• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الحسين «ع» الثائر

عمار كاظم

الحسين «ع» الثائر
◄كربلاء.. كربلاء.. روضة السيف والدم والقلم.

كربلاء كلمة الحق.. أنشودة المجد في فم الزمان.

كربلاء قصيدة الشعر.. وقافية اللوعة والألم.

كربلاء شلال الدم، وبركان الغضب المقدس.

لن تموت كربلاء.. لن تغيب شمسها من أُفق التاريخ.. لن تمحو لوعتها يد الطغاة من وجدان الأحرار.

كربلاء هطلت في أرضها سحابة الدم الحر الشهيد فأنبتت أجيال الشهداء والثوار.

ها هي أصداء الصوت الأبي الذي أطلقه الحسين تتردد في وادي الطّفوف.. وتقرع مسامع الأجيال.. وتطوف في ربوع التاريخ إعصاراً يعصف بالطغاة، وبركان دم يهزّ عروش الظالمين، ويوقظ الضمائر الحرّة، ويحرك في تاريخ الإنسان روح الثورة والجهاد، ها هو صوته يُدوِّي ويملأ مسامع الزمن:

«لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ إقرار العبيد».

فمَن هو هذا الحسين؟ وما هي معالم هذه الشخصية الفذّة العملاقة؟ إنّ رجل التاريخ اللّامع هذا.. وأسطورة الملاحم والكفاح، وكلمة الإباء والشرف. نشأ وترعرع في أحضان رسول الله، وبين عليّ أمير المؤمنين وفاطمة (عليهما السلام)، فارتضع أخلاق النبوّة، وشبّ على مبادئ الرسالة الإسلامية العظيمة، مبادئ الحقّ والعدل والإباء.. أحاطه رسول الله في طفولته بمشاعر الحب والحنان.. وكان يحمله وأخاه الأكبر (الحسن) (ع) على صدره ويصرِّح أمام أصحابه ويعلن عن هذا الحبّ الأبوي الكريم ويقول: «اللّهُمَّ إنِّي اُحِبُّهُما واُحِبُّ مَنْ أحَبَّهُما». ويصوّر في عبارات أخرى حبّه ورعايته للحَسنين فيقول: «إنَّ ابْنَيَّ هذَينَ رَيحانَتايَ مِنَ الدُّنيا». «مَن أحبَّ الحسن والحسين فقد أحبّني، ومَن أبغضهما فقد أبغضني». وكان رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يصلِّي والحسن والحسين يتناوبان على ظهره فباعدهما الناس فقال -صلى الله عليه وآله وسلم-: «دَعوهُما بِأبِيَ هُما وأمِّي، مَن أحَبَّنِي فَلْيُحِبَّ هذينِ» أخرجه أبو حاتم. «مَنْ سَرَّهُ أنْ يَنْظُرَ إلى رَجُلٍ مِنْ أهْلِ الجنَّةِ فَلْيَنْظُر إلى الحُسَين». وهكذا يعرِّف بالحسين الشهيد في طفولته، ويشخِّص مقامه للأُمّة لئلّا تعتذر يوماً عن الجريمة بحقِّه. وتوالت الأيّام، وتناسى العصاة قول رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وفجعوه بفلذة كبده الإمام والسبط الحسين بأباحوا دمه المقدّس، واستباحوا حرماته، فذكّر ابن عمر بذلك حين سُئل بمسألة: فَـ(عَنْ ابْنِ عُمَرَ وقد سُئِلَ عن المُحْرِم يَقْتُل الذُّبابَ، فقال: أهْلُ العراقِ يَسألُوني عَن الذُّباب، وَقَدْ قَتلُوا ابن بِنْتِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم-، وقَد قالَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم-: «هُما رَيْحانَتايَ مِنَ الدُّنيا»). وتحدّث التاريخ عن موقف آخر لأنس بن مالك وهو يقارن بين موقفين، أحدهما لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو يُقبِّل ثغر الحسين ويضمّه إلى صدره، والآخر لابن زياد واليّ الكوفة الأموي بعد استشهاد السبط الحسين، حين رأى ابن زياد يعبث برأس الحسين (ع) ويضربه بقضيبه وهو في طستٍ بين يديه، قال: لَمّا قُتِلَ الحُسينُ بن عليّ (ع) جِيءَ بِرَأسِهِ إلَى ابنِ زِياد فَجَعَلَ يَنْكُثُ بِقَضِيبٍ على ثَناياهُ، وقالَ: (إنْ كانَ لَحَسن الثَّغر، فَقُلْتُ لأسوءنَّكَ، لَقَدْ رَأيْتُ فَم رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- يُقَبِّلُ مَوْضِعَ قَضِيبِكَ مِنْ فِيهِ) خرّجه ابن الضحّاك. هذا هو الحسين في قلب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وفي عُرفه وشريعته وقد نشأت في بيت من أكرم بيوتات الإسلام وأعزّها، وهو بيت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وتربّى على خُلقِهِ ومبادئه، فكان مثال الورع والتقوى، وقدوة الإخلاص والزهد والعبادة، قوي الشخصية، شجاعاً غيوراً على الإسلام والأُمّة، ذا شخصية قيادية عظيمة، شديد التمسّك بالحق، قويّ الإرادة لا تأخذه في الله لومة لائم. فبهذه الصفات العظيمة، وبهذه الشخصية العبقرية، وبهذه المكانة الاجتماعية الفريدة صار الحسين قوّة فاعلة في ضمير التاريخ الإسلامي، وإرادة حيّة تؤثر عبر الأجيال، لقد نحت له هذا المجد العظيم تمثالاً في قلب كلّ حرّ أبيّ يعرف للإنسانية حقها، وللمبادئ والقيَم قيمتها. لقد آمن المسلمون بحب أهل البيت، وأحبوا الحسين كواحد من أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، لهذا كانت الفجيعة واللوعة التي رُزِئت بها الأُمّة بفقدِ الحسين عذاباً لضميرها، ومثاراً للحزن والألم فيها، ولذا كان لهذه الشخصية مقام خاص يتميّز بالحبِّ والحنان والإخلاص العظيم، لقد فاضت المشاعر من حول الحسين (ع) وتعلّقت القلوب بحبِّه وبعظم شخصيته، فقد نظم الشعراء طيلة أربعة عشر قرناً، فما نضبت القوافي، ولا أجدبت خصوبة الشعر، ولا اعتذرت صور المواقف والتصوير الفنّي لمشاعر الحزن ووقائع المأساة، وعبقرية الفداء. وكتبت الأقلام، فما جف المداد، ولا تلكأ البيان. وانطلقت باسمه الثورات فما توقف ينبوع الدم عن الجريان، ولا وهنت العزائم. ورفعت باسمه الشعارات فما خبا شعار، ولا خمد صوت أعاد صدى تلك الثورة الحسينيّة العظيمة. إنّ الشعور بالذنب، وعقدة الخذلان لأهل البيت (عليهم السلام) استحكمت في الضمير الإسلامي بعد شهادة الحسين (ع)، فقام ثوّار يطالبون بالثأر ونشأت حركات تنادي بالقصاص فكانت ثورة التوابين وثورة المختار الذي اقتصّ من قتلة الحسين... إلخ، وامتدّت سلسلة الثورات ولم يهدأ البركان إلى يومنا هذا. لقد نصبَ المسلمون مأتماً للحسين، وعاشوا فاجعة الطّف من يوم شهادته وحتى هذا اليوم، فلم تهدأ العبرة، ولم تجف الدمعة.. والفاجعة حيّة تنمو وتتفاعل مع الضمير الإنساني، وتؤثر في وجدان الأُمّة، وتثير أشجانها. وقد نشأت مدرسة أدبية، ومنبر حسيني، ما زال يُنَمِّي ويُحْيِي هذه المأساة ويرويها على مسامع الأجيال عبر آفاق الزمن.. وهكذا كانت كربلاء مشعلاً للثورة، وشعاراً للثوّار، ومثاراً للحزن واللّوعة، وكان الحسين تمثالاً من الحب والوفاء ينتصب في قلب كلّ حرّ شريف. فهو مثال الحرّ الأبي.. ومثال الثائر المنتصر للمستضعف المظلوم وهو أحد القربى الذين أمر الله سبحانه بحبِّهم: .. قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا... (الشورى/ 23). وهو أحد أهل البيت الذين أذهبَ الله عنهم الرِّجس بقوله: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (الأحزاب/ 33). وهو أحد الذين باهَل بهم رسول الله نصارى نجران: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (آل عمران/ 61). في رثاء عظمة الإمام الحسين (ع):

بماذا يؤدِّي حق ذكراك ذاكرُ

وأيَّ معانٍ فيك تبدي المشاعرُ

أفي العزّ والإقدام والفخر والإبا

أم النهضة الكبرى ففكري حائرُ

إذا ما شحذت الفكر تنبو قريحتي

فلا أنا نظّام ولا أنا ناثرُ

وتبدو لعيني باحتفالك روعة

يُردُّ لها طرف الحجا وهو حاسرُ

سموت فخاراً بل عظمت تشرُّفا

فكلُّ الذي قد رام وصفك قاصرُ

ولا بدع إذ تنبو قريحة شاعر

يوصف ولم تدرك مداك الخواطرُ

ألست الذي ما لو يضاهي بمفخر

لينكص للأعقاب عنك المفاخرُ؟

وكيف يضاهي فخر سبط الذي به

أوائلنا قد شُرِّفت والأواخرُ►

ارسال التعليق

Top