حسين اليزدي/ ترجمة: عبدالرحمن العلوي
◄الحرّية المعنوية هي نوع آخر من الحرّية. والاختلاف بين مدرسة الأنبياء والمدارس البشرية يتمثل في أنّ الأنبياء قد منحوا الإنسان الحرّية المعنوية أيضاً، فضلاً عن الحرّية الاجتماعية. والحرّية الاجتماعية ليست الحرّية المقدسة الوحيدة، وإنما الحرّية المعنوية هي الأخرى مقدسة، بل وتفوقها من حيث القيمة والقدسية، ولا تتاح الحرّية الاجتماعية بدونها ولا تتحرك في ساحة العمل. والمرض الذي يعاني منه المجتمع البشري في هذا اليوم هو إنّه يسعى لتأمين الحرّية الاجتماعية إلّا أنّه لا يقتفي آثار الحرّية المعنوية لأنّه ليست لديه القدرة على ذلك، لكون هذه الحرّية لا تتحقق إلّا عن طريق النبوة، والأنبياء، والدين، والإيمان، والكتب السماوية.
فما هي الحرّية المعنوية إذاً؟ الإنسان كائن مركب وذو قوى وغرائز مختلفة. ففي وجوده آلاف القوى القوية كالشهوة، والغضب، والحرص، والطمع، وحب الجاه والرئاسة. ولديه في المقابل: العقل، والفطرة، والوجدان الخلقي. وقد يكون الإنسان حراً من حيث المعنى، والباطن، والروح، ويمكن أن يكون عبداً أيضاً، أي من الممكن أن يكون عبداً وأسيراً للجشع والشهوة والغضب وحب الترؤس، ومن الممكن أن يكون متحرراً من هذه القيود، ويقول:
أقول بصراحة وأنا مسرور بقولي
أنا أسير حبّي ومتحرر من كلا العالمين
فمن الممكن أن نرى إنساناً متحرراً اجتماعياً يرفض الخنوع والذلة والعبودية ويحتفظ بحرّيته في المجتمع، ويحتفظ في ذات الوقت بحرّيته على صعيد الأخلاق والمعنويات، أي يحتفظ بحرّية عقله وضميره أو ما يعبَّر عنه في لغة الدين بـ"تزكية النفس" و"التقوى".
فهل من الممكن أن يكون لدى الإنسان حرّية اجتماعية دون أن يتمتع بالحرّية المعنوية؟ أي هل يُتوقع من إنسان أسير الشهوة والغضب والطمع أن يحترم حرّية الآخرين؟
ويُجاب عملياً على هذا التساؤل بكلمة نعم، لأنّهم يريدون للإنسان أن يكون أسير طمعه وشهوته وغضبه ونفسه الأمّارة، ثم يطلبون منه أن يحترم الحرّية الاجتماعية. وهذا ما ينطبق عليه الشعر القائل:
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له *** إياك إياك أن تبتل بالماء
إنّها إحدى حالات التناقض التي يعاني منها المجتمع الراهن.
سبب استلاب الحرّيات الاجتماعية طوال التاريخ:
لم يحترم الإنسان الحرّية في العصور القديمة وكان ينتهكها. فلماذا كان ينتهكها؟ وهل كان يستلب حرّية الآخرين لأنّه كان جاهلاً، واليوم لابدّ وأن يحترمها لأنّه أصبح عالماً ما فيه الكفاية؟ فعلى صعيد الأمراض مثلاً، كان الإنسان القديم جاهلاً، لهذا حينما كان يواجه تلك الأمراض يستعين ببعض العقاقير الخاصة التي لا تجدي نفعاً. أما اليوم فبإمكانه أن يستعين بالأدوية والعلاجات الجديدة النافعة. نحن نريد أن نعرف هل سلب الإنسان القديم لحرّية الآخرين كان بدافع من الجهل، أم إنّ ذلك الجهل لا تأثير له على هذا الصعيد؟ والحقيقة هي أنّ الجهل والعلم لم يكن لهما تأثير على الإنسان في تعامله مع الحرّية، وإنما كان يفعل ذلك بإيحاء من مصلحته الخاصة. فهل كان الإنسان القديم ينتهك حرّية وحقوق الآخرين لأنّ القوانين آنذاك تسير في هذا الاتجاه، وهل بإمكاننا أن نغير هذا السلوك من خلال تغيير القانون أو سنّ الإنسان نفسه لقوانين جديدة؟ ففي أمريكا – على سبيل المثال – هل أُلغي الرق بالغاء قانون الرق أم إنّ شكله تغيّر فقط وظل محتواه على حاله؟ وهل كان النمط الفكري الفلسفي لدى الإنسان هو الذي يقف خلف عدم احترام الإنسان القديم لحرّية الناس وحقوقهم؟ والإجابة ستكون بالنفي على كلّ هذه التساؤلات، لأنّ النفعية هل العامل الوحيد الذي يقف خلف ذلك الانتهاك.
كان الإنسان القديم وانطلاقاً من طبيعته الفردية نفعياً، ومحباً لمصلحته الخاصة، ويسعى لاستغلال كلّ وسيلة لصالحه فقط، وكان يرى في أبناء نوعه وسيلة أيضاً كالوسائل الأخرى مثل الخشب، والحجر، والحديد، والأغنام، والأبقار، والخيول، والبغال، ويصرّ على استغلالهم لمصالحه الذاتية. فحينما كان يزرع شجرة أو يقتطعها، كان الشيء الوحيد الذي لم يفكر فيه هو الشجرة نفسها. فقد كان لا يفكر إلّا في نفسه. فماذا كان هدفه حينما كان يسمن النعجة ومن ثم يذبحها؟ ليس له من هدف سوى مصلحته فقط. وكذلك الأمر حينما كان يستعبد الآخرين ويستلب حقوقهم، حيث يقوم بذلك بدافع من حالة النفعية التي لديه. أي أنّ حسّ النفعية هو الذي كان يدفعه لاستلاب الحرّيات الاجتماعية ومصادرتها وانتهاك ما للآخرين من حقوق اجتماعية. فكيف هو حس النفعية لدى الإنسان في عصرنا الراهن؟ وهل لديه مثل هذا الحس أم لا؟ نعم لديه هذا الحس ولا يختلف عما كان لديه من قبل. وإذا لم يكن فم الإنسان في هذا اليوم مفتوحاً بشكل أكبر من ذي قبل للابتلاع، فهو ليس بأقل.
فلا العلم تمكن من الوقوف بوجه الاطماع ولا تغيير القوانين. والشيء الوحيد الذي نجح العلم في إنجازه هو إنّه غيّر شكل القضية وإطارها، بينما ظل المحتوى على حاله دون تغيير. إنّه يغلّف المحتوى القديم بغلاف جديد ويعرضه مزخرفاً. كان الإنسان القديم كائناً صريحاً لا يعرف النفاق والتمويه. فقد استعبد فرعون الناس بشكل صريح وكان يقول بشكل رسمي: (وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ) (المؤمنون/ 47): فماذا تقول يا موسى؟ إنّهم عبيدنا. هكذا كان يتحدث بصراحة ولم يكن يغلف الاستعباد بغلاف ما. في حين يمارس الإنسان في هذا اليوم وتحت ستار العالم الحر والدفاع عن السلام والحرّية، كافة ممارسات استلاب الحرّية والحقوق ويقوم بكافة أنواع الاستعباد. لماذا؟ لأنّه لا يتمتع بالحرّية المعنوية، ولأنّه ليس حراً في روحه، ولا يمتلك التقوى.►
المصدر: كتاب الحرّية عند الشهدي المطهري
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق