• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التربية الاستبدادية تقتل الإبداع في الطفل

التربية الاستبدادية تقتل الإبداع في الطفل
نتائجها سلبية على المدى البعيد هناك أساليب تربية عديدة، أحدهما الأسلوب الاستبدادي، أي إخضاع الطفل إخضاعاً كاملاً لأوامر الأُم. والأُم المتسلطة تعقد آمالاً كبيرة على أطفالها، وتفرض عليهم قوانين صارمة تجبرهم على تطبيقها من غير قيد أو شرط، لكنها لا تدرك أنها بأسلوبها هذا، إنما تضع طفلها على طريق الفشل. تلجأ الأُم المتسلطة، حسب رأي التربويين إلى العقاب بدلاً من التربية، ولا تبدي استعداداً، أو بالأحرى لا تستطيع تقديم تفسير للأسباب التي تدعوها إلى وضع قوانين بعينها. وهي أم متطلبة، ضنينة في الإعراب عن عواطفها ومحبتها لطفلها، ولا تترك خياراً للطفل، لا للقيام بما يرغب ولا بمناقشتها في أي قرار تتخذه، ولا حتى في تقرير مصيره المستقبلي وحده في أغلب الأحيان. إنّ مطالب الأُم المتسلطة كثيرة، وهي لا تركز على تلبية احتياجات طفلها العاطفية والطبيعية، بل تركز جل اهتمامها على أن يحيا طفلها وفق مثلها وقيمها هي وتوقعاتها الدائمة، إذ تتوقع منه أن يتصرف بطريقة تدل على النضج، أي مثل شخص بالغ "متحضر". وعلى الرغم من توقعات الأُم، إلا أنها تعامل طفلها على أنّه شخص غير بارع ولا ذكي. في معظم الحالات، عندما لا يطيع الطفل القوانين، تعمد الأُم إلى عقابه بإهماله جزئياً وعدم إظهار أي شكل من أشكال الحب نحوه أو عدم الاستجابة لمطالبه، الأمر الذي يدفع الطفل إلى الاعتقاد أن حب أمه له مشروط. بمعنى آخر، على الرغم من معرفة الطفل أن أمه تحبه، إلا نّه يشعر بأنّه لن يضمن بها إلا إذا طبق القوانين بحذافيرها، واستطاع تحقيق آمال أمه الكبيرة المعقودة عليه. ولا تسمح الأُم الصارمة لطفلها بأن يعرب عن مشاعره ولا أن يظهر قدراته الإبداعية. ولأنّ التواصل مقطوع بينه وبين الأُم، لا يعرف الطفل كيف يفكر ولا كيف يتواصل مع الآخرين، ولا كيف يتخذ القرارات المناسبة، ولا كيف يحل مشاكله مع أنداده. كما أنّه لا يقدر على تحمل مسؤولية نفسه، ولا يستطيع العمل ضمن فريق. والطفل الخاضع لسلطة الأُم، لا يعرف مواطن ضعفه ولا قوته. وهناك عدد كبير من الأُمّهات، يتبعن الأسلوب الفاشي في تربية أطفالهنّ، بغض النظر عن نتائجه وتأثيراته في حياتهم المستقبلية. فقد تبين أنّ الطفل الذي ينشأ في كنف أم متسلطة، يمكن ألا يستطيع القيام بأي مبادرة نتيجة عدم امتلاكه الدافع الشخصي، لأنّه اعتاد تطبيق القوانين لا صنع القرارات بنفسه. مثل هذا الطفل يستطيع اتباع التعليمات بحذافيرها، لكنه لا يستطيع قيادة فريق، حتى لو كان مكوناً من طفلين أو ثلاثة أطفال. يميل طفل الأُم المتسلطة إلى الانصراف عن الحياة الاجتماعية. ولأنّه اعتاد الاعتماد على الآخرين ليقرروا عنه، فإنّه غالباً ما يتأخر في اتخاذ القرار، في انتظار أنّ يقرر شخص آخر ما الذي يجب عمله، أو ما هو صح. وفي حين أن مثل هذا الطفل قد يستطيع تحقيق تفوق ملحوظ في مجال العلم، في أغلب الأحيان، لكنه قد لا يستطيع أن يكون قائداً في وسطه الاجتماعي. وتعتقد معظم الأُمّهات، أنّ التربية الصارمة والقاسية تؤدي إلى طفل حسن التهذيب. قد يكون هذا الاعتقاد صحيحاً. فالشخص الغريب يجد الطفل الخاضع مهذباً ومطيعاً من السهل قيادته. وتعتبر معظم الأُمّهات أنّ الخضوع الأعمى فضيلة. لكن في الحقيقة، إنّ التربية الصارمة ثمنها غالٍ جدّاً. فالطفل الخاضع لا يتمتع باحترام الذات ولا بتقديرها. لذا، فإنّ الربح قصير المدى الناتج عن التربية الصارمة، له ثمن مرتفع جدّاً ويدوم فترات طويلة.   - نتائج مدمرة: إنّ أسلوب التربية الاستبدادي يؤثر في وجود الطفل وكيانه. فهو يؤثر في قدرته على اتخاذ القرارات الأساسية في الحياة بنفسه، وعلى تعلم مهارات الحياة الرئيسية، وعلى مفهومه ذاته بشكل عام، وحسه الوجودي بشكل خاص. لذا، قد يطور الأطفال الذين يعيشون في كنف أم صارمة ومتسلطة، صفة أو أكثر من الصفات التالية: * الإحساس بالدونية وبقلة احترام الذات: بسبب إحساس الطفل بأنّه مهمل "لا يرى ولا يسمع"، وبسبب هيمنة الأهل الدائمة على كل صغيرة وكبيرة في حياته، يشعر بأن لا قيمة لرأيه، وبأنّه من غير المسموح له أن يقرر حياته الخاصة ولا مصيرة ولا مستقبله بنفسه. * عدم الشعور بقيمته: لأنّ الطفل يعلم أنّه لن يحظى بحب أمه، إلا إذا أحسن التصرف، وأن جل ما يمكن أن يحصل عليه في أحسن الأحوال هو عدم المعاقبة، ويشعر الطفل بأنّه مقبول من طرف أمه بسبب إطاعته الأوامر، وبسبب حسن تصرفه فقط، لا بسبب من هو ولا بسبب كونه إنساناً يستحق المحبة والعطف والتقدير. * الافتقار إلى الثقة بالناس: يصبح الطفل كثير الشكوك بنوايا الأشخاص وعواطفهم، حتى لو كانت سليمة. فكلما حاول شخص من غير أفراد أسرته التودد إليه، يقول بينه وبين نفسه "ما الذي يريده مني؟ وما الثمن الذي يجب أن أدفعه له؟". ولأنّ الطفل اعتاد "كسب" محبة أمه من خلال عدم معارضتها، ومن خلال التزامه بتطبيق قراراتها قوانينها، فقد ينمو لديه اعتقاد أن كل شخص عنده أجندة ذاتية ومآرب شخصية، وأن عليه أن يدفع الثمن إلى كل شخص وأي شخص. * عدم امتلاك مهارة اتباع حدسه: إنّ طفل الأُم الصارمة لا يعرف حقيقة معنى الإصغاء إلى شعوره الداخلي، وهي من أهم المهارات التي تلعب دوراً أساسياً، عندما يحاول الطفل اتخاذ قرارات مصيرية تتعلق بحياته المستقبلية. فمثل هذا الطفل اعتاد أن يسيطر عليه، وبالتالي على امتلاك هامش ضيق جدّاً من الحرية، يسمح له بفرض إرادته الخاصة. لذا، فهو لا يعرف معنى الحدس، لأنّه لم يختبر الأصوات الداخلية التي يمكن أن تدله على ما هو صحيح وعلى ما يجب عمله. * لعب دور سلبي في حياته الخاصة: لا يستطيع الطفل الخاضع لسلطة الأُم أن يلعب دوراً إيجابياً في حياته الخاصة. ولأنّه لم يتعلم أن لكل شخص مكاناً ثابتاً في الحياة، ودوراً عليه أن يلعبه، فهو يميل إلى الخضوع للذين هم في مركز القيادة والمتسلطين. * الالتزام بالقوانين الصارمة والخوف من خوض تجارب جديدة: بسبب تجربة الطفل الذي تربى على تسلط الأُم، والتعرض لشتى العقوبات عند عدم التزامه بالقوانين، فهو يتردد في تجربة وسائل جديدة أو ابتداع طرق مبتكرة للقيام بعمل ما، خوفاً من الوقوع في الخطأ، وبالتالي التعرض للعقاب. لذا، نجد أنّ الطفل الخاضع غير مبدع. وهو يمكن أن يكون ذكياً ومبدعاً في الأساس، إلا أن خوفه من الأُم المتسلطة يمنعه من الإبداع.   - التأثير الذهني للتربية الاستبدادية: يؤثر أسلوب التربية الصارم في طريقة تفكير الطفل ومرونة ذهنه. وبسبب القوانين الصارمة يمكن أن يميل الطفل إلى: * تبني النموذج الثنائي: لا يستطيع طفل الأُم المتسلطة تمييز التنوع في البشر وفي الحياة بشكل عام. إذ إنّه يرى العالم، إما أبيض أو أسود، ويعتبر أن هناك ما هو صح وما هو خطأ، وما هو جيِّد وما هو سيِّئ، وأنّه لا يوجد غموض أو تفاوت بين مختلف الآراء. وهذا يدفعه إلى النظر إلى الأطفال الآخرين، إمّا أنهم جيِّدون أو سيئون، مطيعون أو غير مطيعين. * عدم تأكده من أي شيء: إنّ الطفل الخاضع لأُم متسلطة لا يستطيع فعلياً معرفة ما يعجبه وما لا يعجبه، وانتقاء ما يريد وحده إلا إذا قيل له هذا جيد وذاك سيئ. فهو اعتاد القبول بالآراء والأفكار التي تحد من حريته الشخصية، ومن طريقة تفكيره، ومن قدرته على مناقشة القوانين والأفكار التي تطرح عليه، لاختيار ما يناسبه منها بعيداً عن ضغط الأهل.   - التأثير العاطفي: * يؤثر أسلوب التربية الفاشي في مشاعر ووجدان الطفل، والمهارات المرتبطة بكل ما له علاقات بالعواطف والأحاسيس. من هذه التأثيرات: * الاعتقاد أنّ التعبير عن العاطفة أمر خطر يمكن أن يؤدي إلى مشاكل: يعلم الطفل الخاضع لمبدأ التربية الفاشي، أن كبت المشاعر وإنكارها يخففان من العقاب. لذا، يسعى دائماً إلى كتم مشاعره وإلى الظهور بمظهر الشخص الجدي الهادئ والرزين. * عدم امتلاك مهارة التعامل مع الأحاسيس الصعبة ومشاعر الإحباط: تعلّم الأُم المتسلطة طفلها، أنّ الشعور بالسوء مرفوض. إن رفض هذه المشاعر التي هي حقيقية تماماً، مثل الشعور بالسعادة والحب والعطف.. إلخ. قد يؤدي إلى امتعاض الطفل من نفسه ويعتقد أنّه طفل سيئ إذا شعر بالغضب مثلاً. ويمكن أن يؤدي هذا الشعور السلبي نحو الذات، إلى الكثير من الغضب والاكتئاب. * الاعتقاد أنّ المشاعر الإيجابية يمكن أ، تكون غير حقيقية": تعلم الأُم التي تتبع الأسلوب الفاشي في تربية طفلها، أنّ المشاعر والعواطف مزية وغير حقيقية، ولا تعتبر ذات قيمة. بهذه الطريقة تخاطر الأُم بأن يصبح طفلها بارداً عاطفياً ويواجه صعوبات كبيرة في عقد صداقات مع أطفال آخرين، وإقامة علاقات عاطفية في المستقبل. * المعاناة من القلق: لأنّ الأُم المتسلطة تجبر طفلها على البقاء إلى جانبها، ولأنّها تتابعه وتراقبه كلما حاول القيام بعمل ما، ولأنّها تنتقده وتعاقبه على كل كبيرة وصغيرة، يشعر الطفل بقلق دائم يمكن أن يسبب له مشاكل صحية ونفسية. * الشعور بالعار دائماً: يشعر طفل الأُم المسلطة بالعار والذنب دائماً، نتيجة قانون العقاب الذي تتبعه الأُم (حرمانه من عاطفتها، إهماله، عدم تلبية احتياجات الطبيعية.. إلخ)، ويمكن أن ينتهي به الأمر إلى الاعتقاد أنّه إنسان سيئ كلما عاقبته أمه.   - تأثير اجتماعي سلبي: يؤثر الأسلوب الاستبدادي في قدرة الطفل على اكتساب مهارات اجتماعية، وعقد الصداقات والعلاقات في المستقبل. من هذه التأثيرات: * الاعتقاد أنّ التصرف الهمجي يعني القوة: يتعلم طفل الأُم المتسلطة أنّه إذا تصرف بوحشية مع الآخرين، فهذا يعني أنه أصبح يمتلك القوة والسيطرة التامة عليهم، فيعتقد أن هذا أمر جيد ومغرٍ. إذ يتولد عن الطفل انطباع، أن في إمكانه الحصول على كل شيء (الاحترام، السلطة، الطاعة العمياء) بمجرد سيطرته على "الضعفاء"، الذين هم دونه من حيث المكانة والقوة. الافتقار إلى المهارات الاجتماعية: إنّ الطفل الذي يتربى في كنف أم متسلطة، لا يستطيع أن يمتلك المهارات الاجتماعية التي تمكنه من عقد الصداقات وإقامة العلاقات مع الآخرين، بسبب اعتياده الخضوع والسيطرة. لذا، فالطفل الخاضع لسيطرة الأُم، هو أكثر قابلية للخضوع لكل من هو أقوى منه أنداده. بشكل عام، دلت الدراسات على أنّ الطفل الذي تربى على الأسلوب الاستبدادي، يواجه مشاكل أقل من الأطفال الآخرين. وأكثر ما تنطبق هذه الحقيقة على موضوعات، مثل تعاطي المخدرات والكحول وتصرفات سلوكية أخرى، مثل قيادة السيارة بسرعة هائلة، الدخول في معارك مع أشخاص آخرين، التصرف بعدائية.. إلخ. ولكن، يجب ألا ننسى أوّلاً، أنّ الطفل الذي تربى وفقاً للأسلوب الاستبدادي، يمكن لا يحسن التصرف كما الطفل الذي تربى تحت كنف أم حازمة، لكنها محبة، أو أم متساهلة. وثانياً، إن هناك رابطاً قوياً بين التصرف الذي يؤدي إلى مشاكل وأسلوب التربية.

ارسال التعليق

Top