◄"المجتمع هو العلة الأولى في تحويل الإنسان من كائن بيولوجي، أو كائن عضوي حيواني إلى الإنسان ككائن مثقف".
ومعنى كون الإنسان كائناً اجتماعياً، إنّه لا يستطيع أن ينعزل عن أقرانه أو يعيش منفرداً، نظراً لكونه مرتبطاً في معظم أوقاته بأفراد مجتمعه، سواء على مستوى العائلة، أو القبيلة، أو المدينة، فهو على علاقة دائمة بهذه الكيانات الاجتماعية، والتي تؤلف كيان المجتمع الإنساني، ولا يمكن اتصافه بالإنسانية إلّا بمشاركته هذه الكيانات المجتمعية، والمساهمة في بناء حياتها العامة، "ولو جردنا الإنسان من لغته، ودينه، ومعتقداته، وأزيائه، وهي التي يكتسبها من المجتمع، فسوف لا نراه إنساناً، وانما نتصوره وحشاً من وحوش الغاب".
فالمجتمع عالم إنساني يلجه الفرد من اللحظة التي يولد فيها، إلى اللحظة التي يفارقه إلى دنياه الثانية، وهذا المجتمع الإنساني على امتداده الزمني متطور ومتغير، ولا يمكن أن يكون ثابتاً على وتيرة جامدة، وخط واحد، نظراً لضرورة تطوره، ومماشاته لطبيعة الظروف والاتجاهات الحضارية والمدنية.
ونتساءل حين نرى ضرورة التغيير للمجتمع، وانّه من المستحيل أن يبقى ثابتاً غير متحرك، إذاً ما هي الأسس المقومة للتغيير الاجتماعي؟
ليس من السهل تحديد المقومات والعناصر الباعثة على التغيير، ولكن يمكن أن نعطي ملامح لأهم آراء علماء الاجتماع في عملية التغيير، وهي بإيجاز:
1- العامل الديني:
مما لا شكّ فيه أنّ للدين تأثيره الخاص على الإنسان بحيث يصبح قوة نزوع إلى فعل "الخير" واندفاع ملزم بضبط النفس عن اتباع الهوى، نظراً لكون العقيدة الإنسانية تضفي الأخلاق، والقيم الإنسانية، والكمال، وهي جوانب لا تعدو الدين، إن لم تكن من صلبه، وتدعو إلى تثبيت الوازع الديني في النفس.
إنّ السلوك الإنساني الهادف ينشأ من التأثر الديني أكثر من أي عامل آخر، وذلك نتيجة قوة علوية قاهرة يخضع الإنسان لها ويرضى بقضائها، ويؤمن بأقدارها، ولا ينحرف عن رسالتها، التي ترسم له الخط الإنساني بما يصونه من الانحراف والزلل. وحين يصل الإنسان إلى درجة من الإيمان بهذا التوجه العقائدي، يكون خط العقيدة واقعاً يتفاعل مع نفسه لتندفع إلى خارجه ثورة إصلاحية في سبيل تقويم مجتمعه من الانحراف، أو تغييره نحو الأفضل بما ينسجم ومعتقده الخلاق، الذي يؤمن بالعدالة، والحياة، وحرية الإرادة، والسعادة، وعدم الظلم بكلّ ألوانه، وكلّها تهدف إلى بناء دولة تعتمد في تنفيذ تشريعاتها على القانون من ناحية، وعلى الأخلاق من ناحية أخرى.
2- العامل الفكري أو الثقافي:
إنّ حركة الإنسان نحو بناء فكره، والتركيز على توسيع آفاقه الثقافية تؤدي إلى نتائج ذات أثر كبير، في حركة تقدم وتطور المجتمع، وتدعو إلى تأسيس ثورة إصلاحية شاملة في ميدان العلم والمعرفة.
كما إنّ العناصر الأساسية التي تتميز بها الثقافة هي:
1- الثقافة ظاهرة إنسانية تنشأ نتيجة للتفاعل الاجتماعي بين الأفراد والجماعات.
2- تقوم الثقافة بتحديد الأنماط السلوكية التي ارتضاها المجتمع لأفراده لإشباع احتياجاتهم البيولوجية، والاجتماعية.
3- تنتقل الثقافة لكلّ فرد من أفراد المجتمع عن طريق التعليم خلال مراحل نموه ونضوجه في المجتمع الذي يعيش فيه.
4- الثقافة لها صفة الاستمرار، ويتوقف ذلك على استمرار المجتمع الذي تظهر فيه، وهي في ذلك مستقلة عن أي فرد معين، أو جماعة بالذات.
من مجموع هذه العناصر الأساسية للثقافة يتضح لنا أنّ للعامل الثقافي أثره في النواحي الفكرية، أو الفنية في المجتمع، نظراً لأنّ كلّ فرد، وكلّ جماعة يشاركون بالضرورة في ثقافة المجتمع الذي ينتمون إليه.
3- العامل الاقتصادي:
الاقتصاد: هو العامل الذي يهتم بالحياة المادية للمجتمع، ووسائل تنمية موارد ثرواته وإنتاج هذه الثروات، وتداولها، وتوزيعها، واستهلاكها، كما يهتم بالعوامل والعناصر التي تنتج: السلع، والخدمات، وبثروة الأرض، أو الموارد الطبيعية، وكذلك العمل الذي يتمثل في مهارات الأفراد ودوافعهم، ورأس المال والموارد المتاحة للإنتاج، والتنظيم، وتوزيع الدخل بين الأفراد، والجماعات نتيجة للعامل الاقتصادي.
فالعامل الاقتصادي باعتباره الموجه لحياة المجتمع، والمسؤول الأوّل عن كثير من المشاكل، والظواهر الاجتماعية، بما في ذلك التغير الاجتماعي. فقد نظر إلى العامل الاقتصادي، هو المسبب إلى حد كبير للتطورات والأحداث التي تتفجر في المجتمع سلباً، أو استقراره إيجاباً.
وترى بعض النظريات الاقتصادية، أنّ لهذا العامل تأثيراً كبيراً بحالة التغيير في المجتمع الإنساني لدرجة أنّ جميع العوامل الأخرى تكاد عديمة الأهمية إلى جانب العامل الاقتصادي، وعليه فنظام الإنتاج السائد في أي مرحلة من مراحل نمو المجتمع، ونظام الملكية الذي يتبعه هو العنصر الهام في حياة المجتمع، وفي تغيير المجتمع كذلك.
4- العامل السياسي:
يجب أن لا نستخف بالعامل السياسي في التأثير وقدرة التحفيز، لتغيير المجتمع، وقد اهتم علماء الاجتماع بموضوع السياسة، واعتبروه فرعاً من فروع العلوم الاجتماعية، وعرف عندهم بأنّه: "علم الدولة" الذي يبحث ممارسة الدولة لسلطاتها، والتنظيم والحكومة، وأسلوب حكمها، وعلاقة الطبقة الحاكمة بأفراد المجتمع، وحقوق وواجبات الأفراد، ومدى مراعاة السلام، والنظام داخل المجتمع، واختصاص السلطات القائمة، وعلاقة الحاكم بالمحكوم، إلى غير ذلك من القضايا التي تخص السلوك السياسي.
إنّ القضية السياسية، حين دخلت ميدان الثورات والانقلابات، حصدت الكثير من الحكومات، وبهذا التبدل في هيكلية السلطة تعطلت القوانين، وتغيرت الواجهة الاجتماعية بنسب متفاوتة تبعاً لشعارات الحكام المتعاقبين على الحكم بواسطة القوّة، أو الفرض السياسي.
هذه أهم العناصر المقومة أو المثيرة لتغيير المجتمع الإنساني، وهي ذات نفوذ كبير في عملية التغيير، إن إيجاباً أو سلباً.
أما النظرية القرآنية في عملية التغيير الاجتماعي والتي أشارت إليها الآية الكريمة اتخذت من المحتوى الداخلي للإنسان قاعدة أساسية لعملية تغيير المجتمع، فتغير أوضاع القوم وظواهرهم لا يتم إلّا بتغيير أنفسهم، هذا لا يعني أنّ العمليتين منفصلتين، وإنما تسيران جنباً إلى جنب فعملية صنع الإنسان لمحتواه الداخلي لفكره وإرادته تسير بجنب عملية البناء. والسيرة النبوية تؤكد التلازم بين العمليتين عملية الداخل والخارج أو ما يطلق عليها الجهاد الأصغر والجهاد الأكبر ولا يمكن فصلهما. تقول الرواية:
إنّ رسول الله (ص) بعث سرية، فلما رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر، وبقي عليهم الجهاد الأكبر. قيل يا رسول الله (ص): وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس. ثمّ قال (ص): "أفضل الجهاد مَن جاهد نفسه التي بين جنبيه".►
المصدر: كتاب آفاق حضارية للنظرية السياسية في الإسلام
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق