ما أن يأتي شهر ذي الحجة وتقترب أيام الحج إلا ونستحضر في أذهاننا قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام، تلك القصة التي غرست في داخلنا ونحن صغار نخطو خطواتنا الأولى في هذه الدنيا، وكبرنا وكبرت معنا، وفي كل مرحلة من مراحل حياتنا نقرؤها ونفهمها بشكل جديد.
واليوم استوقفني مفهوم الطاعة الذي ملأ أركان تلك القصة سواء لله أو للأب أو للزوج، فها هو سيدنا إبراهيم يمتثل لأمر ربه ويطيعه؛ فيأخذ ابنه وأُم ابنه ويهاجر بهما إلى مكان لا يوجد به أحد ولا ماء ولا طعام ويتركهما، فلما توارى عنهما وراءثنية، دعا ربه سبحانه، وأظهر حزنه، وأظهر الشفقة التي كان يخفيها عن هاجر وعن ابنها، قال تعالى عنه: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم/ 37).
وها هي هاجر تسير خلف إبراهيم، وهي تقول: إلى من تتركني في هذا المكان الذي لا إنس فيه ولا ماء ولا طعام؟! ويتركها إبراهيم وينصف حتى لا يظهر التأثر أمامها، ثمّ تسأله مرّات، فإذا بها تقول: آلله أمرك بذلك؟ قال: نعم، قالت: إذاً، فلا يضيعنا. فكان عندها الثقة بالله عزّ وجلّ، وأنّ الله طالما أمر إبراهيم بذلك فإنّ الله لن يضيعها هي وابنها، فتلك المرأة بمجرّد علمها بالأمر الرباني أطاعته وأطاعت إبراهيم.
وإسماعيل الذي يظهر أعلى درجات الطاعة عندما قال لأبيه: (... يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الصافات/ 102)، بعد أن أخبره أبوه إبراهيم عن الرؤية التي رآها، وها هو إبراهيم يطيع أمر ربه مرّة أخرى ويرفع القواعد من البيت العتيق امتثالاً لأمره (وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج/ 26-29).
وفي قصة إبراهيم مع زوج إسماعيل صنف آخر من الطاعة قدمها إسماعيل، إذ استأذن إبراهيم سارة أن يذهب لزيارة هاجر وإسماعيل (ع) فأذنت له، وشرطت عليه ألا ينزل، فوافق وتوجه نحو مكة، وقصد المكان الذي تركهما فيه، فوجد هاجر قد ماتت، ولم يجد إسماعيل (ع)، فسأل امرأته عنه وعن أحوالهما، فأخبرته أن زوجها خرج للرزق، وشكت له سوء الحال، فأخبرها أن تقرئ زوجها السلام وأن يغير عتبة بابه، ففهم الإبن أن والده قد زاره ويأمره أن يطلق زوجته ففعل، وفي الزيارة الثانية لسيدنا إبراهيم (ع) قابلته الزوجة الثانية بترحاب وأدب، ولم تشك سوء الحال وأثنت على الله سبحانه وتعالى، وأحسنت إلى الأب، فأخبرها أن تقرئ زوجها السلام، وتخبره أن عتبة بابه قد استقامت، ففهم الإبن رسالة الوالد، وأنّه طمأنه على حاله وعلى أهله.
أهمية الطاعة: منحنا الله حرِّية الإختيار بين طاعته وعدمها، ووعد من اتّبع طريقه وأطاعه الثوابَ الكثير وجنة عرضها كعرض السماوات والأرض، وطاعة الله تُكسبنا حبه، عن أبي هريرة (رض) قال: قال رسول الله (ص): "إنّ الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه".
كما أنّ الطاعة نتيجة لترتيب الأولويات، فمن كان رضا الله همه وكان رضاه وطاعته من أولوياته فتصبح الأمور أمامه واضحة، ولا يسمح للشك للتواجد في عالمه، ولا يتأثر بالمغريات من حوله، فهو يعرف ما يريد أن يحققه، ويجب أن نركز هنا على نقطة مهمة، وهي أنّ الطاعة يجب ألا تكون تحت رحمة هوى النفس، بل قائمة على العبادة وتكون في اليسر والعسر.
نحتاج أنواعاً أخرى من الطاعة في حياتنا، وخاصة عندما نقوم بعمل جماعي، فتصبح الطاعة – فيما لا يغضب الله – سبباً في نظام العمل والوصول إلى الغاية المنشودة، فالأنانية والتفرد بالرأي يؤديان إلى الفوضى، فاحترام المرؤوس لرئيسه سبب في نجاح العمل، وهنا أيضاً يجب أن نوضح أنّ الطاعة في الإسلام وليدة الطاعة لله عزّ وجلّ ولرسوله (ص)، ولهذا كان الرئيس في الإسلام لا يطاع لذاته ولكن في حدود الشرع.
الطاعة تحتاج إلى مجاهدة النفس، والإخلاص، وبذل الجهد، وضبط النفس، والتخلي عن هوى النفس، وعدم الإستعلاء على الآخرين، ولهذا ستأخذ منّا بعض الجهد والوقت حتى نمارسها ونعلّمها لصغارنا، ولنا مع الصغار وقفة خاصة.
- كيف نعلِّم أبناءنا الطاعة؟
وهنا نقصد بالطفل المطيع، ذلك الطفل الذي يحترم كلام الشخص المسؤول عنه، ويميّز الأوامر التي تصدر له ويقيمها، ومن ثمّ يطببق باحترام ما يُطلب منه، وهذا التدريب على الطاعة يحتاج إلى التدرج في التعليم والإنتقال من خطوة إلى أخرى، ولكن النتيجة تستحق التعب والوقت، وهي تتضمن النقاط التالية:
1- إعطاء أوامر واضحة المعالم: فالكثير من الأوامر التي نصدرها لصغارنا تكون غير واضحة أو غير مفهومة، وعندما يفشل الصغير في تنفيذها نعنفه أو نعاقبه، ولكن الأوامر الواضحة والبسيطة والملائمة لعمره تمكن الطفل من اتباعها وعدم إهمالها، كأن تطلب من ابنك الذهاب للنوم بعد العشاء، فهذا الأمر يعتبر غير واضح، فأنت لم تحدد الوقت وقد يمتد العشاء عنده لوقت متأخر.
2- إعطاء عدد من الخيارات: وهنا علينا أن نراعي احتياجات الطفل إلى جانب أوامرنا أو طلباتنا فنوفق بين الاثنين، فإذا طلبنا منه الدراسة علينا أن نراعي باقي الأنشطة التي يحب أن يمارسها.
3- مراعاة عُمْر الطفل: فالطفل ذو الثلاث سنوات يكون تقبله لتنفيذ الأوامر أقل من الطفل ذي السنوات العشر، ومراعاة عمر الطفل أمر ضروري لمعرفة ماذا نتوقع من الطفل وما نتقبل منه.
4- تقديم الإحترام والتقدير اللازم للطفل: لأنّه سوف يتصرف بنفس الطريقة التي سوف تعامله بها، فإنّنا إن لم نقم باحترامه فلن يحترمنا ولن يحترم عالمنا.
5- مراقبة أوامرك وتعليماتك لصغارك وتقيّمها من ناحية الأنانية: فالطفل يستطيع أن يميّز بين الطلبات التي تخص مصلحته والطلبات التي تحقق رغبات الوالدين بأنانية، كأن تطلب منه الذهاب للنوم رغبة في الشعور بالراحة والهدوء منه، أو أن يكون طلبك لصالحه رغبة منك في أن يحظى بساعات نوم كافية لمزيد من النشاط.
6- مراقبة نبرات صوتك: فالغضب والصوت العالي قد ينتقل لطفلك، وقد يجعله متحفزاً لكل ما تقوله ورافضاً له، ولذلك حاول أن تتحكّم في نبرة صوتك وتتحدّث بهدوء قدر الاستطاعة.
7- محاربة شعور العناد والرغبة في الإنتقام بداخلك: فتلك المشاعر إن تمكَّنَت منك أمام رفض ابنك تنفيذ أوامرك وعدم طاعته لك، ستحولك إلى دكتاتور في نظره.
8- مكافأة الصغار عندما ينفذون أوامرك وطلباتك: فالمكافأة كثيراً ما تفيد أكثر من العقاب والتصرف بسلبية.
9- تقبل طلبات الصغار: وعدم الرفض دائماً، فهذا يعلمهم أنهم كما ينفذون ما يُطلب منهم هناك من ينفذ ما يطلبونه.
10- أمّا طريقة تعليم الصغار تقييم الطلب من حيث موافقته للشرع: فهذا يحتاج إلى تعليمهم ثقافة دينية تتناسب مع أعمارهم، وأن نكون مثلاً حياً لهم يتعلمون منه.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق