• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التقوى والأخلاق

زهير الأعرجي

التقوى والأخلاق

◄دعا القرآن إلى تقوى الله وإصلاح ذات البين، حيث تخاصم بعض المؤمنين على غنائم الحرب في بدر، فقالوا بملكية الغنائم استناداً إلى قوله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الأنفال/ 69)، فنزلت الآية التالية لتقر مُلْك الأنفال (الغنائم) لله والرسول وتنهيهم عن التخاصم والتشاجر، فلمّا انقطع بذلك تخاصمهم ارجعا النبي (ص) إليهم، وقسّمها بينهم بالسوية (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ[1] قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (الأنفال/ 1)، فالدعوة إلى تقوى الله واضحة في موارد الخصومة والشجار، والواقع أنّ لا شيء يحل مشاكل التنازع والتخاصم غير تقوى الله ومخافته وخشيته سبحانه وتعالى.. فتوبيخ بعض المؤمنين الذين لا يراعون حرمات الله يمكن أن يكون نافذاً بذكر قوله تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (المائدة/ 112)، كما قال عيسى ابن مريم للحواريين حين اقترحوا عليه أن يريهم آية خاصة، كأن ينزل الله عليهم مائدة من السماء مع علمهم بمعجزات السيد المسيح (ع): (أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ...) (آل عمران/ 49)، فقال الله تعالى في هذا الشأن: (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (المائدةم 112).

(وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) (طه/ 132)، الآية الكريمة أمرٌ واضح بإقامة الصلاة وبالدعوة لها وخاصة دعوة الأقربين إليها والتفكُّر في الله، وفي رواية إنّ آية (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) عندما نزلت كان النبيّ (ص) يجيء إلى باب عليّ وفاطمة (عليهما السلام) (مدة ثمانية أشهر) فيأخذ بعضادتي الباب بسكون ثمّ يقول: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، الصلاة يرحمكم الله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا. وربْط الأمر الإلهي بالصلاة والصبر عليها، فيها التفاتة كريمة وهي أنّ إقامة الصلاة تكون أحياناً مقرونة بمعاناة أو شدة أو ضيق، ولذلك فإنّ الأمر الإلهي مصحوب بالصبر على الصلاة، ولذلك كان النبيّ (ص) إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق أمرهم بالصلاة ويتلو قوله تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) (طه/ 132).. وبالتأكيد فإنّ العاقبة الكريمة للمتّقين أولئك الذين يقيمون الصلاة ويصبرون عليها، أولئك الذين لا تملّ شفاههم من ذكر الله سبحانه حيث الرجوع إليه، والحساب بيده، والجزاء بيده (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنعام/ 72). إنّ حثّ القرآن الكريم على إقامة الصلاة وتثبيت التقوى في نفس الإنسان المؤمن دليل على أنّ الاستعداد للوقوف أمام الخالق سبحانه وتعالى يوم الحشر لا يكتمل إلّا بإنجاز ما يأمرنا الله به، وإقامة الصلاة معناها إقامة الدين، وتقوى الله معناه الارتفاع عن كلِّ ما يعصي أمر الله سبحانه، وبإنجاز هذين العملين يستطيع الإنسان أن يقف يوم القيامة، ولديه رصيد أمام الله رب العالمين..

وشدَّد القرآن الكريم على مفهوم الصبر، واعتبر أنّ الصبر بشرى للإنسان المؤمن باعتبار أنّ الله هو الذي يقوّي هذا الإنسان في صبره (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (النحل/ 127-128).

ودعا القرآن الكريم إلى التعاون على أساس البر والتقوى، وهو العمل الصالح المختلط بالإيمان وتقوى الله، ونهى عن الاجتماع على الإثم والعدوان والتعدّي على حقوق الناس، فقال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة/ 2)، وهذا هو الأساس في الأخلاق الإسلامية، حيث فسر الله سبحانه البرّ في كلامه بالإيمان والإحسان في العبادات والمعاملات، كما قال تعالى: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) (البقرة/ 177)، ثمّ أكّد الله سبحانه نهيه عن الاجتماع على الإثم والعدوان بقوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة/ 2)..

ويستمر القرآن الكريم في حديثه عن التقوى والمتَّقين فيتطرق إلى (النجوى).. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (المجادلة/ 9). حيث أشاعت مجموعة من المنافقين والذين في قلوبهم مرض من المؤمنين بينهم النجوى محادة للرسول (ص)، وقد أكثر هؤلاء السؤال على النبيّ (ص) حتى شقوا عليه، فأمرهم الله بالآية التالية أن يتصدّقوا قبل أن يسألوا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) (المجادلة/ 12)، فامتثل القليل منهم، ومنهم الإمام عليّ (ع).. وقد وبخهم القرآن الكريم بقوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ) (المجادلة/ 8). وقد أجيز للمؤمنين النجوى واشترط عليهم أن لا يكون تناجياً بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وأن يكون تناجياً بالبرِّ والتقوى، وجاء الأمر الإلهي مرة أخرى بالتقوى مذكِّراً بيوم الحشر والحساب.

إنّ المؤمن المتَّقي لا يمكن أن يرضى بأن يُتَّخذَ دينه وسيلة للعب والمزاج والهزء، ولا يمكن أن يرضى بأن يكون ولاة أمره من أولئك الذين لا يعيرون للدين التفاتة أو أهمية تذكر، فجاء الخطاب للمتَّقين الآخذين بعروة الإيمان.. قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (المائدة/ 57). والتقوى في هذا المعنى إنّما تعني عدم السماح للفساق من الناس بتولي أمور الأُمّة الإسلامية وتدبير شؤونها، فالولاية التي من لوازمها التصرف في الشؤون الاجتماعية والنفسية والدينية للأُمّة لا يجوز أن تحتضنها وتحكم سيطرتها أيادي غير أمينة لا تملك ذرة في الأخلاق.. وقوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بمنزلة التأكيد لقوله: (لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ) (المائدة/ 57)، وكأنّ الخطاب موجَّه إلى التزام صفة التقوى وعدم اتخاذ الفسقة من الناس أولياء يحكمون الناس بعيداً عن حكم الله سبحانه وتعالى..

يشتغل بعض الناس في مجالسهم الخاصة والعامة وبالخوض في آيات الله من سب وشتم واستهزاء بخالق السماوات والأرض سبحانه وتعالى، وهذه الطبقة من الناس فقدت كلّ رادع، وأصبح ضميرها الذي ترجع إليه صخرة ميتة فقد الحياة، ولذلك نهى القرآن الكريم مجالسة هؤلاء الناس ما داموا يخوضون في آيات الله (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (الأنعام/ 68-69)، وخطاب الآية موجَّه إلى النبيّ (ص) ولكن يقصد به عموم المؤمنين، والأنبياء (عليهم السلام) كما نعلم معصومون من الوقوع في الأخطاء الشرعية كنسيان الحكم الإلهي ومخالفته (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (الأنعام/ 68)، فالمقصود: أيّها المؤمن حتى لو غفلت عن ذكرنا بما أنساك الشيطان ثمّ ذكرت الله فلا تتهاون في القيام وترك المجلس الشيطاني، فإنّ المتقين لا يمكن أن يشاركوا هؤلاء الخائضين خوضهم في آيات الله.. وما على المتقين من حساب هؤلاء الخائضين شيء أمام الله تعالى... إنّها ذكرى ولعلَّهم يتقون..

وخاطب القرآن الكريم الرسول محمّد (ص) بقوله إنّه أحد المرسلين الذين كانوا رجالاً من أهل القرى (أهل المدن) يخالطون الناس ويعرفونهم مع فرق متميز واحد وهو حمل الرسالة إلى البشر (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ) (يوسف/ 109)، وليست دعوة الرسول الكريم (ص) إلّا لإصلاح حال الناس وتغييرهم وإلزامهم صفة التقوى حتى يفلحوا بالحياة الخالدة والنعيم المقيم.. والتأكيد على أنّ المرسلين من أهل القرى إشارة واضحة إلى أنّ الرسل ليسوا بملائكة وإنّما هم رجال أتقياء عايشوا أقوامهم فبعثهم الله سبحانه وتعالى حاملين رسالته لينشروا الخير والسعادة والطمأنينة على عموم البشر.. وإنّ دعوتهم إنّما هي التقوى وليس ما وراء التقوى إلّا ما فيه خيرهم وشمول سعادتهم.. ►

 

المصدر: كتاب الأخلاق القرآنية/ ج2


[1]- الأنفال: الزيادة على الشيء وتطلق على غنائم الحرب.

ارسال التعليق

Top