• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الحب الإلهي في القرآن/ ج (1)

السيد حسن النمر

الحب الإلهي في القرآن/ ج (1)

من أجل أن يُصان (التوحيد) كقيمةٍ فاعلةٍ في حياة الإنسان تدفعه كـ(موحِّدٍ) إلى:

1- تحقيق الصلاح في نفسه وإشاعة الإصلاح في ما حوله.

2- ليكون حريصاً على أن لا يحركه دافعٌ غير (الإخلاص) الذي يعني النزاهة والسلامة في الغايات والوسائل، فلا ينحرف عن الصراط المستقيم وينجرف إلى حيث المهلِكات.

من أجل ذلك يجب على الموحِّد السعي إلى أن يستقر (حب الله) في وجدانه، وإذا استقر حب الله في الوجدان كان المحب أحرص على أن يبادله محبوبه الود والحب، وأحرص على أن لا تشوه صورته لدى الحبيب (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) (البقرة/ 220).

ولكي يكون الإنسان محبوباً لله تعالى عليه أن يتخلى عن صفات الرذيلة ويتحلى بأضدادها التي هي صفات الفضيلة، لأنّ كلّ رذيلة من الرذائل تعني أنّ حجاباً، قد يكون خفيفاً وقد يكون غليظاً، سيكون بينه وبين الله تعالى وسينقص منسوب التوحيد في فكره ووجدانه، وسينعكس ذلك على فكره وسلوكه كمناهج وممارسات مغلوطة توقعه في أخطاء وخطايا تضره وتمس غيره، قال تعالى: (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) (الأحزاب/ 4)، فإمّا الله تعالى وإمّا غيره.

لذلك دعا الله عزّ وجلّ الناس، وخاصة المؤمنين منهم، إلى الاستجابة الصادقة لدعوة الحياة من خلال التوحيد، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال/ 24)، متبعاً ذلك مباشرةً بالتنبيه إلى أنّ الضرر الدنيوي الذي يلحق بمَن يحيد عن سواء السبيل فيكون ظالماً، لن يقف عند حدود المرتكب، بل سيمس بشكل أو بآخر غيرَه من الناس، فقال: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال/ 25).

ولكي نبتعد عن التحليلات الفلسفية لـ(الحب) ذات الأهمية الفائقة في مظانّها، ونقترب من الطرح المباشر نذهب إلى تتبع الأسباب التي سيقت في القرآن الكريم ليكون الإنسان محبوباً لله والأخرى التي تجعله غير محبوب لله، بل قد يكون مبغوضاً له تعالى، وذلك في مطلبين:

 

المطلب الأوّل- ما يحبه الله:

1-  الإحسان:

قال تعالى: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة/ 195). والواضح للمتتبع أنّ (الإحسان) مفهوم واسع يشمل موارد كثيرة جدّاً، يجمعها عنوانان رئيسيان:

العنوان الأوّل- حسن الفاعل:

فليس كلّ فعل حَسَن مقبولٌ عند الله، لأنّه تعالى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة/ 27). باعتبار أنّ المتقين هم الذين حرصوا على تنقية ما يقدمونه بين يدي الله من عمل يتناوله (الإحسان) كعنوان عام، من كلّ ما يجعله مردوداً، فالله طيِّب لا يقبل إلّا الطيِّب.

العنوان الثاني- حسن الفعل:

فليس كلُّ فعلٍ مقبولاً عند الله، لأنّه تعالى إنما يرتضي العمل الصالح.

ولكي نحمي الحضارة التوحيدية والمجتمع الموحِّد علينا أن نكرِّس قيمة (الإحسان) لتكون سبباً من أسباب محبة الله تعالى لنا ومحبته لنا (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين/ 26). فالموحد لا يحركه في ما يقوم به برامج ومشاريع شيء غير نشدان (الإحسان)، وليس إرضاء فلان وفلان من الناس.

ويجب التنبيه إلى أنّ النص أطلق الأمر بالإحسان (أحسَنوا) فلم يذكر متعلَّقه للإشارة إلى أنّه لا فرق في نوع الإحسان بين أن يكون لمصلحة المحسن نفسه أو لمصلحة غيره.

2-     طاعة النبيّ محمّد (ص):

في سبيل حماية البعد التوحيدي للحضارة المنشودة يجب أن نغفل أنّ ثمة قناة معرفية يجب التلقي منها، ويجب العمل على امتثال أوامرها ونواهيها، وهذه القناة هي الرسول (ص)، باعتباره المخاطَب بالوحي ليتولى هو إيصال مضمونه إلى الناس. قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران/ 31).

ومن شأن هذه الطاعة -بنص الآية- أن يكون المطيع محبوباً لله تعالى، وإذا أحب الله عبداً وفقه إلى فعل الخيرات وأعانه على أن يسهم في بناء الحضارة التوحيدية والمجتمع الموحِّد.

3-     التقوى:

لا نستطيع حماية (التوحيد) في أنفسنا فضلاً عن آثاره دون أن تكون (التقوى) هي الحاكمة على سلوكياتنا في جميع المجالات ومع جميع الأطراف قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة/ 8).

إذا حققنا التقوى كذلك وأصبحنا من المتقين أحبنا الله، قال تعالى: (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (آل عمران/ 76)، وإذا أحبنا وفقنا، وإذا وفقنا نمت حضارتنا ورشُد مجتمعُنا.

فـ(التوحيد) إذا حكمت به الحضارة وكان أساس بنائها لا يسمح لسياسة لا تقوى فيها ولا اقتصاد ينافي التقوى أو تعليم يضاد التقوى، وهكذا.

4-     التوبة:

لكي نحمي ما قدمناه من أصول لتشييد الحضارة يجب أن نقيمها على أساس (حب الله) وهذا الأساس لا نناله بغير التوبة التي ننقي وجودنا فيها من مختلف أشكال التلوث التي تنأى بنا عن ساحة الطهر الإلهي، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة/ 222).

5-     التوكل:

لا غنى للحضارة التوحيدية وأبنائها من أن يستلهموا من الله تعالى الدروس والعبر ويحظوا برعايته وتوفيقه، وهذا يعني أن يتولوه ويتولاهم، أي يحبهم ويحبونه، وهذا يتوقف على التوكل، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران/ 159).

وثمرة هذه الفضيلة أنّ الشدائد والمحن لا تفت في عضد الموحِّدين بل إنّها قد تدفع بهم إلى تجنب الانحياز إلى أي معسكر شرقي أو غربي، لعلمهم أنّ الله وحده (عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (هود/ 12).

6-     الجهاد:

قد لا نجد حضارة إنسانية لم تواجه متاعب عرَّضت وجودها للخطر، لذلك اتفقت جميع الحضارات على التوفر على عناصر القوة الكفيلة بالدفاع وسد منافذ الخطر، وقد تُستثمر تلك العناصر في الهجوم والتوسع.

والحضارة الإسلامية ليست بدعاً من هذه السنة، فشرعت لهذا الغرض ما نسميه بـ(الجهاد)، مشترطةً أن يكون في سبيل الله، ليبقى فعلاً توحيدياً عادلاً يحقق العدالة والقسط، لا شيطانياً ظالماً تُنتهك فيه الحقوق وتُزهق فيه النفوس بالباطل.

بل عُدّ (الجهاد) أثراً من آثار التوحيد وسبباً لمحبة الله يجتلبها المجاهد لنفسه، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة/ 54).

وبهذا (الجهاد) نحصل على محبة الله لنبقي على شعلة التوحيد متّقدةً يستضاء بها في العتمة الحالكة.

7-     التماسك الاجتماعي:

تعتبر الرؤية القرآنية (التماسك الاجتماعي) عاملاً من عوامل نيل محبة الله، وبالتالي يعد أحد عوامل توحيدية الحضارة وربانية المجتمع، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) (الصف/ 4). وذلك أنّ التنازع والفرقة يصب في الاتجاه المعاكس لمرضاة الله وأحكامه، ويشكِّل سدّاً دون تحقيق الغابات الربانية، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال/ 46).

وعليه، فلا مناص من التأكيد على ما يزيلها ويحقق ضدها وهو المحبة والمودة، خصوصاً في أوقات الشدائد، التي لا يكاد يخلو منها مجتمع أيّاً كان وأنى كان.

8-     الصبر:

من عوامل الوصول إلى محبة الله تعالى أن يتحلى الإنسان بـ(الصبر)، قال تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (آل عمران/ 146).

وعلة ذلك وفلسفته لا نحتاج في بيانها إلى حديث طويل ومسهَب، لأنّ مَن لا يصبر يُخفقْ في الثبات على طاعة الله، وفي الاستقامة على خطه تعالى، وفي الانضباط على عدم ارتكاب معاصيه ونواهيه. وصدق الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في قوله: "لا يُعدَم الصبورُ الظفر وإن طال به الزمان".

9-  الطهارة:

مما يوجب محبة الله حرص العبد على توفره على عنصري الطهارة من خلال التوبة والكف عن ارتكاب ما لا يرضاه الله تعالى، ومن خلال النظافة التي هي (من الإيمان)، قال تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة/ 222).

وفي هذا السياق جاءت الإشادة بالساعِين إلى المساجد مستهدفين تطهير أنفسهم لعلمهم أنّ ذلك هو الطريق إلى رضا ربهم، قال تعالى: (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (التوبة/ 108).

10- العدالة:

من السياجات الأساسية لحب الله تعالى، ولبناء حضارة توحيدية هو أن نحقق (العدالة) ونقوم بـ(القسط)؛ لينال كلّ ذي حقّ حقّه، قال تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات/ 9).

تلك عشرة كاملة من الأسباب التي توفر لبناة الحضارة أن يكونوا راضين في ذواتهم مرضيين من خالقهم وعند الخلق.

 

المصدر: كتاب دور التوحيد في بناء الحضارات والمجتمعات (رؤية قرآنية)

ارسال التعليق

Top