأخيار – التقوى والطُّهر، وقول الحق، واللِّين، والرِّفق والمحبة والتسامح.

قانون دفع السيِّئة بالحسنة، يقول في أحد أبعاده:

إدفع الباطل بالحق، والجهل والخشونة بالحلم والمُداراة، وقابِل الإساءة بالإحسان، فلا تردّ الإساءة بالإساءة، والقُبح بالقُبح؛ لأنّ هذا هو أسلوب مَن همّه الانتقام، وهو يقود إلى عناد المُنحرفين أكثر.

ويقول في بُعدٍ آخر:

إنّ كل من ارتكب السيِّئة ينتظر الرد بالمثل، خاصة الأشخاص الذين هم من هذا النمط، وأحياناً يكون جواب السيِّئة الواحدة عدة سيِّئات، أما عندما يرى المُسيء أنّ مَن أساء إليه لا يردّ السيِّئة بالسيِّئة وحسب، وإنما يُقابلها بالحسنة، عندها سيحدث الإنقلاب في تفكيره ونظرته، ويحدث التغير في شخصيّته، وسيؤثِّر ذلك على ضميره فيوقظه، وسيشعر بالحقارة على ما قام به، وينظر بعين الإكبار والتقدير إلى مَن أحسن إليه في قبال إساءته، وبذلك تزول مشاعر الحقد والعداوة من الداخل لتترك مكانها للحب والمودّة. يقول الشاعر:

سامح صديقَكَ إن زلّت به قَدَمٌ **** ليس يسلمُ إنسانٌ من الزّللِ

هذا القانون المليء بقوانين الحياة هو قانون التسامح الأوّل، وهو الذي جعل بعض قادة الفتح المكِّي يُغيِّرون شعار: "اليوم يوم الملحمة، اليومُ تُسبى الحُرمة، اليوم أذلّ الله قريشاً"! إلى شعار المسامحة الذي يتعالى على الإساءات ويتناسى السيِّئات: "اليوم يوم المرحمة، اليوم تُحمى الحُرمة، اليوم أعزّ الله قريشاً"!

لقد أدب الله نبيّه محمّداً (ص) أدباً يمتدّ مع الزمن، فقال: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، أي إدفع سيِّئة مَن أساء إليك بحسنتك، حتّى يكون (الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ). وهل التسامح إلا هذا؟!

جاء رجلٌ إلى النبي (ص)، فقال: يا رسول الله! كم نعفو عن الخادم؟ فصمت (ص)، ثمّ أعاد عليه الكلام، فصمت، فلمّا كان في الثالثة، قال: "اعفُ عنه في كلِّ يوم سبعين مرّة"!!

ولذلك أُثِرَ عنه (ص) قوله: "ما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزّاً".

وأمّا السيد المسيح (ع)، فيقول: "إذا قرّب أحدُكم قربانه ليذبحه، فذكر أنّ أخاه واجِدٌ (غضبان، أو زعلان) عليه، فليترك قربانه، وليذهب إلى أخيه فليرضيه، ثمّ ليرجع إلى قربانه"!

يقول الشاعر:

خُذ العَفْوَ وأمُرْ بعُرْفٍ كما **** أُمِرْتَ وأعْرِض عن الجاهلين

وَلِنْ في الكلامِ لكلِّ الأنامِ[2] **** فمستحسنٌ من ذوي الجاه لِينْ!

 

التسامح منظومة قيمية[3]

إذا أُخذ التسامح معزولاً أو مفصولاً عن القيم الأخرى، فيمكن أن يبدو منظره جميلاً، لكنه وهو يسير في الحياة محفوظاً بوفد أو طائفة من القيم العُليا يتجلى جماله أكثر، حتى ليخال للباحث في القيم الإسلامية أنّها أشبه شيء بالمجموعة الشمسية التي لكلٍّ منها فلكه ومداره الخاص، كما أنّ له فلكاً أو مداراً عامّاً.

 

1- التسامح.. سخاء:

إذا سامحتني فأنتَ سخيّ، فالسخاء خُلق الله الأعظم، وفي الحديث عن النبي الأكرم (ص): "إنّ السخاء شجرة من أشجار الجنة لها أغصان متدلِّية في الدنيا، فمَن كان سخيّاً تعلّق بغصن من أغصانها، فساقه ذلك الغصن إلى الجنة". والتسامح بلا ريب – غصن كبير من أغصان شجرة التسامح.

إنّ العفو والصفح والمغفرة والتسامح لا تصدر عن (بخيل) أو عن (حاقد) أو (جاحد) قطّ، فإذا سامحتَ برهنتَ على النبل وعلى روحية العطاء وعلى كرم شخصيّتك، ألم نقل إنّ "المُسامح كريم"، وخيرُ السخاء والكرم ستر العيوب والعفو عنها، ولا تُستر إلا بالمُسامحة، ولا يعفى عنها إلا بالتسامح.

وإذا كان السخاء يُثمر الصفاء، فالمُسامح أوّل مَن يجني هذه الثمرة؛ لأنّه زرع المحبة بمسامحة الكريم، فرآها صفاءً في العلاقة مع الآخر.

 

2- التسامح.. شجاعة:

المُسامح شجاع؛ لأنّه يقف بين خيارين: الانتقام أو المسامحة، فيختار الثاني؛ لأنّه يرى في الانتقام جبناً، أو رد بالمثل، بينما يرى في غضِّ الطرف، والإغضاء عن الخطأ مرتبة عالية من ضبط النفس والتعالي على التهور والإنجراف، بل ويعتقد أنّ الصبر شجاعة، وأنّ المُسامحة فضيلة والشجاعة في عدم الإنجرار إلى نفس الموقف عزّاً.

يقول الإمام علي (ع): "أشجع الناس مَن غلبَ الجهلَ بالحلم"، فإذا كان المُسيء أو المُخطئ جاهلاً، فلا يُقابل جهله بجهل، ولذلك قيل: "ما أشجع البريء" وأجبن المُسيء. وإذا كان الحليم لا يُعرف إلا عند الغضب، والشجاع إلا عند الحرب، فإنّ المسامح حليمٌ يكفّ غضبه، شجاع يُقلع عن الانتقام الذي هو سهل يسير على النفس، ويختار المسامحة وهي شديدة ثقيلة على النفس لأنّها خلاف هواها.

 

3- التسامح.. إحسان:

المُسامح مُحسن.. لأنّه لم يختر الإساءة ردّاً على إساءة المُسيء، بل تجاوزها إلى ما هو خيرٌ منها، فهو يعلم هذا جيِّداً و"زينة العلم الإحسان"، كما يعلم أنّ الإساءة غريزة الأشرار وطبعهم وشيمتهم، وهو لا يريد أن يتنزّل عن الإحسان الذي هو غريزة الأخيار الأحرار، إلى اللّؤم الذي هو غريزة الأشرار.

إنّه على بيِّنةٍ أنّه "بالإحسان وتغمّد (إخفاء) الذنوب بالغفران يعظم المجد". وهو يريد الزيادة في رصيد مجده، لا أن يُعاب بردّ الإساءة كما عيب المسيء إليه. وهو إذ يكتب الإساءة على الرمل، بل على الماء لا يطلب مردودها الآنيّ فحسب، بل يريدها زاداً لمعاده: "زاد المعاد الإحسان إلى العِباد"!

إنّ كلمة النبي (ص): "أحسِن إلى مَن أساءَ إليك"، تتردّد في مسامعه حتى لتغلب نبرتها نبرة الشيطان الذي يغريه بالتشفِّي والإنتقام.

كما أنّه يستحضر مهمّته كمُصلح، فهو لا يريد كسر المُسيء أو تحطيمه، فهو أخوه الذي لا يرغب بخسارته أخاً، وإذا كانت قد صدرت منه هفوة أو زلّة، فليس كله زلات وليس كله هفوات، والقليل لا يُصادر الكثير.

يقول الإمام علي (ع): "أصلِح المُسيء بحُسن فِعالِك".. وهو فعلٌ أحسن من المسامحة التي تستصلح العدوّ؟!

إنّ المُسامح يعلم تماماً أنّ "المُحسن مُعان" من قِبَل الناس الذين يُقدِّرون القيمة والخلق النبيل، وأنّ "المُسيء مُهان"، فلا يختار الإهانة والناس أعوانه على المُسيء.

 

4- التسامح.. صُلح:

المسامح صالحٌ مُصالح.. يقرأ قوله تعالى: (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) (النساء/ 128)، فيعلم أنّ الصلح سيد الأحكام، وهو بمسامحته المسيء يُصلح ذات بينهما، وهو يرى أنّ في الصلح دِعة وفرصة ثمينة لتنقية الأجواء والعودة إلى الصفاء، هو إنسان يُفكِّر بالربح دائماً، ومقابلة الإساءة بالإساءة خسارة، وهو في نظر نفسه عاجز إن قابل الضعف بضعف، والمهانة بالمهانة، والسوء بالإساءة، والجهل بالجهالة.

إصلاح ذات البَيْن عنده أفضل من درجة الصِّيام والصلاة والصدقة، وإن فساده هي (الحالقة) التي تحلق الحسنات وتزيلها كما تحلق شفرة الحلاقة الشعر، فإذا كان الهدم سهلاً فإنّ البناء صعب، وهو لا يريد أن يستسهل الهدم لعلاقة وطيدة شابها كدر، ولذلك ترى المُسامح يُردِّد في نفسه:

ولكُلِّ صافيةٍ قذى **** ولكلِّ خالصةٍ شوائبُ

القذى: الشائبة التي تُكدِّر الماء الصافي كالقشّة وما أشبه ذلك.

 

5- التسامح.. حرِّية:

المُسامح حرّ، ولو قيّد نفسه بالإنتقام ورد الإساءة لما كان حرّاً، هو حرٌّ لأنّه مختار، خيّر نفسه بين التشفِّي وبين المسامحة، فوجد لهذه لذّة ولتلك لذة، فلم يؤثر لذة التشفي على لذة المسامحة والتسامح، وكيف تُقاس هذه بتلك والتشفي انسياق مع الشهوة، بينما التسامح سباحة عكس تيارها، تلك تهدم المناعة وهذه تبنيها، وصدق مَن قال: "مَن ترك الشهوات كان حرّاً".

يقول الإمام علي (ع): "الحرية مُنزّهة من الغلِّ والمكر"، والمنتقم يغلّه الغلّ، اي يُقيِّده الحقد بقيده، ويحتال ليمكر بمَن أساء إليه بأشدِّ من إساءته، أمّا العف والغفران، فهما سجيّة الأحرار، ولأنّ المُسامح حر فهو لا يجازي إلا بالإكرام: "ليس للأحرار جزاء إلا الإكرام". يقول الشاعر (سعدي الشيرازي):

صاحبُ الشهوة عبدٌ فإذا **** غلبَ الشهوةَ صار الملكا

 

6- التسامح.. إنصاف:

المُسامح مُنصِف، يضع نفسه في موضع المُسيء، يُقدِّر له صعوبة موقفه في الإساءة، ويحاول أن يُجنِّبه حراجة موقفه في الاعتذار، هو يحبّ له ما يحبّ لنفسه، ويكره له ما يكره لها.

الإنصاف عند المُسامح مُستوحى من قِيَم شتّى، منها:

أ‌-      "الإنصاف أفضل الشِّيَم".

ب‌- "الإنصاف يستديم المحبّة".

ت‌- "الإنصاف راحة".

ث‌- "المُنصف كريم، الظالم لئيم".

ج‌-   "لا عدل كالإنصاف".

ح‌-   "إنك إن أنصفت من نفسِكَ أزلفكَ (قرّبك وأدناك) الله".

خ‌-    مَن أنصف الناس من نفسه رُضي به حكماً لغيره".

إنّ المُسامح يفهم أمر الله تعالى في قوله سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ) (النحل/ 90)، أمراً بالإنصاف والتفضّل ولا يجمعهما إلا مسامح.

 

7- التسامح.. صبر:

المُسامح صبور، ولو تعجّل الموقف لكان بادر إلى الإساءة كرد فعلٍ لإساءة المسيء، ولقد كان من تعاليم السيد المسيح (ع) لأتباعه: "إنّكم لا تُدركون ما تحبّون إلا بصبركم على ما تكرهون". فالمُسامح صبر على ما يكره لينال ما يتمنّى من غفران الله وعفوه، ومن إصلاح المُسيء وكسب مودّته، ومن عدم الإنزلاق في شهوة الانتقام، وكما قلنا فإنّ المُسامح شجاع، والصبر بحدِّ ذاته شجاعة، وهو عون على تحمّل الإساءة بصدر رحب، فلقد أساء أعرابي إلى النبي (ص) واصفاً إياه بأنّه غير عادل، فأراد أصحاب النبي (ص) أن يُلقِّنوه درساً في عدم الاعتداء على النبوة، لكن النبي (ص) أخذه إلى بيته وأطعمه وأكرمه، فطابت نفسه، فقال له: سامحني يا رسول الله، فقد أخطأتُ بحقِّك، فطلب منه النبي (ص) أن يُظهر ذلك أمام أصحابه حتى يرتفع ما في نفوسهم عنه، ففعل، فقال (ص) ما مفاده أنّه مثله ومثلهم من هذا الأعرابي المُسي، كمثل ناقة شردت وتمرّدت، فحاول الناس إرجاعها بالقوّة، فامتنعت، ثمّ أتاها صاحبها فتودّد لها حتى أناخت له!!. فأيّما أفضل؟! يقول الشاعر:

إنّ المسيء إذا جاريته أبداً **** بفعله زدته في غيِّه شَطَطاً

العفو أحسن ما يُجزى المسيء به **** يُهينه أو يريه أنه سقطا!

 

8- التسامح.. رحمة:

المسامح رحيم لأنّه تعلّم من أخلاق الله تعالى أنّه رؤوف رحيم يتودّد إلى مَن يؤذيه بأوليائه ومَن يؤذى فيه، وأنّه التواب الرحيم الذي يتوب على من يعاديه، ولذلك فهو يرحم مَن في الأرض أملاً ورجاءً بأن يرحمه مَن في السماء، ذلك أنّ من موجبات الرحمة الإلهية هي هذه الرحمة الإنسانية الغاضة الطرف، المتسامحة الصافحة عن أخطاء الضعفاء.

يقول الإمام علي (ع): "أبلغ ما تستدرّ به الرحمة أن تضمر لجميع الناس الرحمة".

ومن الرحمة الإعفاء عن الأخطاء ومسامحة الجهلاء، والمُسامح إذا يرحم المُسيء يطمع بالرحمة الأوسع رحمة الرحمن الرحيم، هو يهبها في الدنيا صغيرة محدودة ليستحقّها في الآخرة واسعة شاملة.

يقول الشاعر وقد اتخذ قراراً بالرحمة بالمسيئين:

سأُلزِم نفسي الصفح عن كلِّ مُذنبٍ **** وإن كثرت منه إليَّ الجرائمُ

فما الناس إلا واحدٌ من ثلاثةٍ **** شريفٌ، ومشروفٌ، ومثلٌ مُقاومُ

 

9- التسامح.. رفق:

المسامح رفيق؛ لأنّ الرفق ما دخل على شيء إلا زانه، فكيف إذا كان الدخول على رفع العتب، وغفران الذنب، واللطف في معاملة المسيء؟ يقول الشاعر:

إذا عفوتَ عن الإنسان سيِّئةً **** فلا تروِّعه تأنيباً وتقريعا

المُسامح يستذكر أنّ التفاف الناس حول النبي (ص) واستقطابه لهم كان بهذا اللّطف والرِّفق والمُسامحة، لقول الله تعالى له: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ) (آل عمران/ 159)، لا تصفح ولا تعفو ولا تُسامح، (لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)، منفرطين مشتّتين مفترقين، (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ)، حين يكون عفوك اجتلاباً لمشاعرهم، ومغفرتك زيادة في مودّتهم.

وليس اعتباطاً – بعد ذلك – أن يكون الرِّفق نصفُ المعيشة؛ لأن به تقوم العلاقات وتدوم المودّات، وتستمرّ الصداقات، وتُستدام الزيجات، وتقوى الحكومات.

ولقد كان الإمام علي (ع) يوصي من وحي التجربة، قائلاً: "الرِّفق بالأتباع من كرم الطِّباع".

وكان النبي (ص) يصف المُسامح الرفيق بأنّه أعقل الناس، فيقول: "أعقل الناس أشدّهم مداراة للناس".

إنّ مشكلة المشاكل اليوم هي شيوع العُنف بمختلف أصنافه، فبدلاً من (الحوار) والإلتقاء على كلمةٍ سواء)، وبدلاً من (الإصلاح) و(المُسامحة) وتذليل الصعاب، نرى أنّ اللغة السائدة بين الكثير من الأطراف والجماعات المتنازعة، هي لغة النار والإفناء والمصادرة.

يقول الإمام علي (ع) في ثمرة الرفق والمسامحة: "الرِّفق يؤدي إلى السلم". والله رفيق يحب الرفق، ومن رفقه بنا تسليل أضغاننا، ومن السبل الكفيلة باستدلال الأضغان هو (التسامح)، بل يأتي في الصدارة منها.

 

10- التسامح.. إيثار:

المُسامح مؤثر.. يؤثر الصفاء على المصادمة، والعفو على الانتقام، و(الجزاء) على المجازاة)؛ لأن المؤثر عادةً يزهد بالقريب لينال البعيد، فهو يرجو بلطف سماحته وتسامحه أن يحظى بشرف الإحسان والكرم.

يقول تعالى لكليمه موسى (ع)، مبيِّناً منزلة المؤثِرين: "يا موسى! لا يأتيني أحد منهم قد عمل به (الإيثار) وقتاً من عمر إلا استحييت من محاسبته، وبوّأته (أحللته) من جنّتي حيث يشاء"!

قل لي بربِّك: كيف لا يكون المُسامح مؤثراً إيثار العفو، وهو يعلم أنّ الله تعالى يُثيب صاحبه هذا الثواب، ويُكافأة هذه المكافأة؟!

 

11- التسامح.. مُداراة:

كان رسول الله (ص) يقول: "أمرني ربِّي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض".

ولمُداراة الناس أشكال وصيغ متعدِّدة، لعل من أهمها المسامحة والتسامح، والمسامح إذ يُسامح الناس يستمتع بصحبته لهم، ويُميت أضغانهم، ولذلك جاء قول الإمام الصادق (ع) في قوله تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) (البقرة/ 83): "أي للناس كلهم مؤمنهم ومخالفهم: أمّا المؤمنون فيسبط لهم وجهه، وأمّا المخالفون فيُكلِّمهم بالمُداراة لاجتذابهم إلى الإيمان، فإنّه بأيسر من ذلك يكفّ شرورهم عن نفسه وعن إخوانه المؤمنين".

وفي (المحاسن) عن أبي بكر الحضرمي، قال (علقمةُ) أخي لأبي جعفر الإمام الباقر (ع): "إنّ أبا بكر – يعني أخاه – قال: يُقاتل الناس في عليّ! أي أنه يحارب الذين يشتمونه.

فقال (ع): إني أراك لو سمعتَ إنساناً يشتم عليّاً فاستطعت أن تقطع أنفه فعلت؟!

قلت: نعم.

قال: فلا تفعل. ثمّ قال: إني لأسمع الرجل يسبُّ عليّاً واستتر منه بالسارية (الاستطوانة أو العمود من الخشب)، فإذا فرغ أتيته فصافحته"؟!

إنّ وصيّة من قبيل: "دار الناس تأمن غوائلهم، وتسلم من مكائدهم"، يلتقطها المُسامح ليضعها في أجندته، ولتكون قاعدة من قواعد حياته العملية، ذلك أن مَن كفّ يده عن الناس، بالمُداراة والمسامحة، فإنما يكفّ عنهم يداً واحدة، ويكفّون عنه أيادي كثيرة"!

 

12- التسامح.. صدق:

المُسامح صادق، لأنّه يعلم أنه يريد رأب الصدع، وإزالة الكدورة، وترميم العلاقة، والحفاظ على حبل المودة موصولاً، لذلك تصدِّقه نفسه على فعله التسامحي ويُصدِّقه الله عزّ وجلّ لأنّه يعلم بأنّه صادق.

والمُسامح صادق مع الآخر المسيء، لا يعفو أو يصفح عنه ليستدرجه أو ليوقع به، أو يكيد له، فهو إذ يمدّ يد المُصافحة لا يطعن في الظهر، وإذ يشرق وجهه بابتسامة العفو لا يخفي وراءها قناعاً من تبييت الإساءة لاحقاً، فلا يتحوّل غصن الزيتون في يده إلى شوكة أو سكِّين أو إلى طعنات خلفيّة.

 

13- التسامح.. شرف:

إذا كان أفضل الشرف (كفّ الأذى)، فالمُسامح من أفضل الشرفاء؛ لأنّه يكفّ أذاه عمّن آذاه، وبالتالي فإنّ المسامحة شرف؛ لأنّها تصطنع العشيرة، أي تجتذب الناس فيكون أصحاب المُسامح كثيراً، ولقد يسود بعضُ الناس قومه وعشيرته وأهله ربّما أبناء وطنه بهذا الشرف العظيم الذي لا يناله إلا ذو عظيم.

 

14- التسامح.. زُهد:

المُسامح زاهد، لا بمعنى الزهد المادي في مالٍ أو ثروة أو عَرْضٍ دنيوي، بل هو زاهد بغرائزه وانفعالاته وشهوة انتقامه وغضبه، وهو أجل زينة يتحلّى بها متحلٍّ.

قيل لأمير المؤمنين (ع): "ما الزهد في الدنيا؟ قال: تنكّبُ (الابتعاد عن) محارمها"! ومن محارمها أن تُقابل الإساءة بالإساءة والعدوان بالعدوان أو ربّما بأسوأ منهما تشفِّياً وانتقاماً.

ومن صفات الزاهد أنّه يختار الآخرة على الدنيا، وعاقبة (الآجل) على محبّة (العاجل)، ولذلك فهو يزهد فيما يفنى (من كشفٍ وثأرٍ وانتقام) على قدر يقينه فيما يبقى، وهو يشعر شعوراً غامراً بالسعادة،حينما يسترجع الموقف ويستذكر الإساءة فيرى أن موقفه منها كان موقف الزاهد في المقابلة بالمثل.

 

15- التسامح.. عقل:

المُسامح عاقلٌ ولا شكّ، وعارفٌ ولا شك؛ لأن معرفته دلّته على انتخاب طريق المسامحة هو – بجميع المقاييس – أفضل من اختيار طريق المواجهة والمناكفة وردّ الصاع صاعين.

المُسامح عاقلٌ؛ لأنّه لم يُقابل (الجهل) بـ(جهل).

وهو عاقلٌ؛ لأنّه يستخدم عقله في المواطن والمواضع التي تنقده من مغبّة الشر والمصادمة، وتصعيد الموقف، وإشعال النيران.. عقله (يهديه) فـ(يُنجيه).

وهو عاقلٌ؛ لأن عقله يُنزِّهه عن المنكر ويأمره بالمعروف.

والمُسامح عاقلٌ لأنّه يستهدف الصلاح.

وهو عاقلٌ – تمام العقل – إذ لا يستعين بالعشيرة أو بالشرطة أو بالسفهاء ليؤدِّبوا المسيء بطريقة مؤلمة أو مفجعة.. إنّه يستعين بعلقه عليه، والعقل لا يغشّ مَن استنصحه.

وإلى هذا وذاك، فالمُسامح عاقل؛ لأنّ نفسه تجاذبه بين (عقله) و(هواه)، فلا يسمح بالغلبة للثاني على الأوّل.

 

16- التسامح.. تقوى:

هل عندك أدنى شك في تقوى المُسامح؟

لنعرف التقوى أوّلاً، حتى نعرف بعد ذلك هل المُسامح متّقي أو لا؟

التقوى إيمان مع مخاقة الانزلاق إلى هاوية الانحراف، فهي سياج عاصم من الانحرافات.. هي وقاية.. والوقاية خيرٌ من العلاج.

بهذا المعنى.. المُسامح متّقي من الدرجة الأولى، إنّه يخاف إن عصى ربه عذاب يوم عظيم.. لأنّ بالتقوى التي هي ملاك الأمر وأقوى الأسس فاز الفائزون.

يقول الإمام علي (ع): "إنّ مَن فارق التقوى أُغرِيَ باللذات والشهوات، ووقع في تيه السيِّئات، ولزمه كبير التبعات".

ولو عرضنا هذا على المُسامح، لرأينا أنّه (عرضت) له أوّلاً لذة التشفِّي (فأعرض) عنها، ودعته (شهوة الإنتقام) فصدّ عنها، ولوّحت له الإساءة التي اقتُرِفَت بحقِّه بأن يُقابلها، فأبى. فلم تلزمه تبعة لأنّه حازَ على مُنتهى رضا الله.

أراد الموقف المتشنِّج الآني أن يستدرجه، فحرصَ على أن لا يمدّ له يداً، وهل التقوى إلا هذا؟!

 

17- التسامح.. تزكية:

التزكية عمل رياضي، هو بذل المجهود للحصول على (الرشاقة) المعنوية، ذلك أنّ الإسترسال مع الشهوات أشبه شيء بالإسترسال مع المأكولات، يُكثِّف الشحوم ويرفع نسبة الدهون في الدم، أما الكفّ عنها، أو كبح جماحها، أو بناء سد لمنع طوفانها من أن يأتي على الأشياء الحيّة، فيسبقها، فهو عملٌ مجيد.

والمسامح – بهذه الرؤية – مُزكٍّ لنفسه و(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) (الشمس/ 9)، فلو افترضنا العكس وهو أنّ المُساء إليه تجاوب مع أجواء الإساءة فأزبد وأرعد وهدّد وتوعّد وخطّط للإنتقام ونفّذ، فما هي مردودات عمله هذا على نفسه؟

إنها دعتهُ إلى السوء فأساء، وإلى الإنتقام فانتقم، وإلى الثأر فثار وثأر، فهل هذا من التزكية في شيء؟ هل هو من الطهارة والتنقية وإصلاح الذات؟ إنّه انقياد أعمى للغريزة.

بينما نرى أن بمسامحة الآخر خلّص نفسه من الوقوع في براثن الانتقام الذي هو اندفاع غريزي لا يعطي عن صاحبه إلا انطباع الانفعال والتهوّر والتجاذب مع الإساءة.

 

18- التسامح.. عادةٌ خيِّرةٌ:

التسامح من عادات الخير والأخيار، يقول الإمام علي (ع): "تخيّر لنفسك من كل خلق أحسنه، فإنّ الخير عادة، وتجنّب من كل خلق أسوأه، وجاهد نفسك على تجنّبه، فإنّ الشر لجاجة".

فلكي يكون السماح والتسامح عادة حسنة، لابدّ من أن نعرف الإجابة عن سؤال: القابلية على التسامح من أين تأتي؟

أ‌-      من تقديرنا لإيجابيات ومنافع التسامح.

ب‌- من مران ومراس وتذوّق علاقة التسامح بالتجربة.

ت‌- من السعي للتخلّق بأخلاق الله العفو الغفور.

ث‌- من محاولة امتلاك ملكة الحلم والصبر وكظم الغيظ.

ج‌-   من تثبيت قاعدة أني لست الأفضل بين الناس.. إنّهم كما يخطئون فأنا أخطئ، وكما يزلّون أزل، وكما يضعفون أضعف.

ح‌-   من معرفة أنّ "أشرف الثأرِ العفو"!

 

19- التسامح.. قدرة على العفو:

تُجابه المُساء أو المُعتدى عليه قدرتان في الرد على الإساءة أو الاعتداء: قدرة الرد بالمثل أو الأسوأ، والقدرة على العفو، وفي اختيار إحدى القدرتين يتبيّن معدن الإنسان وجوهر شخصيّته.

المُسامح ذو نفس كبيرة؛ لأنّه يتحلّى بالمقدرة على المغفرة، وقد أُثِر عن (جواهر لال نهرو) قوله: "النفوس الكبيرة وحدها تعرف كيف تُسامح"!

وفي الأمثال العربية: "العفو عند المقدرة من شِيَم الكِرام".

وكم كان الإمام جعفر الصادق (ع) بعيد النظرة حينما قال: "لأن أندم على العفو خير من أن أندم على العقوبة"!!

 

20- التسامح.. حائل عن الغرور:

لو لم يكن المسامح متواضعاً، لقابل الإساءة بالإساءة، أو بالأسوأ؛ لأن نفسه حينذاك تُحدِّثه بأنه ذو شرف ومقام وجاه وعنوان وعشيرة، فكيف يسمح لـ(صعلوك) أن يتعدّى عليه، وكيف يجيز لـ(تافه) أن يتطاول عليه، وكيف يرضى الإهانة لنفسه من (ناقص)، وما إلى ذلك ممّا تختلقه النفس الأمّارة بالسوء ويُزيِّنه الشيطان.

إنّ التسامح، بما هو حيلولة دون الغرور، تواضع، وبالتالي فهو زينة وهو رافعٌ صاحبه.

إنّك إذا سامحت (ارتفعتَ) عن مستوى (العقوبة)، و(رفعت غيرك إلى مستوى (الصلاح)، فأن تُسامح وأنت لستَ بمعصوم يرفع ذلك من مقامك في نظر نفسك قبل نظر الآخرين إليك، إنّه يُكسبك شيئاً من العصمة.

 

21- التسامح.. إلتفات إلى الداخل:

المُسامح قرّر ما يلي:

بدلاً من أن يلتفت إلى عيب الآخر فيُعيِّره به، أو يذمّه عليه، أو يعاقبه به، انكفأ على نفسه ليرى ما فيها من عورات ومثالب ومآخذ وعيوب، وقد أحسن صُنعاً بذلك.

يقول رسول الله (ص) في لفتة إنسانيّة غاية في النُّبل والإيحاء: "مَن أطفأ عن مؤمنٍ سيِّئة، كان خيراً ممّن أحيا موؤودة"! فأيّة قيمة للتسامح أرفع وأغلى من هذه القيمة؟

ويقول الإمام علي (ع): "استر عورة أخيك بما تعلمه فيك"! "فكلّك عورات وللناس أعينُ" كما يقول الشاعر.

وجاء رجل إلى النبي (ص) فقال له: أحب أن يستر الله عليَّ عيوبي.

فقال له (ص): "استر عيوب إخوانك، يستر الله عليك عيوبك".

إنّ قرار مؤاخذة النفس على عيوبها، بطرح السؤال التالي عليها: وأنتِ يا نفسُ كم عندكِ من هذه الإساءات؟ سيرفعنا إلى درجة التسامح حتماً.

 

22- التسامح.. أمن وسلام:

المُسامح مُسالِم، يُطفئ نار الحرب التي تُشعل ضدّه بمسامحته ومسالمته، هو إنسان مأمون الجانب، ربّما لم يقرأ ما قاله (غاندي): "إذا قابلت الإساءة بالإساءة، فمتى تنتهي الإساءة"؟ لكنّه حتماً يحمل في داخله مضمونها، إنّه ليس عدوانياً ولو شاء لفعل، لكنّه من حملة السلام والأمان إلى الناس.. هو (هابيلي) لا يبسط يده بالقتل ولا بالعدوان ولا بالإثم، وبالتالي فهو لا يريد إلقاء الحطب أو الزيت على النار، هو (إطفائي) يحاول إخماد الحرائق. والمُسامح يعمل بخير أخلاق الدنيا والآخرة.

فعن النبي (ص): "ألا أخبركم بخير أخلاق أهل الدنيا والآخرة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إفشاء السلام في العالم"!

والمسامحون مسالمون ودُعاة سلام، ومن أمثالهم يؤمل الخير ويُنتظر السلام.

 

23- التسامح.. حمل فعل الآخر على الخير:

حُسن ظنّك بالآخر، وحملك على أكثر من وجهه، والبحث عن عذر لما قام به أو صدر عنه، هو من صفات الإنسان المُسامح أو الشخصية المُسامحة، إنّك تضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيه منه ما يغلبه، ولا تظنّ بكلمةٍ خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً.

يقول رسول الله (ص): "إطلب لأخيك عذراً، فإنّ لم تجد له عذراً فالتمس له عذراً".

وهذا من أجل وأفضل أنواع التسامح، فهو ينطلق من نظرة إيجابية للآخر، ولا يحمل إساءته على أنّها إساءة؛ لأنّه قرّر سلفاً أن يتعاطى مع كلمات السوء أو أفعال السوء التي تخرج أو تصدر عن الآخر على أنّها قابلة للتبرير أو التأويل، أو أنّ القصد منها غير ما يبدو على السطح، فلعلّ له عذراً وأنت تلومُ!

 

24- التسامح.. قبول عذر المُعتذِر:

من طبيعة الشخصية المُسامحة أنها تقبل عذر المُعتذِر بلا عنت ولا تأنيب ولا لوم، بل تُرحِّب بذلك ترحيباً حارّاً، حتى كأنّ المعتذر بالنسبة لها ذو نعمة عليها.

يقول الإمام زين العابدين (ع): "لا يعتذر إليك أحد إلا قبلت عذره، وإن علمت أنّه كاذِب"!

لماذا، حتى لو كان كاذباً؟

من أجل أن يبقى الباب مفتوحاً لتسوية النزاع أو الخِلاف، فإذا ثبت أنّ المعتذر اعتذر ليعاود الإساءة، فلكلّ حادثٍ حديث، وأما من حيث المبدأ فالإعتذار مؤشِّر على الاعتراف بالخطأ، ويؤخذ بهذا اللِّحاظ.

ويدعو (ع) إلى روحية التسامح وقبول الإعتذار من غير تعنيف المُخطئ أو المُسيء، فيقول: "إن شتمكَ رجلٌ عن يمينك ثمّ تحوّل إلى يسارك واعتذر إليك، فاقبل عذره". أي لا تؤخِّر قبولك لعذره، فلعلّه أخطأ ثمّ استدرك.

أمّا ما هو أثر قبول العذر والتسامح أو المُسامحة، فقد عبّر الإمام علي (ع) عنه بقوله: "إقبل أعذار الناس تستمتع بإخائهم، وألفهم بالبشر تُمِتْ أضغانهم".

وشدّد النبي (ص) على مَن لم يقبل المعذرة، بقوله: "مَن أتاه أخهُ متنصِّلاً (أي معتذراً) فليقبل ذلك منه، مُحقّاً كان أو مبطلاً، فإن لم يفعل لم يرد عليّ الحوض"!

إنّ اعتذار المُسيء تكفير عن الإساءة، فليجد عندك عَوْناً على غسل أو محوه أو شطب إساءته، ولا تكن أنت والشيطان عوناً على أخيك.

 

25- التسامح.. إحياء للسنة المطهّرة:

المسامح يقتدي بهدي نبيّه (ص)؛ لأنّه أفضل الهدي، ويهتدي بسنّته فإنّها أهدى السنن، فلقد مرّ بنا كيف كان (ص) يُسامح المسيء، ويغفر للمذنب، ويعفو ويصفح عن المخطئ، وكيف أنّه سامح قريش التي أذاقته ألوان العذاب، فجعل قدرته عليهم فرصة للعفو عنهم، وكيف أنّه سامح (وحشيّ) قاتل عمّه حمزة (رض)، وسيرته (ص) حافلة بنماذج وشواهد العفو الكثيرة التي أخذها عنه أهل بيته (ع) والأبرار الصالحين من أبناء هذه الأُمّة.

فهذا حفيده الإمام الباقر (ع) يتعرّض للإساءة من شخص ربّما أراد اختبار حلمه وصبره على الأذى، فإذا به ينعته بأنّه بقرة، فلا يرد عليه الإمام بأكثر من أن قال: لقد سمّاني جدِّي رسول الله (ص) الباقر، ولمّا عيّره بمهنة أُمّه وهي الطباخة، قال له: تلك هي حرفتها، ولما زاد في الإساءة بقوله: يا ابن الزنجية البذيئة، لم يخرج الإمام عن طوره، بل قال له بكل هدوء: إن كانت كما تقول غفر الله لها، وإن كانت ليست كما تقول غفر الله لك!

وإذا بهذا اللطف والتسامح والترفع عن مقابلة الإساءة بالإساءة، يفعل فعله في نفس المُسيء البذيء ليتوب على يدي الإمام ويشهر إسلامه.

 

26- التّسامح.. توفيق:

والمُسامح – بعد هذه الجولة في خصائص شخصيّته – موفّق قد أنعم الله تعالى عليه بنعمة التوفيق في عمله وسلوكه ومواقفه، ولذلك ورد في الأثر: "مَن أمدّه التوفيق أحسن العمل". فبمساعدة التوفيق استطاع المُسامح يُسامح.

يقول الإمام علي (ع): "إنّ لكم عند كل طاعةٍ عوناً من الله سبحانه". ولذلك استوجبت المُسامحة الشكر للمُنعِم الذي وفّق لهذه الطاعة وسائر الطاعات.

 

أخطاء في الممارسة

التسامح الحقّ هو ما استعرضناه بشرائطه وخصائصه وملازماته، ولكن ينبغي القول أن ليس كلّ مسامحة تسامحاً، فقد يخالط التسامح أو المُسامحة أمور تنتقص من قيمة هذا المفهوم، وهذه بعض المشاهد:

 

1- العفو اللِّساني:

تشيع على ألسنة الكثير من الناس كلمة (العفو) و(المعذرة)، وهم لا يتصوّرون معناها الحقيقي، فقد تكون عادةً اعتادوها، وهم يُردِّدون هذه الكلمات الطيِّبة بشكل عفوي، وقد لا ينطوي اعتذارهم أو طلب العفو على خطأ أو إساءة صدرت منهم على استشعار جدي لما صدر عنهم، بدليل أنّهم سرعان ما يعيدون نفس الخطأ، ويُكرِّرون نفس عبارات الاعتذار وطلب المُسامحة.

المطلوب منّا – كما سبقت الإشارة – أن نقبل الاعتذار ولو كان سطحيّاً، بل حتى ولو كان كاذباً، لكنّ ثقافة التسامح تقتضي أن يُقلع المُعتذر عن إساءته مستقبلاً، حتى لا يبدو وكأنّه يستهزئ بالمُعتذر إليه، وحتى لا يصل الأمر بالمُساء إليه أن يرفض اعتذار مَن اعتذر إليه على نحو الهزء والسخرية والاستخفاف.

 

2- المُسامحة المشروطة:

كثيراً ما نسمع عبارات من قبيل: لن أسامحه حتى يعتذر، أو لن أقبل عذره حتى يفعل كذا وكذا، أو لا أسامحه حتى يعطيني موثقاً أنّه لن يعود إلى مثلها، وقد تكون هذه العبارات وأمثالها حقوقاً وليست شروطاً، ولكنّنا ونحن نتحدث عن روحيّة المُسامحة، نرى أنّ وضع الشروط المُسبقة لا يتناسب – في بعض الأحيان – مع تلك الروحية المستعدّة للغفران حتى ولو لم يستحقّ الطرف الآخر العفو والمغفرة، وقد تكون بعض الشروط للمُسامحة تعجيزيّة إو إذلالية أو تركيعية أو مجحفة، ممّا يستبطن ضمناً عدم الإستعداد للصّفح، وإنما يضع البعض شروطاً كهذه لئلا يُقال إنّه رافض للتسامح وغير مستعدّ لطيِّ صفحة الماضي، أو أنّه (صعب) أو (متصِّلب).

 

3- مُسامحة المُعاوضة:

المُسامحة – كما ذكرنا – هي التي تكون مبادرة وعن تطوّع، صحيح أنّ الذي سبق له أن سامحك يجعلك تُسامحه في مواقف الخطأ والإساءة من باب المُقابلة بالمثل، أو ردّ الجميل، ولكن التسامح خلق لا يبتني على المعاوضة، أو على طريقة واحدة بواحدة، بل هو استعداد للعفو والصفح حتى مع عدم الاستحقاق، وحتى لو لم يسبق للمسيء أن أخطأ فاعتذر، فالأمر يعنيني – أنا المُسامِح أكثر ممّا يعني المُسامَح. يقول الشاعر:

مَلَكْنا فكانَ العَفوُ منّا سجيّةً **** ولمّا مَلَكتُم سألَ بالدمِ أبطحُ

فَحَسْبُكُمُ هذا التفاوتُ بينَنا **** وكُلُّ إناءٍ بالذي فيه يَنْضَحُ!

 

4- المُسامحة بالمنِّ والأذى والتعبير:

قد يقبل بعضنا عرضاً باعتذار المُسيء، ولكنّه عندما يقبل المُسيء حاملاً خجله واعتذاره وصغاره، ربّما يُفاجئ بموجة من التقريع ونكأ الجراح، وكشف المستور، والتأنيب على مرأى ومسمع من الآخرين، ليقول للمُعتَذِر بعد أن يكون مسحَ به الأرض.. والآن سامحتك.

إنّ مجرّد مجيء المُعتَذِر إلى المَعتَذَر إليه في محلِّ إقامته أو في مكانٍ يُقترَح أن يكون موضعاً للمُصالحة، كافٍ بحدِّ ذاته للفلفة الموضوع وطيّ صفحة الماضي، وفتح صفحة جديدة من غير تعريض المُعتَذِر إلى مزيدٍ من الإحراج وثقل الموقف والضغوط النفسية التي تستتبع ذلك.

يقول رسول الله (ص): "إنّ الله يغفر ولا يُعيِّر، والناس يُعيِّرون ولا يغفرون"!

لقد علّمنا الله تعالى أن نصفح الصفح الجميل، فهل هذا منه؟!

 

5- المُسامحة الفخّ:

وقد يحلو للبعض أن يؤذي المُسيء أذىً بليغاً، فهو قد يُظهِر استعداده للعفو والصفح أمام الآخرين، حتى إذا أتاه أخوه متنصِّلاً – بتعبير الحديث النبوي – لم يقبل عذره، زاعماً أنّه ليس مُحِقّاً ولا صادقاً في اعتذاره، وهو يعلم أنّ المُعتذر قد قصده وهو مُثقل بخطأه أو إساءته، وأنّه كالمريض الذي يحتاج إلى جرعة دواء، أو كالجريح الذي ينتظر الضمّاد، فإذا بالطرف الآخر يُرجعه خائباً مخذولاً مُثخناً بالجراح، وغالباً ما يتحوّل الحقّ في مثل هذه الحالات من صاحب الحقّ ليكون عليه؛ لأنّه أضاع فرصة الاعتذار وإصلاح ذات البين بعنجهيّته ونصبه لمجلس المصالحة فخّاً يوقع به أخاه ويُسيء إليه بأبلغ وأفظع من إساءته، "ومَن بالغَ في الخصومةِ آثِم"!

 

6- المُسامحة الظاهرية والصوريّة:

وقد يضطرّ البعض للمُسامحة أمام ضغوط الجماعة ذات المسعى الحميد لرأب الصّدع، فيُظهر مسامحته للمُسيء، حتى إذا انفضّ الجمع ومضى كلٌّ إلى سبيله، رأيته يحمل ويتحامل على أخيه، ويُبقي على جفائه بحجّة أنّه لم يكن مُستعدّاً للمُصالحة والعفو والمُسامحة، ولكنّه عند رغبة الجماعة، وهو بهذا يدين نفسه، فلو عزف عن المُصالحة منذ البدء لكان الموقف أهون، أمّا وقد سامح في الظاهر وبقيَ في النفس شيء من المُسيء، فذلك ما لا ينسجم مع المُسامحة الصادقة الصريحة التي ذكرنا مواصفاتها من قبل.

 

7- المُسامحة الجزئية:

وقد يُسامح البعض على خطأ في الماضي، ولكنّه قد يرفض رفضاً قاطعاً المسامحة على الأخطاء الجديدة أو بالعكس، أو أنّه يُسامح على الصغيرة ولا يُسامح على الكبيرة، أو أنّه انتقائي في مُسامحاته، يُسامح شخصاً على خطأ ما ولا يُسامح الآخر على نفس الخطأ.

وهذه المُسامحات وإن عبّرت في المظهر الخارجي عن شيء من روح التسامح، إلا أنّنا لا نجدها وافية أو كافية ولا مُعبِّرة عن شخصيّة مُسامحة، هي مزاج المُسامحة لا روحها.

 

8- مُسامحة الأخطاء لا الأشخاص:

وهذا لون آخر من المُسامحة المجافية للخلق الإسلامي والروح المُتعالية على الانتقام، فقد يقول أحدهم: أنا سامحتُ فلاناً عن خطأه أو إساءته، لكنني لا أريد أن أسامح الشخص، وهذه المُسامحة الناقصة أو المبتورة لا تجدي نفعاً في إصلاح الخلل الحاصل في العلاقة، ذلك أنّ الطرف الآخر يبقى يعاني تحت وطأة إساءته، ولذلك ورد في الأثر أنّ الله تعالى قد يحبّ العبد ويبغض عمله، أو يبغض العبد ويحبّ عمله، وقد ورد عن (غاندي) قوله: "نحنُ لا نُعادي الأشخاص بل أخطاءهم". فإذا قلبنا الآية وعادينا الأشخاص، فأين المُسامحة؟!

 

9- الإصرار على رفض المُسامحة:

إنّ الذين يتّبعون أسلوب إحصاء العثرات وجميع النقاط السلبية على الآخر بعد أن يكونوا قد لاحظوا شيئاً سلبيّاً في شخصيّته أو مواقفه، إنّما يتتّبعون العثرات ليفضحوا بها صاحبها، فهؤلاء لا يُتوقّع منهم أن يُسامحوا ويصفحوا يوماً ما.

وقد يدفع ردّ الفعل أشخاصاً انتُقدوا في سلوكيّاتهم فيعمدون إلى أسلوب جمع النقاط حتى يحرجوا بها مَن سبقَ له أن أحرجهم، وليس ذلك من الخلق الإسلامي أوّلاً، ولا من مُسامحة المُسيء، بل هو مقابلة المُسامحة بالإساءة، والإنتقاص بالإنتقاص، والتسقيط بالتسقيط، والجميع في ذلك مُدان.

 

10- أسامحه في الحرام ليُسامحني فيه:

ولعلّك تجد بعض الناس يُسامحون مُرتكبي المُنكرات ويتساهلون معهم، ويغضّون الطرف عن انحرافهم ومخالفاتهم، بغية أن يسكت هؤلاء أيضاً عن عثرات وأخطاء وانحرافات الساكتين عنهم، وبذلك يستحفل المُنكر ويترعرع في وسط هذه المُسامحات المُخلّة التي يستحيل فيها المُنكرُ معروفاً والمعروفُ منكراً.

يقول الإمام علي (ع): "ما يمنع أحدكُم أن يلقى أخاه بما يكره من عيبه إلا مخافة أن يلقاه بمثله، قد تصافيتم على حُبِّ العاجل وفضله على الآجل"!

 

المُسامحة من عزم الأمور

قال تعالى: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ) (الشورى/ 43).

عبارة (عزم الأمور) إشارة إلى العمل الذي أمر الله تعالى به، ولا يمكن أن يُنسخ، وقيل إنّه من الأعمال التي يجب أن يشدّ الإنسان العزم لها. ومجيء (الصبر) قبل (الغفران) في الآية دليل على أنّ العفو والغفران لا يمكن أن يحصلا بدون الصبر؛ لأنّه مع افتقاد الصبر يفقد الإنسان سيطرته على نفسه ويحاول الانتقام مهما كان، فالصّبر هو الآلة التي ينجز بها فضيلة (المُسامحة).

فالمُسامحة تتطلّب قوّة واقتداراً وتصميماً (عزم الأمر) لانجازها، لأنّها ليست حلية تُلبَس أو زينة يُتزيّن بها، بل هي (مَلَكَة) يجب أن تتوفّر في سبيل استحصالها قوّةُ عزيمة واستشعارٌ واستحضارٌ لكل القِيَم التي تُشكِّل منظومة التسامح كقيمة كلِّية أو شمولية.

والتسامح من (عزم الأمر)؛ لأنّه ارتفاع بالموقف عن النوازع الذاتية التي تُحرِّكها العوامل الغريزية، واتِّصال العزم بالصبر والإرادة لانتاج المُسامحة هو مقدّمة ضرورية، وبمعنى آخر، إذا أردنا أن نكون من حزب المصالحين، فلابدّ من تعلّم الصبر أوّلاً لنتمكّن من السيطرة على النفس التوّاقة إلى الانتقام والمنازعة إلى حبّ التشفِّي في حالات الشتم والإهانة والإساءة، فهي إن تُركت على هواها داوت الألم النفسي بالهياج النفسي، وإن تعاطت عقار الصبر عالجت ألمها بدون المشرط والسِّكِّين، فالعفو عند المقدرة يتطلّب عقار (الصّبر).

يقول تعالى: (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) (الشورى/ 37).

وفي الحديث والسيرة: "ما انتقم النبي (ص) لنفسه قطّ، إلا أن تُنتهَك حُرمات الله"!

ولا تعارض أو تنافي بين هذا وبين قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) (الشورى/ 39). فلكلِّ آية مجالها الحيوي الذي تتحرّك فيه، فالله تعالى يأبى الظلم البغي والطغيان والعدوان، ولذلك اعتبر الانتصار عند البغي واجباً وفضيلة؛ لأنّ التذلّل لمَن بغى واستعلى وأفسد يتنافى مع عزّة المؤمنين.

يقول سيِّد الشهداء الإمام الحسين بن علي (ع) في إبائه للضّيْم: "يأبى اللهُ لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحُجُورٌ طابَت وطَهُرَت وأنُوفٌ حميّةٌ ونُفوسٌ أبيّةٌ أن نُؤْثِرَ طاعَةَ اللِّئامِ عَلى مَصارِعَ الكِرام"!

ويقول (الرازي) في تفسيره: العفو قسمان:

الأوّل: أن يكون سبباً لتسكين الفتنة، وتهدئة النفوس، ورجوع الجاني عن جنايته، وهذا محمود، تُحمل عليه آيات العفو، مثل: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (البقرة/ 237). وهذا مرغوبٌ فيه داخل الأُمّة الواحدة.

الثاني: أن يكون سبباً لتجرّؤ الظالم وتماديه في غيِّه واستضعافه الأُمّة، وهذا مذموم، تحُمل عليه آيات الحثّ على الانتقام، وهو واجب في مقاومة العدوّ الخارجيّ، وعند اغتصاب الحقوق.

لقد كان رسول الله (ص) – كما كان أخوه يوسف (ع) من قبل – قادراً على الانتقام والفتك بقُريش، أو مؤاخذتهم، ومقابلتهم على صنيعهم المُخزي، لكنّه عفا عن أهل مكّة بعد فتحها ليُدشِّن عهداً جديداً من الرحمة والتراحم والسِّلم والمُسالمة والصّفح والمُسامحة ليُعبِّد بذلك الطريق إلى بناء الدولة.

وعفا (ص) عن أولئك النّفر الثمانين الذين قصدوه عام الحُديبية، ونزلوا عن جبل التّنعيم، فلمّا قدر عليهم مَنّ عليهم بالعفو مع قدرته على الانتقام.

وعفا (ص) عن (غورث بن الحارث)، الذي أراد الفتك به حين اخترط سيفه (سيف النبي (ص)) وهو نائم، فاستيقظ (ص)، وسيفه في يَدِ ابن الحارث مُصلتاً، فانتهرهُ فوقعَ من يدهِ السيف، فأخذه رسول الله (ص) وقال له: مَن يُنقِذكَ منِّي؟ فقال غورث: حِلْمُكَ يا رسول الله! فعفا عنه.

وعفا (ص) عن المرأة اليهودية (زينب أخت مرحب اليهودي الخيريّ)، التي سمّت الذراع يوم خيبر، فدعاها فاعترفت، فقال (ص): ما حملكِ على هذا؟ قالت: أردتُ أن أعرف إن كنتَ نبيّاً لم يضرّك، وإن لم تكن نبيّاً استرحنا منك، فأطلقها (ص) على الرغم أنّه مات – بعد ذلك – من سُمِّها.

وخلاصة القول في أنّ المُسامحة من (عزم الأمور) هو أنّ مَن يصبر على الأذى – إذا كان المُسيء مسلماً – وغفر له بأن تركَ الانتصار (الانتقام منه) لوجه الله تعالى، كان صبره ومُسامحته من عزائم الله التي أمر بها، ومن عزائم الصواب التي وُفِّقَ لها.

 

(ملاحق)

أوّلاً: التسامح الديني[4]

التسامح الديني – إصطلاحاً – يُقصد به الإشارة إلى ما يحتوي عليه دين ما من قواعد تسمح بحرِّية الأديان الأخرى، وما يتحلّى به أتباع هذا الدِّين من قابليّة لاستيعاب أتباع العقائد المُخالفة.

وبحسب (الموسوعة الإسلامية المُيسّرة) ج3: فإنّ للتسامح الديني مستويين إثنين:

الأوّل: مستوى نظريّ: ويُقصد به القواعد والأسس والمبادئ.

الثاني: مستوى عملي: أي التطبيقات والسلوكيات المنعكسة عن تلك القواعد.

ويرى الباحثون – مسلمين وغير مسلمين – أنّ الإسلام هو الدين الوحيد الذي يحتوي كتابه المنزل (القرآن الكريم) على قواعد مسجّلة تُنظِّم تعامل أتباعه على أتباع الأديان الأخرى، وذلك على خلاف اليهودية والنصرانية مثلاً، اللّتين تخلو كتبهما من مثل هذه القواعد الصريحة المتعلِّقة بالموضع مباشرة، ممّا دعا رجال الدين فيهما إلى اللجوء إلى الأخلاقيات التي جاءت بها التوراة والإنجيل.

ومن بين تلك القواعد القرآنية في مبدأ التسامح الديني، قوله تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة/ 8).

ولقد رسّخ الإسلام – من أجل التسامح الديني – عدداً من الأسس المرعيّة، ومنها:

 

1- أنّ الأديان تستقي من معينٍ واحد:

قال سبحانه: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (الشورى/ 13).

 

2- الأنبياء إخوة ودعوتهم واحدة:

قال عزّ وجلّ: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة/ 136).

 

3- لا إكراه في الدِّين، فالعقيدة يجب أن يتلقّاها العقل والقلب بالقبول:

قال تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة/ 256).

 

4- إختلاف الدِّين لا يمنع من البر والإحسان:

قال جلّ جلاله: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة/ 8).

 

5- الجدال مع غير المسلمين يكون بالتي هي أحسن:

قال تبارك وتعالى: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (العنكبوت/ 46).

وقال عزّ وجلّ: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام/ 108).

وفي السيرة المُطهّرة ورد عن النبي (ص) قوله: "مَن آذى إنجبيليّاً فقد أذاني".

وفي الرواية عن أبي داود، عن النبي (ص) قال: "مَن ظَلَمَ مُعاهداً، أو تنقّصه حقّه، وكلّفهُ فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيبِ نفسٍ، فأنا خصمه يوم القيامة".

وورد في (سيرة ابن هشام) أنّ النبي (ص) استقبل وفد نصارى نجران، وسمحَ لهم بإقامة الصلاة في مسجده، وأخرج (البيهقي) في (دلائل النبوّة) أنّ المصطفى (ص) استقبل وفد نصارى الحبشة وخدمهم بنفسه، وقال: "إنّهم كانوا لأصحابنا مُكرِمين، فأحبُّ أن أكرمهم بنفسي"!

ويقول (توماس أرنولد) في كتابه (التبشير بالإسلام): "لو أخذ بعين الاعتبار المشاعر الدينية اللاهبة التي كانت تعمر أفئدة الجماهير الإسبانية المسلمة، واستفزازات المسيحيين للحكم الإسلامي باتصالهم وتآمرهم سرّاً مع أبناء دينهم في الطرف الآخر من الحدود، لبدى لنا تأريخ إسبانيا في ظلِّ الإسلام بريئاً من الاضطهادات على نحو لافِت للنظر.

ويضيف (أرنولد) قائلاً: "ويعترف المستشرقون بالإجمال، خلا قلّة منهم يتسلط عليهم وسواس العداء للإسلام، بأنّ معاملة الذِّمِّيين كانت بوجه العموم مُتسامحة"!

ويذكر (ول ديورانت) في (قصّة الحضارة) والحقيقة الميدانية والتأريخية التالية: "ظلّ الإسلام منذ بزغ أكثر من ستة قرون يتزعّم العالم في القوة والنظام، والخُلق والتشريع الإنساني الرحيم، والتسامح الديني، والبحث العلمي، والفلسفة، والطب والأدب".

ولعلّنا نستطيع اختصار مقولة الإسلام في التسامح الديني في المأثور عن النبي (ص): "خالِط الناس ودينك لا تكلمنّه"، والكلم: الجرح. فالانفتاح على الآخر – أيّاً كان هذا الآخر، من أيِّ عرق أو دين – هو مبدأ إجتماعي إسلامي ينطلق من مبدأ أساسي أعظم وهو (التعارف) في قوله تعالى: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13).

فمُخالطة الناس والتعارف والأخذ عنهم في حدود ما لا يتنافى وشرع الله، هو سرّ التسامح الديني الذي يُعدّ الإسلام الرائد والمميّز في أبعاده وتقنينه.

 

 ثانياً: التسامح السياسي:

قد لا يكون التسامح السياسي مصطلحاً متداولاً كالتسامح الديني، ولكنه يندرج تحت عناوين ومصطلحات سياسية مقاربة كـ(التعايش السلمي) الذي يُقصَد به وبحسب القاموس السياسي، قيام تعاون بين دول العالم على أساس من التفاهم وتبادل المصالح الاقتصادية والثقافية. وممّا ساعد على إبراز الدعوة إلى سياسة التعايش السلمي، الفزع الذري، ولذلك راجت الدعوات إلى مثل هذا التعايش الذي يقوم على التنسيق في العلاقات الدولية، وإلى نبذ الحرب، وسياسة حافّة الهاوية، والتلويح باستخدام معدات الدمار الشامل.

وقد يأخذ التسامح السياسي صورة الأسلوب الديمقراطي في الحكم من خلال الإعلام الحرّ والتعدّدية السياسية، والانتخابات البرلمانية، والقواعد الدستورية التي تُتيح للجميع حقّ ممارسة السلطة ونقدها وإسقاطها في حال عجزت أو شذّت عن برنامجها الانتخابي ووعودها لأبناء الشعب.

وفي صيغةٍ أخرى، يمكن أن يُمثِّل التسامح السياسي حالة الانفتاح السياسي بين الإسلاميين والعلمانيِّين، في نطاق ما يمكن أن يُحقِّق المصالح المشتركة ولا يُسيء لحركة الدِّين بشيء.

إنّ أسلوب الانفتاح السياسي على الآخرين – لا بشكل عشوائي مطلق، بل بشكل مدروس – هو خيار تأخذ به اليوم الكثير بل معظم الحركات السياسية الإسلامية من خلال اللِّقاء على أرض وأهداف مشتركة في بعض مراحل الطريق، ذلك أنّ الاعتراف بالوجود لا يعنى الاعتراف بالشرعية، فقد تفرض الظروف اللقاء مع الآخر المختلف فكرياً، والتنسيق معه لتحقيق مصالح لحساب المسلمين. فلا يصحّ اعتبار معاهدة الرسول (ص) مع اليهود في بداية الهجرة اعترافاً بشرعيّتهم، ولا اعتبار صلح الحديبيّة اعترافات بشرك المشركين.

ولا يجوز فهم التسامح السياسي، أو الانفتاح السياسي على أنّه الغفلة عن الأساليب الخادعة، والخطط المعقدة، والحركات المشبوهة، والشخصيات القلقة، والظروف الخطرة، مما يسهم في عملية التضليل واهتزاز المواقع.

لقد أحصى بعض مَن درس الواقع السياسي للحركات الإسلامية فوائد وإيجابيات التسامح السياسي من خلال: الاطِّلاع على حركة الواقع السياسي من الداخل لا من الخارج وفي العُمق لا في السطح، وإمكانيّة النّفاذ إلى عُمق التيارات الأخرى للتأثير على قراراتها أو التخفيف من مشاكل سلبيّاتها، وتوجيه الأنظار إلى الأهداف الإسلامية الكبيرة من خلال حركة الشعارات المُشتركة في الساحة، فضلاً عن إبعاد الإسلام عن الدائرة الطائفيّة التي يُراد حبسه في داخلها.

إنّ دخول الإسلام إلى الساحة السياسية من خلال الفكر، والتفاهم، والحوار، والتسامح من خلال الانفتاح، والحرِّية، والعدالة، يفرض مقولة إنّ التعايش هو القاعدة لا المواقع القتالية.

لقد دخل النبي (ص) في (حلف الفضول) لما وجد فيه من روح تلتقي وإنسانيّته في الإطار العام، وهذا هو سبب من بين أسباب أخرى تدعونا إلى الانفتاح – في مرحلة زمنيّة معيّنة – على العلمانيين وعلى أهل الكتاب، تحقيقاً للمصلحة الإسلامية العُليا، وعلى الرغم من ذلك فإنّ الانفتاح لا يلغي التحفّظات لحماية الخطّ الإسلامي من الاستغلال واللعب والدّسّ والتضليل، ومهما يكن من أمر، فلابدّ من تحصين الموقف من الداخل، والتحلي بروحيّة الحذر بعيداً عن الاسترخاء والاستسلام.

 

ثالثاً: من قاموس التسامح الإنساني:

1- يقول الحُكماء:

أ- "الشجرة لا تحجب ظلّها حتى عن الحطّاب".

ب- "مَن عفا ساد، ومَن حَلُمَ عَظُم".

ت- "إنّ شجرة الخيزران تكمن في مرونتها".

ث- مَن لانَ عُودهُ كثفت أغصانه".

ج- "التسامح فضيلة اجتماعية تجعلنا نحترم عقائد الغير، ونتحمّل آراءهم".

ح- "تقضي الحكمةُ على الأعرج ألا يكسر عكّازه على رأس عدوِّه"!

خ- "اللِّسان للينه يبقى، والأسنان لصلابتها تزول"!

د- "إذا انتقم الإنسان لنفسه يساوي نفسه بالمجرم، وإذا صفح عنه يستعبده".

ذ- "دارِهِم ما دُمْتَ في دارِهِم، وجارِهِم ما دُمْتَ في جُوارهم، وأرضهم ما دُمتَ في أرضِهِم".

2- ويقول الشّعراء:

ما دُمتَ حيّاً فدارِ الناس كُلَّهم **** فإنّما أنتَ في دارِ المُداراةِ

وقال آخر:

وإنّ أولى الورى بالعفو أقدَرَهُم **** على العُقوبَةِ إن يظفر بذي زَلَلِ

وقال ثالث:

العَفْوُ أحسنُ ما يُجزى المُسيءُ به **** يُهينهُ أو يُريه أنّه سقطا

وقال رابع:

سألزم نفسي الصّفح عن كُلِّ مُذنبٍ **** وإن كَثُرَت منه إليَّ الجرائِمُ

وقال خامس:

لمّا عَفوتُ ولم أحقد على أحدٍ **** أرحتُ نفسي من هّمِّ العداواتِ

 

3- الاستسماح أو (طلب براءة الذِّمّة):

من اللّقطات التي تستوقف الشخصية المُسامحة، ما فعله النبي الأكرم (ص) في أخريات حياته، حيث سأل المسلمين فيما إذا كان بذمّته لأحدٍ منهم شيء، فقام له شخص يُقال له (سوادة)، فذكر له أنّه في إحدى الغزوات وبينما كان (ص) يُنظِّم الصفوف، ضربَ سوادة على بطنه. فقال النبي (ص): ائتوني بتلك العصا، وطلب من سوادة الاقتصاص منه، فما كان من سوادة إلّا أن قال للنبي (ص): ارفع قميصك، فلمّا رفعهُ قبّل سواده بطنَ النبي (ص)، فسأله (ص): هل عفوتَ أو غفرتَ يا سوادة لرسول الله؟ فقال: نعم. فرفع النبي (ص) طرفه ويديه إلى السّماء قائلاً: "اللّهمّ اغفر لسوادة، فقد غفرَ لنبيِّك"!

هذه الرواية أو هذا المشهد الإنسانيّ المُفعم بالروح التسامحيّة، لابدّ لمَن يحمل ثقافة التسامح والمُسامحة أن يستحضره كلّما أراد مغادرة مكان إلى مكانٍ جديد، فعليه أن يستسمح (يطلب السماح) من جيرانه إن كان صدر منه ما يُسيء إليهم، ليرحل وقد تخفّف من حمل أوزار هي أثقل من حمولة أثاثه.

كما يستذكر ذلك عندما تنتهي الزمالة في الدراسة الجامعية أو أي مرحلةٍ من مراحلها، حينما يقف الزملاء على مُفترق طرق، ليطلب كلٌّ منهم البراءة (براءة الذِّمّة) لمَن قد يكون أساء إليهم بدنيّاً أو نفسيّاً.

والأهمّ من هذا وذاك، أن يطلب الذي يوشكُ أن يُودِّع الدنيا ويذهب إلى لقاء ربِّه، ممّن أساء إليهم في حياته، أن يغفروا له من قبل أن يُلاقي وجه ربِّه وعلى عاتقه إساءات لم تُغتفر، أي أنّ عليه أن يصفِّي الحساب مع الذين أساء أو اعتدى عليهم في الدنيا قبل أن يرد الحساب وفاتورة حسابه ثقيلة.

كما يتعيّن عليه أن يُسامح الذين أساؤوا له حتى يقدم على الله الغفور الرحيم، راجياً عفوه ورحمته ومغفرته بما غفر للناس وسامحهم، وأخيراً فـ"مَن استغفرَ لمَن ظلمه، فقد هزمَ الشيطان".


                                                        والحمد لله رب العالمين ..................................................................................

الهوامش:

[1] لابدّ من الإشارة هنا إلى أن مجرد تبني قيمة أو فكرة ما ليس شرطاً كافياً في تحوّلها إلى سلوك، هي قناعة، والقناعة تتفاعل مع النفس لإفراز مسلك اجتماعي معيّن، فإذا أضفى عليها الإنسان من روحه وأسبع عليها من عواطفه، لتبدو وكأنّها نابعة من النفس وليست مستوردة من الخارج، كانت إمكانيّة تأثيرها أبلغ وأعمق وأوسع.

[2] الأنام: النّاس.

[3] ما كُتب في التسامح وعن المسامحة كثير، لكنّنا – ونحن نحاول إبراز هذه القيمة الإجتماعية والأخلاقية – نحاول أن ننظر إلى روحية التسامح من خلال علاقتها بمنظومة واسعة من القيم الحياتية التي تكشف عن أنّ المسامحة شجرة لها أغصان، أو هي فرع من أشجار أخرى، ممّا يعطينا إمكانية النظر إلى مفهوم التسامح نظرة شمولية تتعدّى الوقوف عند معانيه القريبة أو المتداولة، كما يبيِّن لنا أنّ المفاهيم الأخلاقية تتنافذ على بعضها البعض، وأنّ بينها ترابطاً عضوياً كبيراً يُعزِّز انتماءها لأسرةٍ واحدة.

[4] التسامح الديني مُصطلح حديث لم يكن دارجاً قبل القرن التاسع عشر الميلادي، إلا أنه أخذ دوراً كبيراً منذ ذلك الوقت.                                              

ارسال التعليق

Top