• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

«الدعاء» مفتاح الرحمة

«الدعاء» مفتاح الرحمة
◄قال أمير المؤمنين (ع): "الدعاء مفتاح الرحمة ومصباح الظلمة".

ليس من اليسير أن تدرك رحمة الله تعالى بعبده المؤمن لأنّها لا تنفك عنه بحال من الأحوال فهي تشمله منذ العدم وقبل أن يكون شيئاً مذكوراً وحتى يودع لحده وفي برزخه وآخرته.

وقد عبر عن ذلك الإمام الحسين (ع) أفضل تعبير في دعاء عرفة حيث قال فيه:

"اللّهمّ إنّي أرغب إليك وأشهد بالربوبية لك مقراً بأنك ربي، وأنّ إليك مرَدّي... ابتدأتني بنعمتك قبل أن أكون شيئاً مذكوراً... خلقتني من التراب ثمّ اسكنتني الأصلاب، أمناً لريب المنون، واختلاف الدهور والسنين، فلم أزل ضاعناً من صلب إلى رحم، في تقادم من الأيّام الماضية، والقرون الخالية. لم تخرجني لرأفتك بي ولطفي لي وإحسانك إليَّ، في دولة أئمة الكفر الذين نقضوا عهدك وكذبوا رسلك... لكنك أخرجتني للذي سبق لي من الهدى، الذي له يسرتني، وفيه انشأتني...

ومن قبل ذلك رؤفت بي...

بجميل صنعك...

وسوابغ نعمك...

فابتدعت خلقي من مني يمنى، واسكنتني في ظلمات ثلاث، بين لحم ودم وجلد، لم تشهدني خلقي، ولم تجعل إليَّ شيئاً من أمري...

ثمّ أخرجتني للذي سبق لي من الهدى إلى الدنيا تاماً سوياً...

وحفظتني في المهد طفلاً صبياً...

ورزقتني من الغذاء لبناً مرياً...

وعطفت عليّ قلوب الحواضن...

وكفلتني الأُمّهات الرواحم...

وكلأتني من طوارق الجان...

وسلمتني من الزيادة والنقصان...

فتعاليت يا رحيم يا رحمان.

حتى إذا استهللت ناطقاً بالكلام...

أتممت عليَّ سوابغ الأنعام...

وربيتني زائداً في كلّ عام...

حتى إذا اكتملت فطرتي، واعتدلت مرّتي، أوجبت عليَّ حجتك...

بأن ألهمتني معرفتك...

وروعتني بعجايب حكمتك...

وأيقضتني لما ذرأت في أرضك من بدائع خلقك...

ونبهتني لشكرك وذكرك...

وأوجبت عليَّ طاعتك وعبادتك...

وفهمتني ما جاءت به رسلك...

ويسرت لي تقبل مرضاتك...

ومننت عليَّ في جميع ذلك بعونك ولطفك...

ثمّ إذ خلقتني من خير الثرى...

لم ترضى لي يا إلهي نعمة دون أخرى...

ورزقتني من أنواع المعاش...

وصنوف الرياش...

بمنك الأعظم عليّ، وإحسانك القديم إليَّ...

حتى إذا أتممت عليّ جميع النعم...

وصرفت عني كلّ النقم...

لم يمنعك جهلي وجراتي عليك أن دللتني إلى ما يقربني إليك...

ووفقتني لما يزلفني لديك...

فإن دعوتك أجبتني...

وإن سئلتك أعطيتني...

وإن اطعتك شكرتني...

وإن شكرتك زدتني...

كلّ ذلك إكمالاً لأنعمك عليَّ، وإحسانك إليَّ...

فسبحانك سبحانك، من مبدئ معيد، حميد مجيد، تقدست أسماؤك، وعظمت آلاؤك.

فأي نعمك يا إلهي أحصى عدداً وذكراً؟..

أم أي عطاياك أقوم بها شكراً؟...

وهي يا رب أكثر من أن يحصيها العادون...

أو يبلغ علماً بها الحافظون...

ثمّ ما صرفت ودرأت عني اللّهمّ من الضر والضراء، أكثر مما ظهر لي من العافية والسراء...".

فرحمة الله في الواقع على الإنسان في حياته كقطر المطر، ولم يجعل المولى مقابلها عوضاً وانما فتح من الأبواب ما يكون سبباً لتعاظم هذه الرحمة ونزولها دون انقطاع.

ومن هذه الأبواب باب الدعاء حيث جعل الله منه سبباً لنزول شآبيب الرحمة الواسعة فكم من معضل ومشكل لا ينجلي إلّا بالدعاء والتوسل إلى الله؟

وكم من مغنم تعجز عنه اليد وتقصر عنه الحيلة لا ينال إلّا بالدعاء؟

وكم من أمر يبدو في عالم المستحيل يحققه المولى بفضل الدعاء والمسألة؟

فعن عليّ (ع) قال: "ما كان الله ليفتح باب الدعاء ويغلق عليه باب الإجابة".

 

ومن وصيته لابنه الحسن، قال (ع):

"واعلم أنّ الذي بيده خزائن السماوات والأرض قد أذن لك في الدعاء، وتكفل لك الإجابة وأمرك أن تسأله ليعطيك، وتسترحمه ليرحمك".

وفي حديث آخر قال (ع):

"مَن أعطي الدعاء لم يحرم الإجابة".

ولذلك كان من لطف المولى وكرمه أن جعل لكلّ دعاء جزاء وثمرة، فلا يذهب دعاء هدراً أي دعاء كان، إذ انّ أقل إجابة للدعاء هي المكافأة في الآخرة على عمل الدعاء.

قال رسول الله (ص): "ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم أو قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث:

إما أن يعجل دعوته...

واما أن يدخرها له في الآخرة.

واما أن يكف عنه من الشر مثلها...

قالوا يا رسول الله إذن نكثر قال الله أكثر".

وفي حديث آخر قال (ص) لأحد الداعين:

"فابشر بإحدى الثلاث

اما أن يعجل لك ما سألت واما أن يؤخر لك ما هو أعظم منه واما أن يصرف عنك من البلاء ما إن لو أرسله عليك لهلكت".

ولو تعمق الإنسان في أسباب عدم إجابة الدعاء في الدنيا في بعض الأحيان لوجد أنّ ذلك جزء من رحمة الله أيضاً إذ ربما كان في إجابة دعاء الإنسان هلاكه لعلم الله تبارك وتعالى انّ ما يطلبه العبد لا يصلح له أو ربما لأنّ الله يريد أن يعطيه أفضل مما سئل.

قال تعالى: (وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا) (الإسراء/ 11).

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) (يونس/ 11).

ومن حديث لأبي الحسن موسى الكاظم (ع) لأحد أصحابه الشاكين إليه تأخر الإجابة لدعاءه قال (ع): "إذا أكثر (ت) النعم كان المسلم من ذلك على خطر للحقوق التي تجب عليه وما يخاف من الفتنة فيها".

وفي الحديث عن أبي عبدالله (ع) قال: "إنّ الرب لَيَلي حساب المؤمن فيقول تعرف هذا الحساب؟

فيقول: لا يا رب!

فيقول: دعوتني في ليلة كذا وكذا وكذا وكذا فذخرتها لك.

قال: فمما يرى من عظمة ثواب الله يقول: يا رب ليت انك لم تكن عجلت لي شيئاً وادخرته لي".

وعن أبي جعفر (ع) قال: "انّ الله عزّ وجلّ يعطي الدنيا من يحب ويبغض ولا يعطي الآخرة إلّا مَن أحب وانّ المؤمن ليسأل ربه موضع سوط في الدنيا فلا يعطيه ويسأله ما يشاء ويسأله موضع سوط في الآخرة فلا يعطيه إيّاه".

وبسبب كون الدعاء مفتاح للرحمة فقد كثرت أدعية الفرج وقضاء الحاجات وكشف المهمات ونقتبس منها هذا الدعاء.

"اللّهمّ إني أدعوك بما دعاك به عبدك يونس، إذ ذهب مغاضباً فظنّ إن لن تقدر عليه، فنادى في الظلمات انّ لا إله إلا أنت، سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبت له ونجيته من الغم، فانّه دعاك وهو عبدك، وأنا أدعوك وأنا عبدك، وسئلك وهو عبدك، وأنا أسئلك وأنا عبدك، أن تصلي على محمّد وآل محمّد، وأن تستجيب لي كما استجبت له، وأدعوك بما دعاك به عبدك أيوب إذ مسه الضر فدعاك: اني مسني الضر وأنت أرحم الراحيم فاستجبت له وكشفت ما به من ضر، واتيته أهله ومثلهم معهم، فإنّه دعاك وهو عبدك، وأنا أدعوك وأنا عبدك، وسئلك وهو عبدك، وأنا أسئلك وأنا عبدك أن تصلي على محمّد وآل محمّد، وأن تفرج عني كما فرجت عنه وأن تستجيب لي كما استجبت له، وأدعوك بما دعاك به يوسف، إذ فرقت بينه وبين أهله إذ هو في السجن، فإنّه دعاك وهو عبدك وأنا أدعوك وأنا عبدك، وسئلك وهو عبدك، وأنا أسئلك وأنا عبدك، أن تصلّي على محمّد وآل محمّد، وأن تفرج عني كما فرجت عنه، وأن تستجيب لي كما استجبت له، فصل على محمّد وآل محمّد وافعل بي ما أنت أهله ولا تفعل بي ما أنا أهله، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلّ الله على محمّد وآل الطاهرين".

وهكذا يتضح أنّ الدعاء مفتاح الرحمة حيث يكون سببه لنزول سحائب الرحمة في تحصيل كلّ مغنم تعجز عنه اليد وتقصر عنه الحيلة. ►

ارسال التعليق

Top