قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ) (الحجّ/ 77-78). فإذا وقفَ المسلم بين يدي الله ليناجيه ويتضرّع إليه لم تَجْرِ العبادةُ على لسانه كعبدٍ منفصل عن إخوانه بل كطرفٍ من مجموعٍ مترابط حيثُ يقول: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة/ 5)، ثمّ يسألُ الله من خيره وهُداه فلا يخصُّ نفسه بالدُّعاء بل يطلب رحمة الله له ولغيره فيقول: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) (الفاتحة/ 6-7).
قامت شرائعُ الإسلام وآدابه على اعتبار الفرد جزءاً لا ينفصم عن كيان الأُمّة؛ فهو طوعاً أو كرهاً يأخذ نصيبه ممّا يتوزّع على الجسم كلّه من غذاءٍ ونموٍّ وشعور. وقد جاء الخطاب الإلهيّ مقرِّراً هذا الوضع؛ فلم يتجه للفردِ وحدَهُ بالأمر والنهي إنّما تناولَ الجماعة كلّها بالتأديب والإرشاد، ثمّ من الدرس الذي يُلقي على الجميع يستمعُ الفرد وينتصح. وهذا ما يلاحظه في سياق التشريع في الكتاب والسنّة. إنّ الله عزّوجلّ لم يَخلُق الناس لينقسموا ويَختلفوا. لقد شرّع لهم ديناً واحداً، وأرسلَ لهم الأنبياء ليقودوا الناس كافةً في طريق واحد، وحرّم عليهم من الأزلِ أن يتفرّقوا. بيدَ أنّ الشهوات الكثيرة والمنافع الشخصية تنكّرت للتراث الإلهيّ العظيم فانقسم الناس أحزاباً. وجاء كلّ حزب يكيد للآخر ويتربّص به. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) (المؤمنون/ 51-54).
وقد حذّر الله تعالى المسلمين من الخلاف في الدِّين والتفرُّق في فهمه شيعاً متناحرةً مُتلاعنة، قال تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران/ 105). إنّ ائتلاف القلوب واتحاد الغايات والمناهج من أوضح تعاليم الإسلام ولا ريب أن توحيد الصفوف واجتماع الكلمة هما الدعامة الأساسية لبقاء الأُمّة ونجاح رسالتها.
ولكي يمتزج المسلم بالمجتمع الذي يحيا فيه شرَّع الله الجماعة للصلوات اليومية، ورغّب حضورها، وتكثير الخُطى إليها. ثمّ ألزم أهل القرية الصغيرة أو الحيّ الآهل أن يلتقوا كلّ أسبوعٍ لصلاة الجمعة. ثمّ دعا إلى اجتماع أكبر في صلاة العيد، وجعل مكانةً الأرض الفضاء خارج البلد. وأمر الرجال والنِّساء بإتيانه إتماماً للنفع وزيادةً في الخير. ثمّ أذّن إلى حشدٍ أضخم يضمُّ الشتات من المشرق إلى المغرب؛ ففرض الحجّ، وجعل له مكاناً وزماناً معلوماً حتى يجعل اللقاء بين أجناس المسلمين أمراً محتوماً. وكان رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شديد التحذير من عواقب الاعتزال والفرقة. وكان من حلِّهِ وترحاله يُوصي بالتجمُّع والاتحاد. إنّ الناس إن لم يجمعهم الحقُّ فرَّقَهم الباطل، وإذا لم توحِّدْهُم عبادة الرحمن مزَّقَتْهُم عبادةُ الشيطان. وإذا لم يستويهم نعيمُ الآخرة تخاصموا على متاع الدُّنيا. عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال في حَجّة الوداع: «لا ترجعوا بعدي كُفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» بمعنى أنّ العراك الدامي شأن الكافرين المنقسمين على أنفُسهم أحزاباً متنافرة.
وأخيراً، جعل الإسلام كلّ مسلم مسؤولاً في بيئته الاجتماعية، يمارس دوره الاجتماعي من موقعه، رُوِي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «كلّكم راعٍ، وكلّكم مسؤول عن رعيّته»، ودعا أهل البيت (عليهم السلام) إلى استخدام الأساليب المؤدِّية إلى الألفة والمحبّة، ونبذ الأساليب المؤدّية إلى التقاطع والتباغض؛ رُوِي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «إذا سلّم أحدكم فليجهر بسلامه لا يقول: سلّمت فلم يردّوا عليَّ، ولعلّه يكون قد سلّم ولم يُسمعهم؛ فإذا ردّ أحدهم فليجهر بردّه ولا يقول المسلم: سلّمت فلم يردّوا عليَّ، ثمّ قال: كان علي بن الحسين يقول: لا تغضبوا، ولا تُغضبوا، افشوا السلام، وأطيبوا الكلام، وصلّوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنّة بسلام، ثمّ تلا عليهم قول الله عزّوجلّ: (السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِن)».
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق