هي ختام السنة وقد اعتاد الناس أن يتوقفوا عند نهاية سنة من تاريخ معيّن ليستقبلوا بطريقة معيّنة سنة جديدة. ففي الفكر الإسلامي يمثِّل الزمن عمرك وأنت تخطو مع الزمن لتستهلكه، وفي كلّ ساعة يموت شيء منك، وفي كلّ سنة تموت حقبة من عمرك، فنحن لا نموت دفعة واحدة لكنّنا نموت موتاً تدريجياً، لقد مات العمر الذي عشناه ونحن نستقبل عمراً جديداً، ولذلك شبّه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الموت بالنوم كما شبّه البعث باليقظة «إنّكم لتموتنّ كما تنامون ولتبعثنّ كما تستيقظون» يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام) ممّا يروى عنه، عندما يستيقظ في الصباح: «لك الحمد أن بعثتني من مرقدي ولو شئت جعلته سرمداً»، فالإنسان يُولد في كلّ يوم عند يقظته.
وعلى ضوء هذا فإذا كان الزمن يمثِّل حركة عمرنا في حينه، فعلينا أن نحدق في مضمون هذا الزمن ماذا أخذ منّا وماذا حرّكنا فيه، وماذا قدّم لنا من فرص، وماذا انتهزناه من فرصة؟ هل عندما تقدّم الزمن بنا تقدّمنا؟ أو كان الزمن يتقدّم بنا ونحن نتأخّر؟ كما في بعض كلمات الإمام عليّ (عليه السلام): «فلينظر أحدكم أسائر أو أراجع» هل أنت تتخلّف أو تتقدّم؟ لأنّ مسألة التقدّم في الفكر والروح وفي الثقافة وفي حركة الحياة لا تُقاس بالساعات أو بالأيّام، إنّما تقاس بحجم ذاتك ماذا حملت؟ كان فكرك محدوداً فهل توسّع؟ كان قلبك مقفلاً فهل انفتح؟ كانت حياتك تتحرّك في ساحة ضيِّقة فهل اتسعت تلك الساحة؟ أي هل أصبحت تتحرّك بشكل أوسع؟ ماذا فعلت وماذا تريد أن تفعل؟ ولذلك أرادنا الله سبحانه وتعالى أن نحدق دائماً بالغد من خلال حسابات الأمس، وأن تكون حياتنا يقظة مع الله، لا غفلة عن الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) (الحشر/ 18).
ما هي حساباتك للغد؟ أن تدرس جيداً حساباتك التي قدمتها في كتابك عندما يقدم إليك الكتاب (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (الإسراء/ 14). فلابدّ لنا، فيما يريد الله لنا أن نتحرّك، أن نقدّم للغد شيئاً، قد تكون الكلمة واردة فيما قدّمت لنفسك (وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) (البقرة/ 110). ولكنّك كنت شخصاً تعيش مع الآخرين، ومندمجاً مع الآخرين فأنت لم تعش وحدك بل أنت جزء من عائلة، جزء من محلّة، جزء من مجتمع، جزء من أُمّة، ولذلك ماذا قدّمت لغدٍ في مسؤوليتك عن نفسك؟ وماذا قدّمت لغد في مسؤوليتك عن عائلتك؟ وماذا قدّمت لغد في مسؤوليتك عن مجتمعك؟ وفي مسؤوليتك عن أُمّتك؟ وفي مسؤوليتك عن أية قضية تملك مسؤولية التحرّك فيها. (وَاتَّقُوا اللهَ) بعدما تعرفون ماذا أنتم فيه (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)، اتقوا الله وحاسبوا أنفُسكم فيما قدّمتموه، واتقوا الله ثانياً بعد أن تعرفوا ما قدّمتموه، اتقوا الله لتعرفوا ماذا تقدمون (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (الحشر/ 19).
لابدّ أن تكون نهايات السنين كنهايات الشهور وكنهايات الليالي والأيّام فرصة للفكر وفرصة للحساب، لأنّ مشكلتنا أنّنا قد نعرف كلّ الناس من حولنا ولكنّنا نجهل شيئاً أساسياً إنّنا نجهل أنفُسنا، فلو سألك أي سائل عن صديقك أو قريبك فإنّك تقضي اليوم في الحديث عنه ولا تنتهي، ولكنّه لو سألك إنسان نبذة عن نفسك؟! ما هي أفكارك؟ ما هو خط عاطفتك؟ ما هي خطوط انتمائك؟ ما هي أسس علاقتك؟ ما هي نظرتك لمستقبلك؟ هل تملك أن تجيب؟
لذلك، لابدّ أن يكون الزمن نابعاً منّاً، حيّاً، منفتحاً، مسؤولاً، متحرّكاً، وأن لا نشعر بالزمن كعبء عندما يقول بعضنا لبعض ولا سيّما في ليالي الشتاء الطويلة: تعالوا لنقتل الوقت، لنضيِّع الوقت، فهل الوقت خصم تريد أن تقتله، تريد أن تقطّعه وتمزّقه؟. إنّ هذه التعابير تدلّ على خلفيّة ذهنية الأُمّة وقد لا تجدها عند الأُمم الأُخرى لأنّها تحترم الزمن باعتبار أنّه يمثل فرصتها للإنتاج، وفرصتها للتقدّم.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق